أشرنا في الدراسة السابقة إلى أن السلطان عبد الحميد الثاني أصدر عام 1876 مسودة قانونية تحظر بيع أراضي فلسطين لليهود والحد من تواجدهم في فلسطين لمدة تتجاوز الشهر، حسبما ذكر المؤرخ التركي مصطفى أرمغان في دراسته. ولكن قبل الخوض في تفاصيل الحرب السرية الدائرة بين الطرفين، يسلط أرمغان الضوء على العلاقة بين الصهيونية والإمبريالية.
يُؤكّد أرمغان أنه لا يمكن الحديث عن الصهيونية بمنحى عن الإمبريالية العالمية، إذ أن هناك رابطا تنظيميا وفكريا ضخما فيما بينهما، مبينًا أن الباحث السياسي الفلسطيني “إدوارد سعيد” وثلة من الخبراء مثل “عبد الوهاب المسيري” و”غوي باجويت” أكّدوا في دراستهم أن ما تقوم به الصهيونية اليوم ممثلة بإسرائيل هو ما كانت ترنو إليه الإمبريالية مع انتهاء الحرب العالمية الأولى، حيث رأت هذه الدول التي مُنيت بحالة من الضعف الشديد في أثناء الحرب العالمية الأولى ومن ثم الثانية، أن لا سبيل لهم من إبقاء منطقة الشرق الأوسط تحت سيطرتهم إلا من خلال تفتيت الدول العثمانية وأي دولة أخرى يمكن أن تكون قوية في المنطقة، وإنشاء دولة غير متجانسة تتسبب في إثارة حرب مستمرة وتشكل القاعدة العسكرية والسياسية المستمرة للغرب في منطقة الشرق الأوسط.
ويلمح أرمغان إلى أن هذه الجمل البسيطة تختصر العلاقة العضوية بين الصهيونية والإمبريالية، وبريق هذه العلاقة مستوحى من تصريحات ومذكرات مسؤولي الدول الإمبريالية في ذلك العهد، خاصة تصريحات الرئيس الأمريكي آنذاك “هاري ترومان” الذي لطالما دعا الدول الغربية إلى دعم كافة الخطوات التي تهدف إلى تأسيس دولة إسرائيل في منطقة الشرق الأوسط.
مناهضة السلطان عبد الحميد الثاني للتحركات الصهيونية
وقف السلطان عبد الحميد الثاني سدًا أمام الأهداف الصهيونية والإمبريالية، وسعى جاهدًا، خلال فترة حكمه، إلى المحافظة على كل شبر من تراب الدولة العثمانية، وتميز عن السلاطين الذين جاؤوا من بعده برباطة جأشه وذكائه وقدرته على متابعة أعمال الدول الغربية من خلال جهازه الاستخباراتي الأقوى حينذاك.
ويوضح أرمغان أن المؤتمر الصهيوني الأول عُقد في مدينة بال السويسرية بتاريخ 29 آب/ أغسطس 1897، إلا أن السلطان عبد الحميد الثاني كان ملما بالخطط الصهيونية منذ سبعينيات القرن التاسع عشر، وذلك بفضل المعلومات التي كان يحصل عليها جهازه الاستخباراتي المنتشر في أنحاء أوروبا، ولردع أي تحرك صهيوني في فلسطين أصدر عام 1876 مسودة حظر استملاك اليهود للأراضي في فلسطين أو الهجرة إليها أو البقاء بها لمدة زمنية تتجاوز الشهر، كما سبق هذه المسودة قانون عام 1883 يقضي بتحويل 80% من أراضي فلسطين إلى أراضي وقفية، ويمكن للجميع الحصول على هذه المسودات من مركز الأرشيف الموجود في قصر الباب العالي بإسطنبول.
ويبيّن أرمغان أن الحرب الضمنية بين الصهيونية والسلطان عبد الحميد الثاني لم تبدأ فعليًا بإصدار السلطان للمسودة القانونية، بل بدأت عقب رفضه التعاطي مع رئيس الحركة الصهيونية “ثيودور هرتزل” والقبول بعرضه الذي نص على منح السلطان عبد الحميد الثاني قسما من أرض فلسطين مقابل قيام الحركة الصهيونية بسداد كافة ديون الدولة العثمانية.
وينقل أرمغان الحوار الذي جرى بين السلطان عبد الحميد وهرتزل كما يلي:
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
“أقنع هرتزل صديقه مستشار السلطان عبد الحميد الثاني “نيوزلينسكي”، في حزيران/ يونيو 1896، لترتيب لقاء بينه وبين السلطان عبد الحميد الثاني، ولكن لم يتم هذا اللقاء بشكل مباشر كما تنقل بعض الروايات، بل عرض نيوزلينسكي عليه التوسط بينهما، فقبل هرتزل بذلك وقال لنيوزلينسكي إنه في حال سمح السلطان عبد الحميد لليهود بالهجرة إلى فلسطين وتأسيس وطن لهم، فإن اليهود سيسدّدون في المقابل كافة ديون الدولة العثمانية، والتي قدرت آنذاك بـ20 مليون جنيه سترليني”.
ويضيف أرمغان أن “السلطان عبد الحميد الثاني غضب على نيوزلينسكي وطلب منه نقل الرسالة التالية:
“إذا كان هرتزل يحترم الدولة العثمانية ويخشى العاقبة فليحذر من تقديم هذا العرض علينا مرة أخرى، لا استطيع بيع أي شبر من الأرض، لأنها ليس ملك يميني، بل ملك شعبي. لقد ناضل شعبي في سبيل هذه الأرض ورواها بدمه. ومستعدون شعبًا وحكومةً للدفاع عن هذه الأرض حتى الرمق الأخير. لا نحتاج للملايين اليهودية. سندافع عن فلسطين بدمائنا، ليأخذوها بهذا الشكل إن استطاعوا”.