أشرنا في السلاسل السابقة إلى أن ثيودر هرتزل وفد إلى إسطنبول أكثر من 5 مرات خلال عامي 1896 و1902، ليعرض على السلطان عبد الحميد الثاني مجموعة من العروض المغرية التي يمكن لها أن تُقنعه في قضية السماح لليهود بالقدوم من شتى أنحاء العالم إلى فلسطين والإقامة بها، وعلى الرغم من أن الزيارات الأربع لثيودر هرتزل باءت بالفشل، إلا أنه لم ييأس وعاد في يوليو من عام 1902 للمرة الخامسة على التوالي، لتقديم عروض جديدة تسهم في إقناع السلطان عبد الحميد الثاني.
وفيما يتعلق بهذه الزيارة، يوضح أرمغان أن السلطان عبد الحميد الثاني استعان بهيئة فرنسية يرأسها وزير الدولة الفرنسي “موريس بيير روفييه” ليقوم بإعداد خطة مالية تنقذ الدولة العثمانية من أزمتها المالية، وتوفر لها مصادر تشغيلية تساهم في توفير مصادر مالية مستدامة، مضيفا ً أنه وبينما كانت الهيئة تعمل على إعداد الخطة المعنية، قدم هرتزل وعرض على عبد الحميد تقديم خطة اقتصادية ناجعة تُجريها الهيئة الفرنسية، مقابل السماح لليهود بالهجرة إلى مناطق ما بين النهرين وحيفا فقط.
وردا ً على هذا العرض، يبيّن أرمغان أن بلاط القصر سئم من إصرار هرتزل ومراوغته، ولكن عبد الحميد الثاني كان لا يريد أن يخسر الهيئة وخططها الاقتصادية، فاستقبلها بحفاوة وأكرم مثواها، ووقع اتفاقية معها، ولم يستجب لهرتزل، وأمر الهيئة بعدم التعاطي معه إطلاقا.
ويُشير أرمغان إلى أن هرتزل أيقن بعد ذلك أن باب القصر العثماني الذي استقبله وسمع منه لخمس مرات، أصبح موصدا ً أمامه وإلى الأبد، مبينا ً أن هرتزل حول قبلته من الدولة العثمانية إلى الإمبراطورية البريطانية التي ستحقق له ولجماعته الصهيونية الكثير من الإجراءات التي يصفها الكثير بالجائرة بحق الشعب الفلسطيني الأعزل.
ووفقا ً لما يورده أرمغان، قبل رحيل هرتزل من إسطنبول كتب التالي في كتاب ملاحظته “سيأتي اليوم الذي ينحني به الأتراك تحت أقدامنا مثل المتسولين، وسيندمون في حينها على ما اقترفوه من خطأ فادح بحق اليهود”.
تعليقا ً على هذه الأقوال، يوضح أرمغان أن أقوال هرتزل توحي بالغضب الشديد والتوعد للدولة العثمانية بالثأر، مشيرا ً إلى أن الصهاينة قاموا عقب ذلك بتأسيس مجموعة عسكرية سرية تحت اسم “مجموعة الانتقام”، وترتبت المهام الأساسية لهذه المجموعة التي كان السلطان عبد الحميد على علم بها ولكن لم يتمكن من صدها، على النحو الآتي:
ـ تسهيل عملية هجرة اليهود إلى فلسطين بشكل سري جدا ً، ووضعهم داخل فلسطين في مناطق متناثرة، لكيلا يتمكن الجيش العثماني من القبض عليهم وترحيلهم.
ـ الاتفاق مع جهات مناهضة للسلطان عبد الحميد الثاني، لعزله عن مقاليد الحكم، وبالتالي إزالة العامل الأقوى في صد اليهود عن الولوج إلى فلسطين، “ولا يمكن تقييم الفوضى العارمة التي أصابت الدولة العثمانية في السنوات الأخيرة للسلطان عبد الحميد الثاني على أنها أحداث جاءت بمحض الصدفة، ولا تمت بأية صلة إلى خطط ودسائس الصهيونية التي لاقت الدعم الوفير من قبل الإمبراطورتين البريطانية والروسية اللتين كانتا تعتبران الدولة العثمانية العدو اللدود الذي يقف أمام خططهم التوسعية”، “أرمغان”.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
ـ كسب التعاطف الأوروبي والعالم للضغط على الدولة العثمانية أو حتى القضاء على سيطرتها على فلسطين بشكل كامل، “وتحقق ذلك بشكل فعلي بفضل النشاط الحيوي الذي بذله “حاييم وايزمان” الذي حمل الراية بعد ثيودر هرتزل المتوفي عام 1904، والذي أظهر نشاط حيوي داخل أروقة قصر الإمبراطورية البريطانية التي أبدت استعدادها لمساندة اليهود في تأسيس دول يهودية داخل فلسطين من خلال إعلانها وعد بلفور بتاريخ 2 نوفمبر 1917، وتوالت حملات الدعم الوفيرة بالسماح لليهود بالهجرة إلى فلسطين والسماح لهم بالإقامة في مناطق متفرقة داخل فلسطين، ومن ثم التواطؤ الواضح معهم في أكثر من جريمة وتحرك سياسي مخالف للأسس الانتداب الذي كانت قائمة عليه في فلسطين، واستمر هذا الدعم حتى تم تأسيس الدولة اليهودية بتاريخ 14 مايو 1948″، “أرمغان”.
ويخلص أرمغان دراسته عن محاربة السلطان عبد الحميد الثاني للصهيونية بالإشارة إلى أن السلطان عبد الحميد بذل كافة جهوده للقضاء على أية خطة “تهويدية” لفلسطين والأراضي المقدسة، ولكن تكالب الأعداء الخارجيين والخصوم الداخليين عليه حال دون تمكنه من الاستمرار في حمايتها وتسليمها أمانة لمن يمكن له حماية من بعده، بل عُزل عنوة ً عن السلطنة، وخطفتها منه مجموعة لم تحمل الأمانة وساهمت ليس فقط في إضاعة فلسطين بل تفتيت كافة أواصر الدولة العثمانية.