الإرهاصات الأولى لمأساة الأندلس
في السابع عشر من تموز/يوليو عام 1212 ميلادي وقعت أكثر المعارك الحاسمة والفاصلة في تاريخ (شبه الجزيرة الإيْبِيرِيّة)، الأندلس، وهي معركة “العقاب”، بين معسكري الموحدين وتحالف صليبي الذي تمكن بقيادة ألفونسو الثامن ملك مملكة قشتالة من اختراق صفوف الموحدين التي قدرت وقتها ما بين 300 ألف إلى نصف مليون مقاتل بقيادة سلطان الناصر وهزيمتهم، ففر على إثرها السلطان الناصر مكرهاً بعد أن رأى بأم عينه هزيمة جيوشه الجرارة نحو إشبيلية ومن ثم إلى عدوة المغرب.
ولم يمض عام على هزيمة العقاب حتى توفي السلطان الناصر ألماً وحزناً عام 1213 ميلادي، وبوفاته بدأت مرحلة جديدة في تاريخ دولة الموحدين في المغرب والأندلس، سمتها انحدار دولة ودخولها في حالة من اضطرابات وفوضى عارمة؛ إذ خلفه في الحكم عدد من السلاطين الضعاف الذين لم يكونوا على مستوى الأحداث والتطورات الخطيرة في كل من المغرب والأندلس.
أولهم السلطان الموحدي أبو يعقوب يوسف المستنصر بالله الذي لم يكن كفئاً لهذا المنصب، بل كان منغمساً في اللهو والترف مولعاً بتربية الأبقار والخيول، وترك إدارة شؤون الأندلس إلى ثلاثة من أعمامه، وهم؛ أبو محمد عبد الله عادل الذي تولى (شرق الأندلس)، وأبو الحسن الذي تولى غرناطة (جنوب الأندلس)، وأبو العلاء إدريس الذي تولى قرطبة (وسط الأندلس)، وانتهى المطاف بالسلطان أبو يعقوب أن مات مقتولاً بعد أن هاجمته إحدى الأبقار بقرنيها في موضع القلب فتوفي على إثرها عام 1224 ميلادي.
فتولى من بعده عبد الواحد المخلوع الذي لم يمض على حكمه سوى شهرين حتى ثار عليه أبو محمد عبد الله عادل والي (شرق الأندلس)، فخلعه وتولى مقاليد الحكم بدلاً منه إلا أنه سقط قتيلاً بعد أربعة أعوام قضاها في وأد الفتن والاضطرابات التي ضربت ربوع دولة الموحدين في عام 1227 ميلادي، فأعقبه أخوه أبو العلاء إدريس والي قرطبة الذي لقب بالمأمون، فاستبد بأمور الحكم والدولة وأعدم عدداً من كبار قادة الموحدين ومشايخهم، وسمح بسابقة خطيرة تعتبر الأولى من نوعها لجماعة من مسيحيي قشتالية ببناء أول كنيسة في مراكش.
ثورة بن هود
وأمام هذه التطورات التي تعصف بدولة الموحدين سرت روح السخط والغضب وعدم الرضا بين القبائل المغربية وقادة الموحدين، فاشتعلت نيران الثورة في المغرب ضد المأمون، خاصة بعد السماح ببناء كنيسة للقشتاليين في مراكش، وعلى إثرها وتباعاً دخلت الأندلس هي كذلك في حالة من فوضى عارمة ساهمت بشكل أو بآخر في ضعف سيطرة الموحدين على الأندلس شيئاً فشيئاً.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
وفي أتون هذه الفوضى ظهر بمنطقة يطلق عليها الصخيرات في شرق الأندلس قرب مدينة مرسية، أمير من سلالة بني هود يسمى (محمد بن يوسف بن هود) وهو مـن أحفاد بني هود الذين حكموا سرقسطة إبان حكم ملوك الطوائف سابقاً، فأعلن ثورته ضد الموحدين في الأندلس عام 1227 ميلادي، وأمام استفحال ثورة بن هود قام والي مرسية بمحاولة للقضاء على ثورته إلا أنه هُزم فلاحقه بن هود حتى مرسية واستولى عليها.
على إثر سقوط مرسية، زحـف والي شاطبة إحدى مدن شرق الأندلس لوأد ثورة بن هود إلا أنه هُزم هو الآخر، فسارع للاستنجاد بالسلطان المأمون الذي تمكن من هزيمة بن هود ولاحقه حتى حاصر حاضرته مرسية إلا أن الحصار فشل لمنعة المدينة.
وحتى يستميل بن هود الأندلسيين حوله دعاهم إلى وجوب العمل على تحرير الأندلس من نيران الموحدين والنصارى معاً، لا سيما بعد أن تحالف السلطان المأمون مع قشتاليين، وتنازل لهم عن عدد من الحصون والأراضي الأندلسية، فاندفع الأندلسيون الحانقون على الموحدين إلى الانضواء تحت لوائه، وحتى يحصل على الشرعية التي تمكنه من دعم حركته، دعا للخليفة العباسي المنصور المستنصر بالله على منابر الأندلس، بل راسل الخليفة العباسي في بغداد وأعلن تبعية الأندلس للعباسيين، وبدوره بعث الخليفة موافقته على تبعية بن هود الذي لقب نفسه بـ(المتوكل).
وهنا سارعت المدن الأندلسية وحواضرها إلى الدخول في طاعة بن هود كقرطبة (وسط الأندلس) وبطليوس (غرب الأندلس)، ثم استطاع أن يستولي على غرناطة (جنوب الأندلس) في عام 1231 ميلادي، وعلى إثر ثورة بن هود بدأ الموحدون بالانسحاب من الأندلس إلى المغرب بعد خروج أغلب حواضر الأندلس عليهم، كان آخرها إشبيلية حاضرة الموحدين والجزيرة الخضراء بوابة الأندلس الجنوبية اللتين سقطتا بيد بن هود.
وعلى رغم من سيطرة بن هود على القسم الأكبر من الأندلس إلا أنه لم يهنأ بذلك؛ إذ سرعان ما بدأت تسقط مدن الأندلس تباعاً بيد القشتاليين كماردة وبطليوس، وكذلك تفجر في وجهه عدد من الثورات من الأندلسيين أنفسهم على رأسهم بن مردنيش الذي كان في وقت سابق قد ثار على بن هود في شرق الأندلس، واستولى على مدينة بلنسية من واليها الموحدي الذي يدعى أبو زيد الذي فر بدوره إلى ملك أراغون خايمي الأول، وعقد معه معاهدة يتعهد فيها بأن يسلمه ما بيده من حصون، بل وصل بهذا الفار إلى أن ارتد عن الإسلام واعتنق المسيحية.
في الوقت نفسه الذي كان بن هود يحشد الحشود للوقوف أمام تطلعات بن مردنيش الانفصالية وتقدم القشتاليين واستيلائهم على عدد من المدن والحصون الأندلسية، ظهر على مسرح الأحداث ثائر جديد وهو (محمد بن يوسف بن نصر) المعروف بابن الأحمر ومؤسس مملكة غرناطة التي ستكون في وقت لاحق الملاذ الوحيد والأخير للأندلسيين؛ إذ سرعان ما عمت ثورته أرجاء جنوب الأندلس مستولياً على غرناطة وملقا ووادي آش وقرمونة والجزيرة الخضراء.
هنا شعر بن هود بخطر ثورة بن الأحمر فتحرك للقضاء عليها إلا أنه هزم في أول مواجهة مع بن الأحمر في معركة وقعت بينهما بالقرب من إشبيلية عام 1234 ميلادي، وبعد ذلك مال الطرفان إلى الصلح بعدما أدركا حجم الخطر الذي يمثله القشتاليون على الأندلس، فتفاهما على أن يدين بن الأحمر بالطاعة إلى بن هود، في المقابل يقر بن هود لابن الأحمر بما استولى عليه من مدن وحصون في جنوب الأندلس.
سقوط حواضر الأندلس
في ظل الثورات والفوضى التي ضرب ربوع الأندلس وانسحاب الموحدين بعد هزائمهم المتلاحقة، كانت الممالك المسيحية وعلى رأسها مملكة قشتالة تراقب الوضع عن كثب، وتسير بخطى ثابتة للاستحواذ على حواضر ومدن وحصون؛ إذ تحرك ملك قشتالة فرديناند الثالث لقضم ما يتيسر له من الأندلس، فتصدى له بن هود على ضفاف نهر وادي لكة في عام 1234م إلا أن بن هود هزم هزيمة نكراء على الرغم من التفوق العددي لقواته.
فتحت هذه الهزيمة الطريق أمام القشتاليين لحصار مدينة قرطبة (وسط الأندلس) وتطويقها، فاستغاث أهلها بابن هود لِنجدة مدينتهم بحكم أنها تدين بالطاعة له وهو سيدها الشرعي إلا أن بن هود لما علم بتفوق الجيش القشتالي أعرض عنها، وتوجه نحو مدينة بلنسية لمساعدة خصمه بن مردنيش لفك حصار خايمي الأول ملك أرغون عليها، وأمام تخلي بن هود عن قرطبة ضاق الحال بأهلها، فأجبروا مكرهين على تسليم مدينتهم للقشتاليين في 29 حزيران/يونيو عام 1236م، ولم يمض وقت طويل على سقوط قرطبة حتى توفي سلطان الأندلس الأخير بن هود في عام 1237م بمدينة ألمرية (شرق الأندلس) دون أن يستطيع فك الحصار عن بلنسية.
وأمام عدم وجود قيادة أندلسية حكيمة قادرة أن تحل محل بن هود والوقوف أمام أطماع القشتاليين والأراغونيين سقطت مدن الأندلس تباعاً واحدة تلو الأخرى؛ إذ استولى الأراغونيون على بلنسية عام 1238 ميلادي بعد مقاومة شرسة ثم شاطبة، ولحقت بهما مدينة مرسية آخر معاقل شرقي الأندلس التي سقطت بيد القشتاليين عام 1243 ميلادي، أما عن بن الأحمر الذي حوصرت مدينته وعاصمته غرناطة في عام 1244م فقدم فروض الطاعة والولاء للقشتاليين مكرهاً، بل وصل به الأمر للمشاركة وتقدم الدعم اللازم للقشتاليين من جند وعدة في حصارهم لإشبيلية التي سقطت عام 1248م، وهكذا ضحى بن الأحمر بإشبيلية واستقلاله السياسي مقابل أن يحفظ ثغره اليتيم وهو مملكته الصغيرة والضعيفة في جنوب الأندلس من مصير باقي حواضر الأندلس.
وقد ضربت هذه التطورات الاخيرة والأحداث المأساوية المجتمع الأندلسي في مقتل، فكان كلما سقطت إحدى الحواضر والمدن والحصون نزح أهلها من مثقفين وأرستقراطيين وأهل الصناعات والحرف إلى مملكة غرناطة، وبعضهم الآخر نزح نحو عدوة المغرب كتونس والجزائر والمغرب، أما عوام الأندلسيين وفقراؤهم الذين سموا فيما بعد بـ(المدجنين) فآثروا البقاء تحت نيران حكم قشتالي وأراغوني وأصبحوا أقلية مستعبدة في بلادهم، وقد حاول المدجنون الحفاظ على دينهم وعاداتهم وتقاليدهم الإسلامية في ظروف غاية صعبة، وضعفت مع مرور الأعوام لغتهم العربية حتى أصبحوا فيما بعد يكتبون كتاباتهم ورسائلهم بلغة قشتالية أو كتلانية أو أراغونية.