لا تزال لوحاته المتدفقة بلهفة الحياة، ودفء الأنوار المنسابة من شلالات الشمس، الساطعة بالأغواط، ووجوه البدو الضاحكة في واحات بسكرة، والنساء السعيدات في وادي المياه ببوسعادة خلسة تحت سطوة جبل كردادة، تصنع الحدث في عواصم العالم، رغم مضي زهاء القرن عن رحيله المدوّي.
أما في باريس عاصمة الفن والأنوار فلا تفتأ أعماله، مثل ” شهيد العشق” و”معركة حول درهم” تباع في دار غرو الشهيرة، بمبالغ فلكية، وبمليون يورو للوحة الواحدة، جالبة الثراء الفاحش لمدير الدار هنري غرو. فيما لا تقل أدنى لوحاته عن 30.000 يورو، ما يدل على أن رحلة عمره لم تكن اعتباطية، ففنه الخالد منحه، شأنه شأن العظماء، حياة عابرة للتاريخ والزمن.
أما هو، فكان يترك، سنوات قبل وفاته، وصية مؤثرة كتبها في فندق الواحات بالعاصمة، إلى صديقه وحبيبه سليمان بن إبراهيم الميزابي، جاء فيها: “يا ابننا إذا ما توفاني الله بباريس فأطلب منك أن تنقل جثتي لأدفن في مقبرة المسلمين ببوسعادة، وأما إذا تعذر عليك ذلك، فأرجو أن تنشئ لي قبراً هناك وتدفن فيه قطعاً من لباسي في موضع بدني ليعلم الناس أنني مسلم مات وقد نطق بالشهادتين أمام الملأ”.
وأنت تلج منزله المحلي العتيق بحي الموامين، سيخطف نظرك بيت شعري شهير، منسوب تارة لعلي بن أبي طالب، وأخرى لأبي الفضل البصري العباسي، كان استهواه فكتبه في زخرفة جدارية:
فَاِرحَل فَأَرضُ اللَهِ واسِعَةُ الفَضا ** طُولاً وَعَرضاً شَرقُها وَالمَغرِبُ
وحقاً، ظل إيتيان ديني يرحل باستمرار حول الحياة والناس وفي داخل ذاته حتى لمّا فارق الدنيا ترك وراءه فناَ لا يزال يمضي في الفضاء طولاً وعرضاً ومن شرق الدنيا إلى مغرب العالم.
1/ ولد في فمه ملعقة من ذهب وفضل عليها فرشاة في اليد
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
في ربيع 1861 استقبلت عائلة ديني البورجوازية مولوداً جديداً في منزلها الواقع في شارع الحدائق الصغيرة بباريس، فسماه الأبوان فيليب ليون وماري أوديل بوشي، ألفونس إيتيان، لكن الولد سيترعرع في بلدة إيريسي جنوب باريس داخل قصر بديع، تتوسطه حدائق شاسعة وأشجار وغابة، غير بعيد عن غابة النافورة الزرقاء، وعلى مقربة من ضفاف نهر السين الخالد، حيث درج يلعب ويلهو في صباه مع شقيقته ومخزن أسراره جان التي ولدت بعده عام 1865.
لوحظ أن الطفل كان يهوى الصمت والعزلة والانطواء، ويعشق الرسم منذ نعومة أظافره، فيعكف لساعات طويلة منكباً على الفرشاة والمرسم محاكياً الطبيعة والمناظر والوجوه، ولم يكن ذلك يروق لوالده فيليب الذي كان قاضياً مرموقاً ينتمي، كما زوجته، لعائلة نبيلة، الذي كان يطمح إلى أن يهيئه لمنصب وظيفي يليق بالسمت الأرستقراطي للسلالة؛ لذا فقد سارع لتسجيله في ثانوية هنري الرابع لما بلغ عشراً، وكان يرتجي من ذلك أن يؤهله في مدرسة النبلاء تلك لأن يرث المجد البرجوازي.
غير أن الطفل الذي وُلد في شارع باسم الحدائق وترعرع في قصر بديع على حواف النافورة الزرقاء ونهر السين، كان ملهماً من قِبل الطبيعة ثم مهتماً برغبته الخاصة في أن يصبح رساماً، فكان لزاماً أن يخوض حرباً مع والده كي يكرس رغبته في الالتحاق بمدرسة الفنون الجميلة، بعد أن تفهمت والدته تلك الإرادة الذاتية، لما عرف عنها من تقدير للفنون.
انتمى الشاب لأكاديمية جوليان، متتلمذاً على يد رسام كبير هو بوغرو، بيد أنه كان يضع نصب عينيه طريقة رسم جديدة تنتمي للمدرسة الواقعية، التي تنطبع بمشاهد الحياة الحقيقية للطبيعة والبشر.
زار إيتيان ديني الجزائر عدة مرات، وتحديداً عام 1883، فجاب منطقة الأغواط وعاد منها بلوحة توّجت بجائزة، من صالون الفنون لقصر الصناعة الفرنسي عام 1884م، قبل أن يكرر فوزه بميدالية أخرى عام 1889 نظير لوحات كان التقطها بين مدن بوسعادة والأغواط وبسكرة.
لم يكن ألفونس وهو يتلقى سيل الإشادات والجوائز بباريس يفكر سوى في رحلة أخيرة للاستقرار بمدينة “السعادة” بوسعادة الواقعة جنوب العاصمة على بُعد 250 كلم، وما من شك فقد عثر هذا الفنان الانطوائي على عالمه الخاص في هذه الحياة الصامتة المترامية الأطراف في الصحراء، فقرر التماهي فيها.
2/ ترك قصر إيريسي بباريس واشترى بيتاً عربياً ببوسعادة
ثمة قصة عشق كبيرة بين إيتيان ومدينة بوسعادة، التي ستغدو منذ 1989 معاشه ومرسمه. فظل يجوبها، رفقة صديقه المقرب سليمان بن إبراهيم باعمر، حاملاً آلته الفوتوغرافية، ناقلاً الواقع الإثنوغرافي والطبيعي للحياة، فرسم الطبيعة ثم دنا من ثقافة الجسد والإيروسية، فأنتج لوحات نساء عاريات وراقصات ومشاهد عشق بين الجنسين، اختلسها من حياة اجتماعية مغلقة بالتقاليد والدين والأعراف، بالموازاة مع تأليفه روايات وقصصاً شعبية أشهرها في المجال “خضراء راقصة أولاد نايل” التي كانت غانية ملهى ليلي تعرف عليها، ورددت أساطير أنها كانت سبباً في ربطه بتلك المدينة فعشق الاثنتين معاً، غير أن الصحفي والكاتب الروائي سعيد خطيبي ابن بوسعادة يفسر ويفند و”يرجع استقرار إيتيان ببوسعادة لأمرين أساسيين، هما أن المدينة كانت بلدية مختلطة بمعنى أنها ليست منطقة عسكرية، ما أتاح له الاستقرار بها لممارسة عمله، أضف إلى ذلك لقاءه بصديقه ورفيقه ودليله سليمان بن إبراهيم.
أما قصة الراقصة خضراء فهي كانت مومساً تسمى زيدانة وألَّف عنها بدافع الصداقة لا غير، ذلك أنه لم تكن له ميول نحو النساء، حسب شهادات الناس خلال تلك الفترة. شاع أيضاً أن يهوداً حاولوا الاعتداء عليه عندما أراد تصوير نساء في الوادي، وهذا غير صحيح البتة، لقد تعرض لمحاولة سرقة بيته من طرف لصوص، والواقعة موثقة في أرشيف الشرطة الفرنسية”.
فضَّل إيتيان ديني شراء دار عربية للإقامة فيها رفقة صديق العمر سليمان بن إبراهيم، ومنها كانا ينطلقان لمطاردة الأنوار والرمال والشمس والظلال وتقفيا آثار الحياة الاجتماعية، ولسوف يبدع الرسام الفرنسي في رسم لوحات واقعية تنبض بالدفء والبهجة رغم قساوة الحياة البدوية، فاقت مئتي لوحة وقاربت الخمسمئة، ولعل ذلك ما أثار فيه تساؤلات روحية عميقة حول طيبة هؤلاء البوسعاديين الذين تقبلوه بينهم رغم كونه فرنسياً مسيحي الديانة، ثم ممارستهم الفرح رغم شظف العيش.
سيجسد في لوحاته مقاطع مذهلة عن صراع أطفال حول حبة مشمس، وخصومة أطفال حول درهم، أطفال يتلقون الفلقة في كتاب القرآن، فتيات يلعبن لعبة تقليدية، نساء يحملن الغلال في واحة، بدوي في خلوة حميمية مع امرأته، حاوي يروّض ثعباناً في الأسواق. وبوعي أو دونه كان الرجل يقترب من هذا العالم الاستشراقي المبهر، الممزوج بالتساؤلات الوجودية، قبل أن ينغمس بالكلية في واقع كان يمتص ألوانه ويترك فيه جزءاً من روحه.
3/ حجّ إلى مكة وتعرض لحملة شرسة وحصار فني رهيب بعد إسلامه
لم يكن ذلك الفرنسي الذي ألَّف قصة عن عنترة بن شداد العبسي بعيداً عن التساؤلات الروحية العميقة، فبدا أن رفيقه الإباضي منح له مفاتيح الإلمام بالحياة الاجتماعية والتقاليد والدين فأصبح متحكماً في الفهم والتحليل، ثم بدأ رحلة عميقة داخل ذاته، فتعلم العربية المحكية حتى أتقنها، قبل أن يفاجئ الجميع وبعد سنوات مديدة قضاها في التدبر والتفكير بالانتماء نهائياً لهذا المجتمع فأعلن اعتناقه الإسلام أمام رؤوس الأشهاد بحول عام 1913، مقرراً تغيير اسمه من ألفونس إيتيان إلى ناصر الدين مبقياً على اسمه العائلي. وبقدر ما تهلل الناس بذلك الخبر الذي توّج علاقة محبة وتآلف، فإنه سيعرضه لحملة شرسة بباريس جراء خطوته غير المتوقعة، فكان عليه أن يواجه تخلي رفاقه الرسامين عنه، ومقاطعة لوحاته وحرمانه من الجوائز التي كان يكتسحها، فيما مضى، دونما عناء بموهبته الخارقة.
بعد اعتناقه الإسلام اقترب من العوالم الروحية الخالصة للدين عبر مظاهره الاجتماعية، فرسم المساجد، وبدواً يترقبون رؤية هلال رمضان، ورُحّلاً يؤدون الصلاة، ورجلاً يرفع يديه بالدعاء صوب السماء، وفي اتساق مع ذلك كان يؤلف رفقة صفيه سليمان كتباً عن حياة الرسول محمد “صلى الله عليه وسلم”، ثم عندما انتهت الحرب العالمية الأولى كان من المطالبين برد الاعتبار للجنود المسلمين الذي قُتلوا دفاعاً عن فرنسا، فكان من أول الداعين لبناء مسجد باريس، فأشرف على بعض أشغاله من خلال الزخرفة والاستشارة الفنية.
كتب ديني مؤلفاً عن الحج الذي طالما شغف به، منذ اعتناقه الديانة الاسلامية ، فظل مترقباً “سفرية العمر” معداً العدة لها، على مدار ست عشرة سنة، ثم لمّا كتبت له خطوات تلك الرحلة العظيمة، شق الطريق رفقة رفيقه سليمان في قافلة نحو مدينة القرارة بوادي ميزاب قرب غرداية، وقد خلدها في لوحة عظيمة سميت “الانطلاق نحو مكة”.
لم ينقضِ موسم الحج لعام 1929 حتى أتم الركن الخامس، فأداه في سرور بالغ قبل أن يعود إلى الجزائر بعد أشهر من المسير منهك القوى خائر الصحة إزاء ما تعرض له من مشقة وإنهاك طوال شهور.
4/حظي بجنازة شعبية غفيرة وصار منزله متحفاً قومياً
في 1 مارس/آذار 1915، عامان بعد تحوله للإسلام، وقبل تسع سنين عن رحليه، كتب رسالة خطية لصفيّه سليمان بن إبراهيم موصياً بدفنه بتراب تلك الأرض التي أحبها وأحبته، وتحت ثرى ألوانها الغضارية الصفراء الشبيهة برمال الصحراء، مكلفاً شقيقته جان بالحرص على تنفيذها، قبل أسابيع قبل أن يلفظ نفسه الأخير بباريس، في 24 ديسمبر/كانون الأول 1929.
أقيمت له جنازة عظيمة وحاشدة حضرتها شقيقته وخليله الميزابي وأبَّنَه الحاكم العام الفرنسي، ثم تهاطل البسطاء لإلقاء النظرة الأخيرة على الحاج ناصر الدين ديني، الذي كان كرس جزءاً من علاقاته في الدفاع عن مصالحهم، والتكفل بانشغالاتهم لدى السلطات الاستعمارية، ثم انصهر معهم في العادات والدين والحياة ونقل عنهم صوراً واقعية جديرة بالحياة، عكست دواخل وروح السكان لا مظاهرهم الخارجية الخالية من المعنى.
ولسوف يبذل رفيقه الميزابي الحاج سليمان بن برهيم باعمر رفقة الشيخ إبراهيم بيوض إمام الجماعة الإباضية الغالي والنفيس من أجل تخليد رفيقه عبر متحف بالمدينة يليق برحلته الحياتية والفنية الطويلة، فباع أملاكه التي ورثها إياه لشيخ الإباضيين، ثم تنازل عنها هذا الأخير للدولة الجزائرية بعد الاستقلال لتتحقق تلك الأمنية سنه 1993. أقيم له متحف في تلك الدار التي سكنها لثلاثة عقود، فصارت تحمل اسم المتحف العمومي الوطني ناصر الدين ديني، فتحولت المؤسسة إلى مزار يقصده السياح والفنانون والسفراء والكتاب والشعراء.
أما سليمان بن إبراهيم، الذي توفي سنة 1953 دون أن يرى أمنية الوفاء أمام ناظريه، فقد شاء له القدر أن يرقد إلى جوار صديقه في مقبرة هيئت على شكل قبة معمارية بيضاء، ليجاوره في الموت كما لازمه في الحياة.
5/ملوك ورؤساء يشترون لوحاته وجزائريون يطالبون باسترجاع تركته
يلخص الكاتب سعيد خطيبي حياة دينيه: “هو فنان مهم من الناحية الفنية، وكناشط أيضاً، إذ يعود له الفضل في تشييد فيلا عبد اللطيف بالعاصمة التي لا تزال موجودة إلى الآن. كما له فضل في ترويج الفن وفي الكتابة والتوثيق، لكن المشكلة الوحيدة أنه اندرج في السياق الاستشراقي، في تتبع مواضيع متعلقة بالنور، والنساء، والصحراء، متغاضياً عن فكرة أنها تحت الاستعمار”.
وإلى اليوم لا تزال شخصيات عالمية تتهافت على شراء إبداعاته الكثيرة، بمبالغ خيالية، فكثير من تلك النفائس اقتناها الرئيس بوتفليقة، والعائلة الملكية المغربية والأثرياء القطريون والتونسيون والمصريون، وإلى اليوم أيضاً، لا تزال صورة رجل يرفع يديه بالدعاء ترافق رؤساء الجزائر من هواري بومدين إلى عبد المجيد تبون، في الرواق المخصص للتصوير وإلقاء الخطب الموجهة للأمة.
لقد جاء إلى قصر المرادية زعماء ورحلوا جميعاً وبقيت رسمة الحاج ناصر الدين ثابتة في الجدار.
ومع ذلك، لا يحتوي متحف بوسعادة ولا متحف الجزائر العاصمة إلا على نزر قليل من أعماله وأرشيفه، ما بات يتطلب مشروعاً وطنياً ضخماً لاسترداد كل اللوحات التي نقلت إلى فرنسا، وصارت “غنيمة” و”عملة صعبة” يتقاسمها أثرياء العالم وجامعو اللوحات الذين يتعاملون مع دور البيع بالمزاد تحت طائل “السرية المهنية” تماماً كملاك الحسابات المحمية في البنوك السويسرية.