وسط كومة من الوثائق التاريخية التي تعود إلى عصر الدولة العثمانية، خصوصاً عهد السلطان سليمان القانوني؛ عثر المؤرخ التونسي عبدالجليل التميمي على وثيقة تعود إلى المسلمين الموريسكيين أو مسلمي الأندلس في غرناطة، مرسلة للسلطان العثماني، يستنجدون به ليوقف الحملة ضد المسلمين في الأندلس على يد القشتاليين. ومنذ أن عثر التميمي على هذه الوثيقة تبدلت حياته ليصبح أحد مؤسسي ما يعرف بـ”الموريسكولوجيا”، وهو علم دراسة أحوال المسلمين الأندلسيين في عصر ما بعد سقوط الأندلس.
وُلد ونشأ عبدالجليل التميمي في مدينة القيروان -في تونس- التي أسَّسها عقبة بن نافع لتكون قاعدة لانطلاق الفتوحات نحو الأندلس، ومن القيروان مرة أخرى انطلق التميمي الذي كان بمثابة قاعدة نحو فتح آفاق جديدة وكبيرة لتاريخ المسلمين الموريسكيين غير المعروف.
كان التميمي مؤرخاً ومتخصصاً في تاريخ العثمانيين، ثم أصبح أحد أكبر المؤرخين في الشأن الموريسكي، بل أسس علماً خاصاً بذلك الشأن (الموريسكولوجيا)، وعمل على إحياء قضايا الموريسكيين حول العالم مع الكثير من العلماء والمتخصصين في هذا الشأن، ليكتشف ويكشف العديد من الحقائق التي كانت بمثابة زلازل أظهرت نتائج معاكسة للمعتقدات السائدة عن الموريسكيين.
وفي هذا التقرير نتحدث عن إحدى هذه الحقائق الكبرى وغير المعروفة لدى الكثير من الناس
المسلمون الموريسكيون بقوا بعد سقوط غرناطة وبدء محاكم التفتيش
بعد سقوط غرناطة- آخر الممالك الإسلامية في الأندلس- ودخول الملك فرناندو والملكة إيزابيلا فيها في عام 1492، انطوت صفحة حكم المسلمين للأندلس التي امتدت أكثر من 7 قرون، وذلك منذ فتحهم لها في عام 711، وأُقيمت محاكم التفتيش والاضطهاد لتنصير مسلمي الأندلس (الموريسكيين)، وفقاً لما ذكره الكاتب المصري محمد عنان في كتابه دولة الإسلام في الأندلس.
كان ذروة هذا الاضطهاد بين عامي 1502 و1568، حيث تمادى تعذيب المسلمين لبشائع تذكرها الكثير من المصادر الإسبانية والعربية على السواء، وصولاً إلى الأذى الفكري الذي تمثل في محاولة الكنيسة تعميد الموريسكيين لدخول الدين المسيحي والتفتيش عن أي شخص لا يشرب النبيذ أو لا يأكل لحم الخنزير أو يستخدم كمية كبيرة من المياه كدليل على الوضوء، التي تعني أنه مسلم محافظ على دينه.
بسبب تلك السياسة التي اتخذها الملك فرناندو وازدياد التعذيب والإرهاب العقائدي، هيأ هذا كله لتفاقم الأوضاع وقيام ثورة الموريسكيين في غرناطة ضد حكم القشتاليين، التي سُميت بـ”حرب البشرات” تحت قيادة شخص يدعى ابن أمية.
مع انطلاق الثورة، يروي المفكر اللبناني شكيب أرسلان في كتابه “خلاصة تاريخ الأندلس” كيف أُرسلت العديد من الاستغاثات لبلاد المغرب العربي لنجدتهم، إلا أن الجزائر هي البلد الوحيد الذي استطاع إرسال نجدة، إذ انطلق الجيش الجزائري محملاً بالمدافع والذخيرة والبارود، إلا أن الرياح والعواصف أدت إلى غرق 32 سفينة محملة بالرجال والسلاح.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
في نفس الوقت وبسبب خطأ أحد قادة الموريسكيين؛ انكشفت خطة قدوم الجيش الجزائري لقتال القشتاليين، فتأهب القشتاليون وتمركزوا في نقاط إنزال السفن الجزائرية وهو ما أفشل الحملة، ونتيجة لذلك فشلت الثورة واستسلم الموريسكيون، وزاد القهر والتعذيب للمسلمين.
وفي العام 1608 أمر الملك فيليب الثاني بطرد كل الموريسكيين خارج البلاد، ما أدى إلى موجة كبيرة من هجرة أهل الأندلس من بلادهم، ويُقدر المؤرخ التونسي التميمي عددهم بنصف مليون موريسكي.
مع حلول العام 1614 كان يُعتقد أن قصة الموريسكيين قد انتهت إلى الأبد إما بالتنصير أو الطرد خارج البلاد، حيث تنتهي روايات أغلب المؤرخين عند هذا التاريخ، كونه نهاية تاريخ الموريسكيين، إلا أن التميمي فجّر مفاجأة أضافت إلى صفحات تاريخ الموريسكيين الذين ظلوا متمسكين بهويتهم ولم يفرطوا في معتقداتهم رغم مرور الدهور والقرون، وبالرغم مما لاقوه من تعذيب وترهيب.
الوجود الموريسكي الذي لم ينته في القرن السابع عشر
في دراسة جديدة عن الموريسكيين أطلع عليها التميمي، والتي تعود إلى رافايال دوليرا جارسيا الدكتور في جامعة أوتونوما في مدريد، والمعنونة بـ”بقاء الإسلام في مدينة غرناطة في أوائل القرن الثامن عشر”؛ أظهر جارسيا لأول مرة- استناداً على وثائق وإحصائيات من الأرشيف الإسباني- وجود وبقاء الموريسكيين المسلمين حتى عام 1731.
فبينما ذكرت الدراسات التاريخية حول تاريخ الموريسكيين أن معاناتهم انتهت بحلول عام 1614 وذلك بعد طرد عدد كبير منهم، والاعتقاد أن الباقي قد اندمج في المجتمع المسيحي الجديد المقام على أرض الأندلس، كما ذكرت دراسات تاريخية قليلة عدد محاكم التفتيش بعد طرد الموريسكيين، بجانب عدم تنفيذ أي من أحكام الإعدام التي نُفذت بحق الموريسكيين طوال فترة اضطهادهم وهو ما يدل على انتهاء وجودهم.
إلا أن الحقيقة في واقع الأمر تختلف كلياً عن هذا الاعتقاد، إذ شهد القرن الثامن عشر في عهد فيليب الخامس رفع دعاوى تُبلِغ عن عدد كبير من المسلمين المتظاهرين بالمسيحية والمنتشرين في غرناطة، وهو ما شكل صدمة للطبقة الحاكمة التي استقر في يدها الحكم ولم تتصور وجود مورسكيين يخفون إسلامهم بعد مرور أكثر من قرن ونصف القرن على طردهم من غرناطة!
وكما صُدِم حكام إسبانيا في ذلك الوقت، دُهش وصُدم العديد من المؤرخين بتلك الحقائق التاريخية التي سجلها جارسيا في دراسته، وعرّبها التميمي لتصبح شاهداً على بسالة وتمسك الشعب الموريسكي بثقافتهم وهويتهم، بعد كل ما عانوه من اضطهاد وبعد مرور الكثير من الوقت منفصلين عن بيئتهم الإسلامية.
“دياجو دياز” والوشاية بالمسلمين
تبدأ قصة اكتشاف وجود الموريسكيين المحافظين على دينهم والمتظاهرين بالمسيحية حتى القرن الثامن عشر في العام 1727، عندما أخبر رجل يدعى دياجو دياز وزوجته التي تدعى ليوزيانا شاميزو الحاكم العام لغرناطة “خوان كامارجو” أنهما لاحظا بعض الممارسات الإسلامية للعديد من قاطني غرناطة، من بينهم قساوسة وقضاة وجامعو ضرائب، وهو ما جعل محاكم التفتيش تعود من جديد.
وللحفاظ على حياة الزوجين المبلغين؛ أرسلهم الحاكم للعيش في إشبيلية لكي لا يتعرض لهم أحد بالأذى، إذ إن الموشى بهم كانوا من أصحاب السلطة في غرناطة كما سيظهر التقرير، كما منحت الدولة الزوجين راتباً يستمر طوال حياتهم تقديراً لما قاموا به، في المقابل بدأت حملات التفتيش من جديد عن المسلمين المتخفين، وهو ما قاد إلى اكتشافات مذهلة عن المجتمع الموريسكي في ذلك الوقت.
سمات المجتمع الموريسكي السري
تذكر دراسة جارسيا أن المجتمع الموريسكي كان في ذلك الوقت يتسم بالسرية والتخفي الشديد، مع وجود روابط مشتركة بينهم كمجتمع ، إذ أظهر التفتيش كيف تمكن الشباب الموريسكيون الزواج من موريسكيات من عائلات مسلمة محافظة على دينها وثقافتها، وذلك لتوريث هذه الهوية للأبناء بجانب البعد عن المشاكل الأمنية التي قد يتسبب فيها الزواج من كاثوليكيات من أسر مسيحية قد تشي بهم وتفضح أمرهم، أو لا تمكنهم من إقامة شعائرهم.
كما أظهرت الدراسة أن أغلب المجتمع الموريسكي في القرن الثامن عشر كان من النساء الذين تخطت نسبهتم 61% من إجمالي عدد المجتمع الموريسكي آنذاك. ورغم أن العدد الأكبر من هذا المجتمع السري كان يعيش في غرناطة إلا أنه كان هناك منهم أعداد تعيش في مدن أخرى مختلفة مثل “جابيا لاشيكا”، وبياس في أقصى غرب إسبانيا والتي تبعد كثيراً عن غرناطة.
ونتيجة لوجود العدد الأكبر من المجتمع الموريسكي في غرناطة، التي كانت تتمتع بأهمية سياسية واقتصادية وتجارية، نشأ المجتمع الموريسكي ليحتل مواقع اجتماعية ومناصب قيادية مهمة في المجتمع الإسباني.
فتذكر الدراسة على سبيل المثال أن 43% من هذا المجتمع كانوا يعملون في صناعة الحرير المهمة للغاية في ذلك الوقت، فعلى سبيل المثال اشتُهرت “عائلة أراندا” الموريسكية بهذه الصناعة، والتي كانت حكايتها غريبة ومثيرة بقدر ما كان يحمله هذا المجتمع من حقائق صادمة ومدهشة.
عائلة “أراندا وفيجورا” من كبرى العائلات الإسبانية
تبدأ القصة من شخص يدعى يوسف جوها، الذي كان قائداً عربياً بمنطقة البشرات- التي تقع بالقرب من غرناطة والتي تسمّت بها ثورة البشرات التي انطلقت من تلك المنطقة- والذي اعتنق المسيحية من تلقاء نفسه أثناء حرب البشرات، وأطلق على نفسه خوان جوها، ثم انطلق ليتطوع في خدمة الملوك القشتاليين ليحوز رتباً عسكرية.
وبعد حصوله اعترافاً من التاج القشتالي بخدماته، تزوج جوها من ماريا أراندا ابنة القائد القشتالي مارتان دو أراندا، لتحمل ذرية خوان لقب زوجته “أراندا”. وعلى مدار السنين اعتُبرت عائلة أراندا من قبل التاج على أنهم نبلاء.
ووصل أحد أفراد تلك العائلة والذي يدعى فيليب دو أراندا ليصبح نقيب الفرسان في الجيش القشتالي، وكان فيليب يتمتع بحياة عسكرية لامعة، كما كانت عائلته من كبار العائلات في المجتمع الإسباني؛ ليُكتشف بعد ذلك أنه من الموريسكيين المتخفين، والذي حُكم عليه فيما بعد بالإعدام حرقاً.
في نفس السياق، كانت عائلة فيجورا إحدى أكبر العائلات في إسبانيا، التي تعود إلى النبيل العربي علي البوعبدلي، الذي لُقب بـ”لوب دو فيجورا” بعد تعميده في الكنيسة (أي تحوله المسيحية)، وأظهرت إحدى الوثائق التي تكشف عنها الدراسة أن الملك فيليب الخامس قد كتب منشوراً يعترف فيه بأهمية النبيل الإسباني دو فيجورا الذي آمن “بمعتقداتهم ” ومجهوده الكبير في خدمة التاج القشتالي، ومنحه من أجل ذلك مجموعة من الإكرامات.
كما شغل العديد من عائلة فيجورا مراكز قيادية في الجيش وفي الحياة السياسية والإدارية لمدينة غرناطة مثل فيليب دو فيجورا الذي كان المحاسب العام لغرناطة وابنه ليوناردو الذي كان مراقب إشبيلية، ما جعلهم منخرطين في أعلى سلم النخبة الحاكمة، ومنهم كذلك من خضع لخدمة الكنيسة ليصبح قسيساً، وهو ما جعل عائلة فيجورا إحدى أكبر العائلات في غرناطة.
مصير العائلات الموريسكية
طبقاً للتميمي، خضع أفراد عائلة فيجورا للمحاكمة في 12 أكتوبر/تشرين الأول عام 1728؛ ليُعدم أغلبهم حرقاً، وحُكم على جزء آخر منهم بمصادرة أملاكهم والحكم عليهم بالنفي خارج غرناطة لمدة 4 سنوات وذلك بعد أن اعترفوا “أنهم مسلمين”، وانتُزعت من قساوسة عائلة فيجورا الامتيازات الملكية الدينية إلى الأبد وأجبروا على النفي.
نتيجة لذلك طلب أفراد العائلة الذين حُكم عليهم بالنفي أن يذهبوا إلى برشلونة ووافقت المحكمة، ولكن بدلاً من التوجه إلى برشلونة استقلت العائلة باخرة فرنسية متجهة إلى الأراضي العثمانية، وفي عام 1729 فوجئ وزير العدل الإسباني برسالة من سفير فرنسا في الدولة العثمانية، مفادها أن عائلة فيجورا هربت إلى الأراضي العثمانية ليجهروا إسلامهم وينكروا المعتقدات المسيحية.
وعندما علم الصدر الأعظم في الدولة العثمانية بأمرهم أقام على شرفهم حفلة علنية، وتزين أفراد عائلة فيجورا بالزي العثماني، وأمر بمنحهم داراً وراتباً شهرياً. وقد أتاحت الدولة العثمانية في ذلك الوقت إمكانية اللجوء لكل من أراد من الموريسكيين في إسبانيا اللجوء إلى الدولة العثمانية.
فيما صرّحت عائلة فيجورا أنها حافظت على دينها الإسلامي سراً طوال هذه المدة، وقد آن الأوان لممارسة ذلك علناً وهو سبب انتقالهم إلى الدولة العثمانية. وقالت أيضاً إن العديد من العائلات شأنها شأن عائلة فيجورا التي تمارس الإسلام سراً، والتي إن سمحت لها الظروف فسوف يلجأون إلى الدولة العثمانية.
وعلى خطى عائلة فيجورا، استطاع فيليب دو أراندا- الذي اتهمته المحكمة بالهرطقة وحكمت عليه بالنفي- في العام 1733 الفرار إلى إسطنبول، حيث توجد عائلة فيجورا لينضم إليهم، إلا أنه سرعان ما لم يستطع البقاء في إسطنبول، وفي هذه البيئة الإسلامية التي لم يعتدها فما كان منه إلا أن رجع إلى إسبانيا مرة أخرى ليُحكم عليه بخمس سنوات قضاها في أحد سجون برشلونة.
في المقابل نُفذ حكم الإعدام بالحرق على العديد من الموريسكيين الآخرين، وكان يجب عليهم ارتداء ملابس الرهبان بعد أن يُلقنوا المعتقدات الكاثوليكية ليُحرقوا فيما بعد، وقد نُفذت الأحكام بحقهم منذ العام 1729 حتى العام 1732، بينما بقي المحتجزون في سجون محاكم التفتيش الموجودة في الكنائس والأديرة، بجانب السجون التابعة للمحاكم، وتكشف إحدى الوثائق التي كشفت عنها الدراسة أن الموريسكيين كانوا يجبرون على ارتداء ملابس خاصة بالتائبين والنادمين على خطئهم، ولم تذكر الدراسة المدة التي قضاها هؤلاء في السجون.
وبالرغم من ضراوة ووحشية التعذيب والتعامل غير الآدمي الذي تعرّض له الموريسكيون في القرن الثامن عشر، فإن هذه الدراسة ستبقى شاهداً على أن تاريخ الأندلس- المتجسد في الموريسكيين الباقين حتى القرن الثامن عشر- لم ينته بانتهاء سقوط غرناطة أو طرد الموريسكيين من ديارهم بعد ثورة البشرات، إنما بقيت الفكرة حية حتى في أحلك الظروف وأشد المصائب التي تعرضوا لها.