كانت الدولة العثمانية على شفا الانهيار عام 1402 عندما هزمت جيوش تيمورلنك السلطان العثماني بايزيد الأوّل عندما ظهر شخصٌ يدعى بدر الدين محمود، الذي اتبع المذهب الصوفي، وكون أفكاره ومريديه، ثم عمل قاضياً عسكرياً لدى السلطان العثماني في الدولة المفكّكة، إلى أن ثار عليها ضمن إحدى أكبر الثورات التي واجهتها الدولة العثمانية، وقضت عليها لاحقاً، ليكون مصير بدر الدين مما اختار حكمه هو نفسه، إذ حكم على نفسه بالإعدام لأنه “لم يجد أفكاره الصوفية قوية الحجة”.
هزيمة الدولة العثمانية مهَّدت الطريق لبدر الدين
دارت معركة حاسمة يوم 28 يوليو/تموز عام 1402 في شمال أنقرة بين قوات التتار بقيادة تيمورلنك وبين الجيش العثماني بقيادة السلطان بايزيد الصاعقة، هزم السلطان العثماني وأُسر، ثم مات في أسره بعد فترة قليلة.
وبعد هزيمة الدولة العثمانية، انفصل عنها كثير من المناطق التابعة لها، وتنازع أمراء العثمانيين على حكمها وأصيبت الدولة بانهيار اقتصادي، وانتشرت الأوبئة والأمراض، وتوالت الحروب الأهلية التي أدت إلى خراب الكثير من القرى، وانتشرت البطالة وعمّ الفقر، واستمرّ ذلك 11 عاماً، كما ذكر المؤرخ المصري محمد حرب في كتابه “العثمانيون في التاريخ و الحضارة”، حتى باتت الدولة في طريقها للزوال.
هنا ظهر بدر الدين محمود، الذي كان ينحدر من سلالة سلاجقة الروم، وكان والده قاضياً ومهتماً بأن يكون ابنه أحد علماء عصره، وهو ما دفع بدر الدين لخوض رحلته في طريق العلم مبكراً، إذ تلقى علومه الأولى على يد والده، وحفظ القرآن الكريم ثم بدأ بدراسة الفقه والعلوم الشرعية.
بدر الدين الذي تقلد منصباً في الدولة
روي أنه كان يتبنى مذهبا قائما على المساواة بين الأديان الثلاثة وهو ما يخالف الإسلام.
وكان يعتقد أن الله يتجسد في المخلوقات وهذا ايضا مخالف للإسلام الذي ينص على أن الله لا شبيه له ولا يتجسد في المخلوقات ولا ينحاز في جهة
علاوة على ذلك قيل أن بدر الدين كان ينكر الجنة والنار ويوم القيامة والملائكة والشياطين.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
التجهيز للقيام الثورة
كانت هزيمة الجيش العثماني في معركة أنقرة، والاضطراب السياسي والاقتصادي والاجتماعي عاملاً مساعداً لنشأة ونمو الحركة السياسية لبدر الدين داخل المجتمع العثماني، خصوصاً مع شيوع فكرة لدى الناس بضرورة ظهور “مُخلِّص” يقضي على هذه الأوضاع، ويعيد الأمور إلى نصابها.
كان بدر الدين أفضل مؤهل لشغل مرتبة “المُخلص”، ومن أجل ذلك وفي أول خطوة له لبدء الثورة ضد الدولة العثمانية، حصل بدر الدين على تأييد السباهية؛ وهم فرسانٌ عثمانيون يقيمون في الأراضي التي يفتحها الجيش العثماني، وكانوا يُعفون من كل الضرائب مقابل الدفاع عن أهل تلك المناطق.
كذلك أيَّد بدر الدين أصحاب التيمرات -التيمار في الدولة العثمانية هي قطعة أرض تُمنح لشخص أو جماعة مقابل وظيفة معينة إلا أن الدولة كانت تقوم بسحبها منهم إذا لم يؤدوا وظيفتهم ما جعلهم يقفون ضدها- والذي كان أغلبهم من اليهود والنصارى.
وما إن تهيأت الظروف لبدر الدين، واكتمل المشهد، حتّى أطلق ثورته ضد الدولة العثمانية، لكي يمتلك العالم ويقسمه على مريديه -كما كتب هو في كتابه “واردات الإلهام”- فجمع جيشاً من 8 آلاف مقاتل، وساعده في ذلك مريدان كانا على درجةٍ عالية من الحيوية والنشاط، الأول هو طورلاق هود كمال والآخر هو بيركلوجة مصطفى المعروف بـ”ده ده سلطان”.
كان طورلاق يهودياً قد أسلم، وكان معه 3 آلاف محارب، وأما بيركلوجة فكان نصرانياً ثم أسلم وكان ينادي بالمزج بين الإسلام والنصرانية، وكان الاثنان من الطريقة القلندرية التي كانت تحمل أفكاراً مشابهة لأفكار بدر الدين.
اشتعال الثورة وتصدي الدولة العثمانية لها
لم يعطِ بدر الدين أتباعه إشارة البدء بالثورة إلا عندما كانت الدولة منهكة ومنهمكة تماماً بإعادة الأمور إلى نصابها، فأوعز بدر الدين إلى طورلاق بالبدء في الثورة في منطقة مانيسا، وكان ذلك في عام 1416، وفي ذات الوقت راح بيركلوجة يجمع الأتباع حوله في جبل استيلاريوس عند الطرف الجنوبي من خليج إزمير، وأغار على المناطق المجاورة.
ومع ازدياد الغارات أدركت الدولة العثمانية أن ثورة بدر الدين أصبحت تهديداً لا يستهان به، ما دفع السلطان محمد جلبي أن يصدر أوامره للقائد سيسمان للتصدي للثائرين في منطقة إزمير، وما إن التقى الجيشان حتى انهزم جيش سيسمان.
لما علم السلطان بهزيمة سيسمان، جمع جيشاً تحت قيادة ولي عهده، وكلّفه بمحاربة الثائرين، والتقى الجيشان فى ضواحي إزمير، وتغلب الجيش العثماني هذه المرة على جيش بيركلوجة، والذي قُتل هو وكثير من جنوده، ثم توجه الجيش إلى مانيسا حيث تصدى لطورلاق فهزمه وأسره.
وهكذا؛ أُخمدت الثورة ضد الدولة بعد انتشارها بشكل كبير، ما دفع بدر الدين إلى الفرار إلى إزنيق ثم استقر فيها ليدير الثورة من هناك، فتصدى له السلطان محمد بنفسه متمركزاً بجيشه فى سيروز -في اليونان الآن- وهزمه.
فرَّ بدر الدين من جديد من إزنيق إلى دوبريجة بطريق البحر الأسود، وهي من أراضي الأمير إسفنديار، واستقر بدر الدين هناك وراح يدعو للثورة مع الدراويش القلندرية، لكن في ذلك الوقت تراجع الجنود السباهية عن موقفهم المؤيد لبدر الدين وتخلَّوا عنه، كما تخلى عنه رجال التيمرات المسيحيين بعد أن وعدتهم الدولة بإعادة الأراضي التي حرمتهم منها، وبذلك أُخمدت الموجة الثانية من ثورة بدر الدين بسهولة.
بدر الدين يحكم على نفسه بالإعدام!
بعد انتهاء حلم بدر الدين المتمثل في الثورة على الدولة العثمانية والاستيلاء على الحكم فيها، أَسَرَّ بدر الدين لاثنين من خواصه أنه ينوي السفر إلى الأفلاق -رومانيا حالياً- فرأى الاثنان أن رأي بدر الدين صائب، ومن أجل ذلك جهزوا عربة بجواد وحملا فيها متاع بدر الدين، ولكنّ السائق بدلاً من أن يتجه شمالاً أخذ يتجه بأقصى سرعة إلى الجنوب، فنظر بدر الدين إلى الاثنين وهو فاغرٌ فاه قائلاً:
ـ أنحن على طريق الأفلاق؟
لا يا سيدنا، نحن الآن في طريقنا إلى معسكر السلطان محمد جلبي.
وبهذا سقط بدر الدين في يد محمد جلبي بعد أن خاف خواص بدر الدين أن يلحق بهم الأذى من قِبل السلطان، فعملا على تسليم بدر الدين.
يُذكر محمد سهيل طقوش أنه بعد أن وقع بدر الدين في يده، ورغم الثورة التي قادها ضده، لم يرد السلطان محمد جلبي قتله إلا بعد إقامة الحُجَّة عليه عن طريق إقامة مناظرة بينه وبين العلماء لكي يشهد الجميع وأولهم بدر الدين على نفسه وعلى حقيقة وشرعية أفكاره.
على إثر ذلك أقيمت مناظرة بين بدر الدين والعلماء، ثم أقيمت محكمة شرعية ترك فيها القضاة الحكم للمتهم على نفسه، فحكم على نفسه بالإعدام بعد أن رأى فساد رأيه وضعف حجته، وتم تنفيذ الحكم في مدينة سيروز، وانتهت بذلك قصة أحد أكبر الثورات التي واجهتها الدولة العثمانية في بداياتها، والتي كانت تنذر بزوال الدولة، ليأتي من بعد محمد جلبي ولي عهده السلطان مراد الثاني الذي عمل على توسعة الدولة، والتي سلمها في يد ابنه محمد الفاتح الذي استطاع دخول عاصمة البيزنطيين “القسطنطينية” عام 1453.