مجرد التوسل والاستغاثة ليس شركا
وليس مجرد التذلل عبادة لغير الله وإلا لكفر كل من يتذلل للملوك والعظماء، وقد ثبت أن معاذ بن جبل لما قدم من الشام سجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال الرسول [ما هذا]؟ فقال: يا رسول الله إني رأيت أهل الشام يسجدون لبطارقتهم وأساقفتهم، وأنت أولى بذلك، فقال [لو كنت ءامرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها] (3)، ولم يقل له رسول الله صلى الله عليه وسلم كفرت، ولا قال له أشركت مع أن سجوده للنبي مظهر كبير من مظاهر التذلل. وعن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان في نفر من المهاجرين والأنصار فجاء بعير فسجد له فقال أصحابه: يا رسول الله سجد لك البهائم والشجر فنحن أحق أن نسجد لك فقال [اعبدوا ربكم وأكرموا أخاكم] رواه أحمد (4) وإسناده جيد. فهؤلاء الذين يكفّرون الشخص لأنه قصد قبر الرسول أو غيره من الأولياء للتبرك فهم جهلوا معنى العبادة وخالفوا ما عليه المسلمون، لأن المسلمين سلفا وخلفا لم يزالوا يزورون قبر النبي ،وليس معنى الزيارة للتبرك أن الرسول يخلق لهم البركة، بل المعنى أنهم يرجون أن يخلق الله لهم البركة بزيارتهم لقبره.
والدليل على جواز ما قدمنا ما أخرجه البزار (5) من حديث عبد الله بن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال [إن لله ملائكة سيّاحين في الأرض سوى الحفظة يكتبون ما يسقط من ورق الشجر فإذا أصاب أحدكم عرجة بأرض فلاة فليناد: أعينوا عباد الله]. قال الحافظ الهيثمي (6) “رواه الطبراني ورجاله ثقات” وحسنه الحافظ ابن حجر في أماليه مرفوعا – أي أنه من قول الرسول- وأخرجه الحافظ البيهقي (7) موقوفا على ابن عباس بلفظ [إن لله عز وجل ملائكة سوى الحفظة يكتبون ما سقط من ورق الشجر فإذا أصاب أحدكم عرجة بأرض فلاة فليناد: أعينوا عباد الله يرحمكم الله تعالى]. والرواية الأولى تقوي ما ورد بمعناها من بعض الروايات التي في إسنادها ضعف، وقد تقرر عند علماء الحديث أن الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال والدعوات والتفسير ، كما ذكر الحافظ البيهقي في المدخل .
ومن الدليل أيضا على جواز التوسل بالأنبياء والصالحين حديث أبي سعيد الخدري الذي حسنه الحافظ ابن حجر في نتائج الأفكار نتائج الأفكار في تخريج أحاديث الأذكار (مخطوط) وغيره ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [إذا خرج الرجل من بيته إلى الصلاة فقال: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا، فإني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياء ولا سمعة، خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تنقذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، وكّل الله به سبعين ألف ملك يستغفرون له، وأقبل الله عليه بوجهه حتى يقضي صلاته].
وقد روى البيهقي في دلائل النبوة (8) [عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “لما اقترف ءادم الخطيئة قال: يا رب أسألك بحق محمد إلا ما غفرت لي، فقال الله عز وجل: يا ءادم كيف عرفت محمدا ولم أخلقه، قال: لأنك يا رب لما خلقتني بيدك ونفخت فيّ من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبا: لا إله إلا الله محمدا رسول الله، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك] الحديث، ورواه الحاكم (9) وصححه، ووصفه السبكي بأنه جيد (10)، وأخرجه الطبراني في الأوسط (11) الصغير (12).
البخاري يروي حديثا في جواز التوسل
وروى البخاري في كتاب الأدب المفرد (13) عن عبد الرحمن بن سعد قال [خدرت رجل ابن عمر فقال له رجل: اذكر أحب الناس إليك فقال: يا محمد، فذهب خدر رجله]. وفي كتاب الحكايات المنثورة للحافظ الضياء المقدسي الحنبلي ، أنه سمع الحافظ عبد الغني المقدسي الحنبلي يقول [إنه خرج في عضده شىء يشبه الدمّل فأعيته مداواته، ثم مسح به قبر أحمد بن حنبل فبرئ ولم يعد إليه]، وهذا الكتاب بخط الحافظ المذكور محفوظ بظاهرية دمشق.
وأخرج الطبراني في معجميه الكبير (14) والصغير (15) عن عثمان بن حنيف أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقي عثمان بن حنيف فشكى إليه ذلك فقال: ائت الميضأة فتوضأ ثم صلّ ركعتين ثم قل “اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد نبي الرحمة ، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي عز وجل لتقضى لي حاجتي ” وتذكر حاجتك ورح حتى أروح معك فانطلق الرجل فصنع ما قال عثمان له ثم أتى عثمان بن عفان ، فجاء البواب فأخذه بيده فأدخله على عثمان بن عفان فأجلسه على الطنفسة فقال: ما حاجتك ، فذكر له حاجته فقضاها له ، ثم قال له: ما ذكرت حاجتك حتى كانت هذه الساعة، وقال له: ما كان لك حاجة فأتنا ، ثم إن الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال له: جزاك الله خيرا ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت حتى كلّمته فيّ ، فقال عثمان بن حنيف: والله ما كلّمته ولكن شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم :” أو تصبر” فقال: يا رسول الله إنه ليس لي قائد وقد شق علي، فقال له النبي :” ائت الميضئة فتوضأ ثم صلّ ركعتين ثم ادع بهذه الدعوات “، قال عثمان بن حنيف : فوالله ما تفرقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضر قط. قال الطبراني: والحديث صحيح.
ففيه دليل على أن الأعمى توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في غير حضرته ، بل ذهب إلى الميضأة فتوضأ وصلى ودعا باللفظ الذي علمه رسول الله، ثم دخل على النبي صلى الله عليه وسلم والنبي لم يفارق مجلسه لقول راوي الحديث عثمان بن حنيف: فوالله ما تفرقنا وطال بنا المجلس حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضر قط (16).
فإن قيل: إن الطبراني لم يصحح بقوله “والحديث صحيح” إلا الأصل وهو ما حصل بين النبي والأعمى ويسمى مرفوعا، وأما ما حصل بين عثمان بن حنيف وذلك الرجل فلا يسمى حديثا لأنه حصل بعد النبي صلى الله عليه وسلم وإنما يسمى موقوفا.
فالجواب: أن علماء الحديث يطلقون الحديث على المرفوع والموقوف، وقد نص على ذلك غير واحد منهم كابن حجر العسقلاني (17) وابن الصلاح (18)، وفي كتاب فتاوى الرملي (19) ما نصه سئل عن تعريف الأثر فأجاب : إن تعريف الأثر عند المحدثين هو الحديث سواء أكان مرفوعا أو موقوفا وإن قصره بعض الفقهاء على الموقوف”ا.هـ. فدعوى الألباني وبعض تلامذته وحملهم قول الطبراني :” والحديث صحيح” على ما حصل للأعمى مع رسول الله دون ما حصل للرجل مع عثمان بن حنيف دعوى باطلة مخالفة لقواعد الاصطلاح.
جواز التوسل بالاعمال الصالحة يثبت جواز التوسل بالذوات الفاضلة
ومما يدل على جواز التوسل أيضا ما رواه البخاري (20) ومسلم (21) عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول [انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم حتى أواهم المبيت إلى غار فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل فسدّت عليهم الغار فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم ، قال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا، فنأى بي طلب الشجر يوما فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما (22) فوجدتهما نائمين فكرهت أن أوقظهما وأن أغبق قبلهما أهلا أو مالا ، فلبثت والقدح على يديّ أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر والصبية يتضاغون عند قدمي، فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرّج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة ، فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج منه]، الحديث. فإذا كان التوسل بالعمل الصالح جائزا فكيف لا يصح بالذوات الفاضلة كذوات الأنبياء ، فهذا يكفي دليلا لو لم يكن دليل سواه للتوسل بالأنبياء والأولياء.
المالكية يجيزون التوسل
قال ابن الحاج المالكي المعروف بإنكاره للبدع في كتابه المدخل (23) ما نصه [فالتوسل به عليه الصلاة والسلام هو محل حط أحمال الأوزار وأثقال الذنوب والخطايا لأن بركة شفاعته عليه الصلاة والسلام وعظمها عند ربه لا يتعاظمها ذنب، إذ إنها أعظم من الجميع ، فليستبشر من زاره ويلجأ إلى الله تعالى بشفاعة نبيه عليه الصلاة والسلام من لم يزره ، اللهم لا تحرمنا من شفاعته بحرمته عندك ءامين يا رب العالمين.ومن اعتقد خلاف هذا فهو المحروم ، ألم يسمع قول الله عز وجل {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جآءوك فآستغفروا الله وآستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما (64)}[ سورة النساء ]. فمن جاءه ووقف ببابه وتوسل به وجد الله توابا رحيما ، لأن الله عز وجل منزه عن خلف الميعاد وقد وعد سبحانه وتعالى بالتوبة لمن جاءه ووقف ببابه وسأله واستغفر ربه، فهذا لا يشك فيه ولا يرتاب إلا جاحد للدين معاند لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، نعوذ بالله من الحرمان] ا.هـ. كلام ابن الحاج.
وفي كتاب إتحاف السادة المتقين (26) بشرح إحياء علوم الدين ما نصه [وكان صفوان بن سليم المدني أبو عبد الله ، وقيل أبو الحارث القرشي الزهري الفقيه العابد وأبوه سليم مولى حميد بن عبد الرحمن بن عوف قال أحمد: هو يستسقى بحديثه وينزل القطر من السماء بذكره ، وقال مرة: هو ثقة من خيار عباد الله الصالحين ، قال الواقدي وغيره مات سنة واثنتين وثلاثين عن اثنتين وسبعين سنة] ا.هـ. أي أنه توفي قبل أن يولد الإمام أحمد. فهذا احمد لم يقل يستسقى بدعائه كما يقول ابن تيمية إن التوسل بدعاء الشخص لا بذاته ولا بذكره، بل جعل أحمد سببا لنزول المطر، فمن أين تحريم ابن تيمية للتوسل بالذوات الفاضلة؟
الشافعية يجيزون التوسل
وفي فتاوى شمس الدين الرملي (27) ما نصه [سئل عما يقع من العامة من قولهم عند الشدائد: يا شيخ فلان، يا رسول الله ، ونحو ذلك من الاستغاثة بالأنبياء والمرسلين والأولياء والعلماء والصالحين فهل ذلك جائز أم لا؟ وهل للرسل والأنبياء والأولياء والصالحين والمشايخ إغاثة بعد موتهم ؟ وماذا يرجح ذلك؟
فأجاب: بأن الاستغاثة بالأنبياء والمرسلين والأولياء والعلماء والصالحين جائزة ، وللرسل والأنبياء والأولياء والصالحين إغاثة بعد موتهم، لأن معجزة الأنبياء وكرامات الأولياء لا تنقطع بموتهم، أما الأنبياء فلأنهم أحياء في قبورهم يصلون ويحجون كما وردت به الأخبار وتكون الإغاثة منهم معجزة لهم، وأما الأولياء فهي كرامة لهم فإن أهل الحق على أنه يقع من الأولياء بقصد وبغير قصد أمور خارقة للعادة يجريها الله تعالى بسببهم]ا.هـ. أما قوله [ويحجون] فإنه لم يثبت في السنة .
الحنفية يجيزون التوسل
قال نور الدين ملا علي القاري في شرح المشكاة ما نصه: قال شيخ مشايخنا علامة العلماء المتبحرين شمس الدين بن الجزري في مقدمة شرحه للمصابيح [إني زرت قبره بنيسابور (يعني مسلم بن الحجاج القشيري) وقرأت بعض صحيح علي سبيل التيمن و التبرك عند قبره ورأيت ءاثار البركة ورجاء الإجابة في تربته].ا.هـ.
فإن قيل: أليس في حديث [إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث] دلالة على أن الميت لا ينفع غيره. فالجواب: أنه ليس في الحديث الذي رواه ابن حبان (28) [إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له] دلالة على أن الميت لا ينفع غيره، إذ إن الحديث نفى استمرار العمل التكليفي الذي يتجدد به للميت ثواب، أما أن ينفع غيره فغير ممنوع بدليل أن سيدنا موسى صلى الله عليه وسلم قال لمحمد عليه الصلاة والسلام في حديث المعراج [ارجع فسل ربك التخفيف] (29)، وهذا نفع كبير لأمة محمد كان بعد موت موسى بسنين عديدة.
___________________________________
(1) تفسير القرءان للزجاج
(2) تهذيب اللغة (2/234).
(3) أخرجه البيهقي في سننه (7/291، 292) وأخرجه ابن ماجه في سننه: كتاب النكاح: باب حق الزوج على المرأة،
وقال الحافظ البوصيري في المصباح (1/324): رواه ابن حبان في صحيحه . وقال السندي: كأنه يريد أنه صحيح الإسناد.اهـ. وانظر الإحسان (6/186-187).
(4) مسند احمد (6/76)
(5) كشف الأستار عن زوائد البزار (4/34).
(6) مجمع الزوائد (10/132).
(7) شعب الإيمان (1/445).
(8) دلائل النبوة (5/489).
(9) مستدرك الحاكم ، كتاب التاريخ (2/615).
(10) انظر شفاء السقام ص/163.
(11) عزاه له الهيثمي في مجمع الزوائد (8/253) وقال: وفيه من لم أعرفهم .
(12) المعجم الصغير (ص/355).
(13) الأدب المفرد (ص/324).
(14) المعجم الكبير (9/17- 18).
(15) المعجم الصغير (ص/201- 202).
(16) المعجم الكبير للطبراني (9/17- 18)، والمعجم الصغير له أيضا، ( ص/201- 202). قال الطبراني : والحديث صحيح.
(17) تدريب الراوي (1/42).
(18) مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث (ص/23).
(19) فتاوى الرملي بهامش الفتاوى الكبرى لابن حجر الهيتمي (4/ 371).
(20) صحيح البخاري: كتاب البيوع: باب إذا اشترى شيئا لغيره بغير إذنه فرضي.
(21) صحيح مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار: باب قصة أصحاب الغار الثلاثة ، والتوسل بصالح الأعمال.
(22) الغبوق: الطعام الذي يكون في النصف الأخير من النهار كالذي يؤكل العصر.
(23) المدخل (1/259-260)
(24) الإنصاف (2/456).
(25) الإنصاف (2/456).
(26) إتحاف السادة المتقين (10/130).
(27) فتاوى الرملي بهامش الفتاوى الكبرى لابن حجر الهيتمي(4/382).
(28) صحيح ابن حبان ، فصل في الموت وما يتعلق به من راحة المؤمن وبشراه وروحه وعمله مالثناء عليه ، انظر الإحسان (5/9).
(29) صحيح مسلم: كتاب الإيمان: باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماوات وفرض الصلوات.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
مجرد التوسل والاستغاثة ليس شركا
وليس مجرد التذلل عبادة لغير الله وإلا لكفر كل من يتذلل للملوك والعظماء، وقد ثبت أن معاذ بن جبل لما قدم من الشام سجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقال الرسول [ما هذا]؟ فقال: يا رسول الله إني رأيت أهل الشام يسجدون لبطارقتهم وأساقفتهم، وأنت أولى بذلك، فقال [لو كنت ءامرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها] (3)، ولم يقل له رسول الله صلى الله عليه وسلم كفرت، ولا قال له أشركت مع أن سجوده للنبي مظهر كبير من مظاهر التذلل. وعن عائشة أن رسول الله صلّى الله عليه وسلم كان في نفر من المهاجرين والأنصار فجاء بعير فسجد له فقال أصحابه: يا رسول الله سجد لك البهائم والشجر فنحن أحق أن نسجد لك فقال [اعبدوا ربكم وأكرموا أخاكم] رواه أحمد (4) وإسناده جيد. فهؤلاء الذين يكفّرون الشخص لأنه قصد قبر الرسول أو غيره من الأولياء للتبرك فهم جهلوا معنى العبادة وخالفوا ما عليه المسلمون، لأن المسلمين سلفا وخلفا لم يزالوا يزورون قبر النبي ،وليس معنى الزيارة للتبرك أن الرسول يخلق لهم البركة، بل المعنى أنهم يرجون أن يخلق الله لهم البركة بزيارتهم لقبره.
والدليل على جواز ما قدمنا ما أخرجه البزار (5) من حديث عبد الله بن عباس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال [إن لله ملائكة سيّاحين في الأرض سوى الحفظة يكتبون ما يسقط من ورق الشجر فإذا أصاب أحدكم عرجة بأرض فلاة فليناد: أعينوا عباد الله]. قال الحافظ الهيثمي (6) “رواه الطبراني ورجاله ثقات” وحسنه الحافظ ابن حجر في أماليه مرفوعا – أي أنه من قول الرسول- وأخرجه الحافظ البيهقي (7) موقوفا على ابن عباس بلفظ [إن لله عز وجل ملائكة سوى الحفظة يكتبون ما سقط من ورق الشجر فإذا أصاب أحدكم عرجة بأرض فلاة فليناد: أعينوا عباد الله يرحمكم الله تعالى]. والرواية الأولى تقوي ما ورد بمعناها من بعض الروايات التي في إسنادها ضعف، وقد تقرر عند علماء الحديث أن الضعيف يعمل به في فضائل الأعمال والدعوات والتفسير ، كما ذكر الحافظ البيهقي في المدخل .
ومن الدليل أيضا على جواز التوسل بالأنبياء والصالحين حديث أبي سعيد الخدري الذي حسنه الحافظ ابن حجر في نتائج الأفكار نتائج الأفكار في تخريج أحاديث الأذكار (مخطوط) وغيره ، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم [إذا خرج الرجل من بيته إلى الصلاة فقال: اللهم إني أسألك بحق السائلين عليك وبحق ممشاي هذا، فإني لم أخرج أشرا ولا بطرا ولا رياء ولا سمعة، خرجت اتقاء سخطك وابتغاء مرضاتك، أسألك أن تنقذني من النار وأن تغفر لي ذنوبي، إنه لا يغفر الذنوب إلا أنت، وكّل الله به سبعين ألف ملك يستغفرون له، وأقبل الله عليه بوجهه حتى يقضي صلاته].
وقد روى البيهقي في دلائل النبوة (8) [عن عمر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم “لما اقترف ءادم الخطيئة قال: يا رب أسألك بحق محمد إلا ما غفرت لي، فقال الله عز وجل: يا ءادم كيف عرفت محمدا ولم أخلقه، قال: لأنك يا رب لما خلقتني بيدك ونفخت فيّ من روحك رفعت رأسي فرأيت على قوائم العرش مكتوبا: لا إله إلا الله محمدا رسول الله، فعلمت أنك لم تضف إلى اسمك إلا أحب الخلق إليك] الحديث، ورواه الحاكم (9) وصححه، ووصفه السبكي بأنه جيد (10)، وأخرجه الطبراني في الأوسط (11) الصغير (12).
البخاري يروي حديثا في جواز التوسل
وروى البخاري في كتاب الأدب المفرد (13) عن عبد الرحمن بن سعد قال [خدرت رجل ابن عمر فقال له رجل: اذكر أحب الناس إليك فقال: يا محمد، فذهب خدر رجله]. وفي كتاب الحكايات المنثورة للحافظ الضياء المقدسي الحنبلي ، أنه سمع الحافظ عبد الغني المقدسي الحنبلي يقول [إنه خرج في عضده شىء يشبه الدمّل فأعيته مداواته، ثم مسح به قبر أحمد بن حنبل فبرئ ولم يعد إليه]، وهذا الكتاب بخط الحافظ المذكور محفوظ بظاهرية دمشق.
وأخرج الطبراني في معجميه الكبير (14) والصغير (15) عن عثمان بن حنيف أن رجلا كان يختلف إلى عثمان بن عفان في حاجة له فكان عثمان لا يلتفت إليه ولا ينظر في حاجته، فلقي عثمان بن حنيف فشكى إليه ذلك فقال: ائت الميضأة فتوضأ ثم صلّ ركعتين ثم قل “اللهم إني أسألك وأتوجه إليك بنبينا محمد نبي الرحمة ، يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي عز وجل لتقضى لي حاجتي ” وتذكر حاجتك ورح حتى أروح معك فانطلق الرجل فصنع ما قال عثمان له ثم أتى عثمان بن عفان ، فجاء البواب فأخذه بيده فأدخله على عثمان بن عفان فأجلسه على الطنفسة فقال: ما حاجتك ، فذكر له حاجته فقضاها له ، ثم قال له: ما ذكرت حاجتك حتى كانت هذه الساعة، وقال له: ما كان لك حاجة فأتنا ، ثم إن الرجل خرج من عنده فلقي عثمان بن حنيف فقال له: جزاك الله خيرا ما كان ينظر في حاجتي ولا يلتفت حتى كلّمته فيّ ، فقال عثمان بن حنيف: والله ما كلّمته ولكن شهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد أتاه ضرير فشكا إليه ذهاب بصره فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم :” أو تصبر” فقال: يا رسول الله إنه ليس لي قائد وقد شق علي، فقال له النبي :” ائت الميضئة فتوضأ ثم صلّ ركعتين ثم ادع بهذه الدعوات “، قال عثمان بن حنيف : فوالله ما تفرقنا وطال بنا الحديث حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضر قط. قال الطبراني: والحديث صحيح.
ففيه دليل على أن الأعمى توسل بالنبي صلى الله عليه وسلم في غير حضرته ، بل ذهب إلى الميضأة فتوضأ وصلى ودعا باللفظ الذي علمه رسول الله، ثم دخل على النبي صلى الله عليه وسلم والنبي لم يفارق مجلسه لقول راوي الحديث عثمان بن حنيف: فوالله ما تفرقنا وطال بنا المجلس حتى دخل علينا الرجل كأنه لم يكن به ضر قط (16).
فإن قيل: إن الطبراني لم يصحح بقوله “والحديث صحيح” إلا الأصل وهو ما حصل بين النبي والأعمى ويسمى مرفوعا، وأما ما حصل بين عثمان بن حنيف وذلك الرجل فلا يسمى حديثا لأنه حصل بعد النبي صلى الله عليه وسلم وإنما يسمى موقوفا.
فالجواب: أن علماء الحديث يطلقون الحديث على المرفوع والموقوف، وقد نص على ذلك غير واحد منهم كابن حجر العسقلاني (17) وابن الصلاح (18)، وفي كتاب فتاوى الرملي (19) ما نصه سئل عن تعريف الأثر فأجاب : إن تعريف الأثر عند المحدثين هو الحديث سواء أكان مرفوعا أو موقوفا وإن قصره بعض الفقهاء على الموقوف”ا.هـ. فدعوى الألباني وبعض تلامذته وحملهم قول الطبراني :” والحديث صحيح” على ما حصل للأعمى مع رسول الله دون ما حصل للرجل مع عثمان بن حنيف دعوى باطلة مخالفة لقواعد الاصطلاح.
جواز التوسل بالاعمال الصالحة يثبت جواز التوسل بالذوات الفاضلة
ومما يدل على جواز التوسل أيضا ما رواه البخاري (20) ومسلم (21) عن أبي عبد الرحمن عبد الله بن عمر بن الخطاب رضي الله عنهما قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول [انطلق ثلاثة نفر ممن كان قبلكم حتى أواهم المبيت إلى غار فدخلوه فانحدرت صخرة من الجبل فسدّت عليهم الغار فقالوا: إنه لا ينجيكم من هذه الصخرة إلا أن تدعوا الله بصالح أعمالكم ، قال رجل منهم: اللهم كان لي أبوان شيخان كبيران وكنت لا أغبق قبلهما أهلا ولا مالا، فنأى بي طلب الشجر يوما فلم أرح عليهما حتى ناما، فحلبت لهما غبوقهما (22) فوجدتهما نائمين فكرهت أن أوقظهما وأن أغبق قبلهما أهلا أو مالا ، فلبثت والقدح على يديّ أنتظر استيقاظهما حتى برق الفجر والصبية يتضاغون عند قدمي، فاستيقظا فشربا غبوقهما، اللهم إن كنت فعلت ذلك ابتغاء وجهك ففرّج عنا ما نحن فيه من هذه الصخرة ، فانفرجت شيئا لا يستطيعون الخروج منه]، الحديث. فإذا كان التوسل بالعمل الصالح جائزا فكيف لا يصح بالذوات الفاضلة كذوات الأنبياء ، فهذا يكفي دليلا لو لم يكن دليل سواه للتوسل بالأنبياء والأولياء.
المالكية يجيزون التوسل
قال ابن الحاج المالكي المعروف بإنكاره للبدع في كتابه المدخل (23) ما نصه [فالتوسل به عليه الصلاة والسلام هو محل حط أحمال الأوزار وأثقال الذنوب والخطايا لأن بركة شفاعته عليه الصلاة والسلام وعظمها عند ربه لا يتعاظمها ذنب، إذ إنها أعظم من الجميع ، فليستبشر من زاره ويلجأ إلى الله تعالى بشفاعة نبيه عليه الصلاة والسلام من لم يزره ، اللهم لا تحرمنا من شفاعته بحرمته عندك ءامين يا رب العالمين.ومن اعتقد خلاف هذا فهو المحروم ، ألم يسمع قول الله عز وجل {ولو أنهم إذ ظلموا أنفسهم جآءوك فآستغفروا الله وآستغفر لهم الرسول لوجدوا الله توابا رحيما (64)}[ سورة النساء ]. فمن جاءه ووقف ببابه وتوسل به وجد الله توابا رحيما ، لأن الله عز وجل منزه عن خلف الميعاد وقد وعد سبحانه وتعالى بالتوبة لمن جاءه ووقف ببابه وسأله واستغفر ربه، فهذا لا يشك فيه ولا يرتاب إلا جاحد للدين معاند لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم ، نعوذ بالله من الحرمان] ا.هـ. كلام ابن الحاج.
وفي كتاب إتحاف السادة المتقين (26) بشرح إحياء علوم الدين ما نصه [وكان صفوان بن سليم المدني أبو عبد الله ، وقيل أبو الحارث القرشي الزهري الفقيه العابد وأبوه سليم مولى حميد بن عبد الرحمن بن عوف قال أحمد: هو يستسقى بحديثه وينزل القطر من السماء بذكره ، وقال مرة: هو ثقة من خيار عباد الله الصالحين ، قال الواقدي وغيره مات سنة واثنتين وثلاثين عن اثنتين وسبعين سنة] ا.هـ. أي أنه توفي قبل أن يولد الإمام أحمد. فهذا احمد لم يقل يستسقى بدعائه كما يقول ابن تيمية إن التوسل بدعاء الشخص لا بذاته ولا بذكره، بل جعل أحمد سببا لنزول المطر، فمن أين تحريم ابن تيمية للتوسل بالذوات الفاضلة؟
الشافعية يجيزون التوسل
وفي فتاوى شمس الدين الرملي (27) ما نصه [سئل عما يقع من العامة من قولهم عند الشدائد: يا شيخ فلان، يا رسول الله ، ونحو ذلك من الاستغاثة بالأنبياء والمرسلين والأولياء والعلماء والصالحين فهل ذلك جائز أم لا؟ وهل للرسل والأنبياء والأولياء والصالحين والمشايخ إغاثة بعد موتهم ؟ وماذا يرجح ذلك؟
فأجاب: بأن الاستغاثة بالأنبياء والمرسلين والأولياء والعلماء والصالحين جائزة ، وللرسل والأنبياء والأولياء والصالحين إغاثة بعد موتهم، لأن معجزة الأنبياء وكرامات الأولياء لا تنقطع بموتهم، أما الأنبياء فلأنهم أحياء في قبورهم يصلون ويحجون كما وردت به الأخبار وتكون الإغاثة منهم معجزة لهم، وأما الأولياء فهي كرامة لهم فإن أهل الحق على أنه يقع من الأولياء بقصد وبغير قصد أمور خارقة للعادة يجريها الله تعالى بسببهم]ا.هـ. أما قوله [ويحجون] فإنه لم يثبت في السنة .
الحنفية يجيزون التوسل
قال نور الدين ملا علي القاري في شرح المشكاة ما نصه: قال شيخ مشايخنا علامة العلماء المتبحرين شمس الدين بن الجزري في مقدمة شرحه للمصابيح [إني زرت قبره بنيسابور (يعني مسلم بن الحجاج القشيري) وقرأت بعض صحيح علي سبيل التيمن و التبرك عند قبره ورأيت ءاثار البركة ورجاء الإجابة في تربته].ا.هـ.
فإن قيل: أليس في حديث [إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث] دلالة على أن الميت لا ينفع غيره. فالجواب: أنه ليس في الحديث الذي رواه ابن حبان (28) [إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له] دلالة على أن الميت لا ينفع غيره، إذ إن الحديث نفى استمرار العمل التكليفي الذي يتجدد به للميت ثواب، أما أن ينفع غيره فغير ممنوع بدليل أن سيدنا موسى صلى الله عليه وسلم قال لمحمد عليه الصلاة والسلام في حديث المعراج [ارجع فسل ربك التخفيف] (29)، وهذا نفع كبير لأمة محمد كان بعد موت موسى بسنين عديدة.
___________________________________
(1) تفسير القرءان للزجاج
(2) تهذيب اللغة (2/234).
(3) أخرجه البيهقي في سننه (7/291، 292) وأخرجه ابن ماجه في سننه: كتاب النكاح: باب حق الزوج على المرأة،
وقال الحافظ البوصيري في المصباح (1/324): رواه ابن حبان في صحيحه . وقال السندي: كأنه يريد أنه صحيح الإسناد.اهـ. وانظر الإحسان (6/186-187).
(4) مسند احمد (6/76)
(5) كشف الأستار عن زوائد البزار (4/34).
(6) مجمع الزوائد (10/132).
(7) شعب الإيمان (1/445).
(8) دلائل النبوة (5/489).
(9) مستدرك الحاكم ، كتاب التاريخ (2/615).
(10) انظر شفاء السقام ص/163.
(11) عزاه له الهيثمي في مجمع الزوائد (8/253) وقال: وفيه من لم أعرفهم .
(12) المعجم الصغير (ص/355).
(13) الأدب المفرد (ص/324).
(14) المعجم الكبير (9/17- 18).
(15) المعجم الصغير (ص/201- 202).
(16) المعجم الكبير للطبراني (9/17- 18)، والمعجم الصغير له أيضا، ( ص/201- 202). قال الطبراني : والحديث صحيح.
(17) تدريب الراوي (1/42).
(18) مقدمة ابن الصلاح في علوم الحديث (ص/23).
(19) فتاوى الرملي بهامش الفتاوى الكبرى لابن حجر الهيتمي (4/ 371).
(20) صحيح البخاري: كتاب البيوع: باب إذا اشترى شيئا لغيره بغير إذنه فرضي.
(21) صحيح مسلم: كتاب الذكر والدعاء والتوبة والاستغفار: باب قصة أصحاب الغار الثلاثة ، والتوسل بصالح الأعمال.
(22) الغبوق: الطعام الذي يكون في النصف الأخير من النهار كالذي يؤكل العصر.
(23) المدخل (1/259-260)
(24) الإنصاف (2/456).
(25) الإنصاف (2/456).
(26) إتحاف السادة المتقين (10/130).
(27) فتاوى الرملي بهامش الفتاوى الكبرى لابن حجر الهيتمي(4/382).
(28) صحيح ابن حبان ، فصل في الموت وما يتعلق به من راحة المؤمن وبشراه وروحه وعمله مالثناء عليه ، انظر الإحسان (5/9).
(29) صحيح مسلم: كتاب الإيمان: باب الإسراء برسول الله صلى الله عليه وسلم إلى السماوات وفرض الصلوات.