قد لا يكون الحضور الشبابي في أروقة التراث أمرا عجبا في ظل حضارة شابة ظلت قرونا تسير على ظهر الزمان بقوة وحركة تحبس الأنفاس، ليس على الصعيد الجغرافي فقط بل والمعرفي والفكري أيضا. فبدءا من زهاء سن العاشرة؛ تنجم بواكير النبوغ عند الكثير من مفكري الإسلام، مما يفسّر عظمة العطاءات العلمية والمشروعات الفكرية التي قدمها الكثير من العلماء الأوائل؛ فقد كانت أعمارهم كلها تقريبا -إلا بضع سنين للنشأة الأولى- مبذولة للمحبرة والدواة.
ورغم أن علماء فن “أصول الفقه” وضعوا شروطا للمشتغل بالعلم عامّة والفتوى والاجتهاد خاصة؛ فإنهم لم يجعلوا من بينها شرطا متعلقا بالسنّ، فلا عُمْر محددا للتصدّر إفتاءً وتدريسا عند المسلمين. وهذا المقال يتقصى تاريخ شبابية المعرفة الإسلامية، فيبحث في سرٍّ من أسرار خصوبة وكثافة المنتج العلمي في الحضارة الإسلامية، ونبوغ أعلامه وهم في مرحلة مبكرة من حياتهم العلمية والفكرية.
إمامة مبكرة
في رصدنا لظاهرة تصدّر كبار الأئمة للساحة العلمية وهم في ريعان الشباب؛ يعترض طريقَنا شيخُ الإسلام وعالم الأُمّة مالك ابن أنس (93-179هـ) الذي أخذ عن تلامذة الصحابة من التابعين، وبدأ الطلب وعمره سبع سنين ليتصدر للإفادة والتدريس والفتوى في حياة مشايخه وهو ابن سبع عشرة سنة، ثم زادت حلقته اتساعاً حتى فاقت حلقات أقرانه وأساتذته.
فقد جاء عند القاضي عياض (ت 544هـ) في ‘ترتيب المدارك‘: “قال سفيان بن عيينة: جلس مالك للناس وهو ابن سبع عشرة سنة، وعُرفت له الإمامة وبالناس حياة إذ ذاك. وقال ابن المنذر: أفتى مالك في حياة نافع [مولى ابن عمر] وزيد بن أسلم (ت 136هـ)…، وقال أيوب السختياني (ت 131هـ): قدمت المدينة في حياة نافع ولمالك حلقة”. وقد جزم الذهبي (ت 748هـ) -في سير أعلام النبلاء‘ بعد ذكره الاختلاف في تاريخ وفاة الإمام نافع- بأن “الأصح وفاة نافع سنة سبع عشرة ومئة”
نبوغ شافعي
وعلى خُطى شيخه مالكٍ؛ بدأ الإمام الشافعيّ (150-204هـ) مرحلة التعليم وهو صغير، وارتحل كثيراً في طلب العلم، وبدت منه في تحصيله الهمّة والشغف، فحفظ القرآن وهو في السابعة من عمره، وتصدّر للإفتاء وهو في سنّ الخامسة عشرة. فالخطيب البغدادي يروي -في ‘تاريخ بغداد‘- أن الإمام إسماعيل المُزَني (ت 264هـ) سمع شيخه الشافعي يقول: “حفظت القرآن وأنا ابن سبع سنين، وحفظت ‘الموطأ‘ وأنا ابن عشر”.
وينقل الإمام ابن الجوزيّ (ت 597هـ) -في ‘المنتظم‘- عن الشافعي قولَه: “حفظتُ القرآن وأنا ابن سبع سنين، وحفظت الموطأ وأنا ابن عشر سنين، وما أفتيتُ حتى حفظت عشرة آلاف حديث…، وأفتى وله خمس عشرة سنة”. ويقول الذهبيّ -في ‘السِّيَر‘- إن الشافعي “ارتحل -وهو ابن نيف وعشرين سنة وقد أفتى وتأهل للإمامة- إلى المدينة، فحمل [الموطأ] عن مالك بن أنس [حتى] عرضه من حفظه”.
وقد نشأ الشافعي فقيراً لا مال له؛ فها هو يقول كما جاء في ‘السِّيَر‘ للذهبي: “كنت يتيما في حِجر أمي، ولم يكن لها ما تعطيني للمعلم، وكان المعلم قد رضي مني أن أقوم على الصبيان إذا غاب وأخفف عنه”. ومع ذلك لم يمنعه فقره من التصدر والنبوغ، والتأهل للفتوى والتدريس وشهادة العلماء له بالأهلية لذلك؛ فالفقر ليس عائقا أمام العلم والتحصيل، بل وفي سنّ مبكرة أيضا. ولذا بات الشافعي “مجدِّدا” على رأس المئة الثالثة للهجرة؛ كما قال الذهبيّ.
وفي أقصى الشرق الإسلامي؛ يخبرنا إمام المحدّثين محمد بن إسماعيل البخاريّ (194- 256هـ) عن نفسه بأنّه بدأ حفظ الحديث وهو صبي في الكُتّاب وعمره عشر سنين، ثمّ حفظ بعض الكتب العلمية وعمره ست عشرة، ولما بلغ ثماني عشرة سنة بدأ في تصنيف بعض كتبه.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
فيلسوف فقيه
لم يكن النبوغ والتصدر في الصغر منحصرا في علماء الشريعة فقط، بل كان في الأطباء والفلاسفة وشمل طلاب أكثر الفنون حينئذ؛ فقد عكف الشيخ الرئيس ابن سينا (370-428هـ) -وهو أحد فلاسفة العالم- على العلم وهو صغير، وحفظ القرآن وتعاهد حلقات الفقه في سنّ مبكرة.
موهبة متمردة
بعد وفاة الفقيه والقاضي الحنبلي الشهير القاضي أبي يَعْلَى سنة 458هـ؛ جلس تلميذه أبو الوفاء ابن عقيل (431-513هـ) على كرسي التدريس الذي طالما شغله شيخُه في “جامع المنصور” ببغداد. وبذلك تصدّر صفوفَ شيوخ المذهب الحنبلي وهو في سنّ السابعة والعشرين، رغم أنّ الشريف أبا جعفر بن أبي موسى الهاشمي (ت 470هـ) كان أكبر منه سنّاً وأطول ملازمةً لشيخهما أبي يعلى، كما أنه هو الذي تولى -عند وفاته- غسله وتكفينه، وذلك إشارة إلى كونه الأحقّ بميراث الشيخ ومكانته العلميّة بعد رحيله.
ومجمل القول أنَّ الذي يجمع بين هؤلاء الأئمة الكبار هو العصامية في تكوين الشخصية، والمتانة في الإمامة العلمية، رغم تصدرهم المبكر للتدريس والفتوى والاجتهاد والتأليف، وشظف حياتهم وربما يُتْم بعضهم كالشافعيّ والبخاري وابن عقيل. واللافتُ أيضاً أنّ هذه الحالات تظهر في أوقات النهضات الكبرى للأُمم، لا في أوقات الانهيار السياسيّ والثقافيّ الذي هو مظهر من مظاهر الشيخوخة الحضارية، التي تعبّر عنها شيخوخة عُمْرية في المتصدرين مع نبذٍ لطاقات الشباب ونبوغهم!!