سنحدثكم اليوم عن تابعي قرشي أمضى جل حياته على ظهور الخيل، فشارك في فتح مصر وإفريقية وكان من أبرز قادة الفتح الإسلامي للمغرب. نشر الإسلام بين العديد من القبائل الإفريقية وبنى المساجد وأسس مدينة القيروان، وقيل إنه “مجاب الدعاء”، وبعد حياة حافلة بالإنجازات والفتوحات مات ميتة مشرفة بعد أن كسر غمد سيفه كي لا يعيده إليه.. تعالوا نروِ لكم قصة عقبة بن نافع..
عقبة بن نافع.. من مصر إلى ليبيا
كان عقبة بن نافع تابعياً وُلد في عهد الرسول لكنه لم يره أو يسمع منه، ويرجح بعض المؤرخين أنه وُلد قبل فتح مكة، فيما يذكر ابن عذاري أنه ولد قبل وفاة النبي محمد بعام واحد، أي في حوالي عام 631.
انضم عقبة بن نافع إلى صفوف الفاتحين في سن مبكرة، فاشترك في عهد عمر بن الخطاب في الجيش الذي توجه لفتح مصر بقيادة عمرو بن العاص.
ولما تم للمسلمين فتح مصر، وقع اختيار عمرو بن العاص على عقبة بن نافع ليكون قائداً لمجموعة من الجند المكلفين باستطلاع أحوال برقة، ولما وجدوا أن الطريق ممهد أمامهم، قرر ابن العاص مواصلة الفتح باتجاه برقة، وانضمت إلى صفه العديد من القبائل البربرية التي أعلنت ولاءها للمسلمين، ثم توجه إلى طرابلس وحاصرها شهراً قبل أن يدخلها من الجهة البحرية ثم توجه إلى سرت وأراد أن يكمل إلى إفريقية لكن الخليفة عمر بن الخطاب لم يأذن له لما سمع عن تلك البلاد بأنها غير مأمونة الجانب ولا ميسورة الفتح ولا قريبة الطاعة.
ولاية برقة
وبالعودة إلى عقبة بن نافع فقد كلفه ابن العاص أثناء حصار طرابلس بالتوجه إلى الواحات ما بين برقة وزويلة لفتحها وضمان عدم تحولها إلى أماكن تجمع للمقاومة البربرية، واستطاع ابن نافع فتح أجدابية وزويلة عبر الصلح مقابل أن يدفع أهلها الجزية، ولما تم الأمر للمسلمين في المنطقة ولى عمرو بن العاص عقبة على برقة والمناطق التي فتحها لتكون أول ولاية له قبل إفريقية التي ظن ابن الخطاب أنها عصية على المسلمين.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
فتح إفريقية
لم يسمح الخليفة عمر بن الخطاب بفتح إفريقية خشية على أرواح المسلمين، ورفض دخولها ما دام هو خليفة عليهم، ولما توفي ابن الخطاب وخلفه عثمان بن عفان كان له الرأي ذاته في البداية إلا أنه غير رأيه بعد أن وصلت جيوش والي مصر، ابن أبي السرح إلى أطراف إفريقية وعادت مثقلة بالغنائم.
وبعد أن نادى الخليفة بالجهاد في إفريقية، خرج ابن أبي السرح من مصر بجيش قوامه 20 ألف مقاتل، وما إن بلغ الجيش برقة حتى انضم إليه عقبة بن نافع وقواته.
في ذلك الوقت كانت إفريقية تحت ولاية البطريرك جرجير بن نيقيتاس بعد أن استقل بها عن الإمبراطورية البيزنطية واتخذ من قرطاج عاصمة له. ولما بلغه مسير المسلمين باتجاه إفريقية قام بجمع جيش قوامه 120 ألف مقاتل من الروم واجهوا المسلمين في موقعة سبيطلة.
لم تحسم الموقعة النصر للمسلمين أو الروم، وبعد أن أمضى الطرفان أياماً في الكر والفر، أراد جرجير أن يحفز جنوده على القتال فوعدهم بتزويج ابنته لمن يقتل أمير المسلمين ابن أبي السرح، وأن يعطيه ما معها من جوار وأموال، فلما سمع ابن أبي السرح ذلك أعلن أن من يقتل جرجير من المسلمين سيزوجه ابنة جرجير ويعطيه ما معها من جوار وأموال، وبالفعل تمكن ابن الزبير من قتل ملك الروم وفتح المسلمون سبيطلة ثم قرطاج ولما توغل المسلمون في إفريقية جرى صلح بين الروم والمسلمين يدفع الروم بموجبه الجزية، وأقبل بطاركة إفريقية على ابن أبي السرح معلنين دخولهم ورعاياهم تحت ظل الخلافة.
ولاية عقبة بن نافع على إفريقية
بعد فتح إفريقية عاد عقبة بن نافع إلى مصر ومكث فيها 13 عاماً توقفت فيها حركة الفتوحات فيما عدا القليل من الحملات العسكرية، وفي تلك الفترة عكف ابن نافع على العبادة والتفقه في شؤون الدين.
خلال تلك السنوات، انتفضت إفريقية عدة مرات بوجه المسلمين، ووقعت الفتنة بين معاوية بن أبي سفيان وعلي بن أبي طالب، وعلى ما يبدو فقد اعتزلها عقبة بن نافع ولم يقاتل بجانب أي من الصفين.
وبعد أن آلت الخلافة لمعاوية، وعاد عمرو بن العاص ليكون والياً على مصر، توجهت أنظاره إلى إفريقية ثانية بعد أن نقض أهلها عهودهم مع المسلمين عدة مرات.
فأرسل عمرو بن العاص معاوية بن حديج لفتح إفريقية مرة ثانية، كما أرسل عقبة بن نافع إلى غدامس ففتحها ثم توجه إلى ودان ففتحها مع المناطق المجاورة لها، وبعد أن تم الفتح أصبح ابن حديج أول وال على إفريقية.
وفيما بعد عزل معاوية بن أبي سفيان ابن حديج عن ولاية إفريقية وولاها لعقبة بن نافع، بينما تولى ابن حديج مصراً.
ومنذ أن تولى ابن نافع إفريقية أصبحت الفتوحات شغله الشاغل، فابتدأ ولايته بغزو سرت، ومنها سار إلى ودّان بعد أن نقض أهلها عهدهم معه، ثم سار إلى جرمة كبرى مدن فزّان، فدعا أهلها إلى الإسلام، فأجابوا.
ثم مضى على قصور فزّان، فافتتحها قصراً قصراً، ومنها إلى قصور خاوار، ثم سار إلى أرض قبيلة مزاتة في ودّان، فافتتح قصورها، ثم إلى صفر وغدامس التي أعاد فتحها.
وفي عهده ازدادت قوة المسلمين في إفريقية خاصة بمساعدة البربر الذين دخل كثير منهم في الإسلام وقدموا النصح والمشورة لقادة جيوش المسلمين.
القيروان، مقر رباط المسلمين
عدا فتوحاته في إفريقية، ارتبط اسم عقبة بن نافع على الدوام بمدينة القيروان، فقد ارتأى أن يبني مدينة لتكون مقراً لرباط جند المسلمين وكي تكون عزاً للإسلام.
ويروى أن المنطقة التي بنيت فيها القيروان كانت مليئة بالسباع والأفاعي، فوقف عقبة بن نافع قبل البدء ببناء المدينة وأخذ يدعو الله مع أصحابه، ونادى: “أيتها الحيات والسباع نحن أصحاب رسول الله فارحلوا عنا فإنا نازلون ومن وجدناه بعد هذا قتلناه”، ويقال إن أهل إفريقية بعد ذلك ظلوا أربعين عاماً لا يرون في المنطقة أفعى ولا عقرباً ولا سبعاً، وهذه الحادثة وغيرها كانت سبباً في وصف ابن نافع بأنه “مجاب الدعاء” كما ذكر عدد من المؤرخين منهم الواقدي.
عقبة بن نافع في الأسر
عندما تولى مسلمة بن مخلد الأنصاري مصر سعى لعزل عقبة وضم إفريقية إليه، فاتخذ بناء مدينة القيروان ذريعة عند الخليفة بحجة أن بناءها المكلف حرم بيت المال من الغنائم، فاستمع له معاوية بن أبي سفيان وعزل عقبة لتنضم إفريقية إلى الأنصاري الذي ولاها لمولاه أبي المهاجر دينار والذي كان أول مولى يتولى ولاية في الدولة الأموية.
عندما وصل أبو المهاجر إلى القيروان ومعه جيشٌ من مصر والشام، قام باعتقال عقبة بن نافع والإساءة إليه، وهجر القيروان وبنى مدينة جديدة لتكون قاعدة له.
ولما علم الخليفة بسجن عقبة بن نافع أرسل في طلبه فأخلي سبيله وسار إلى دمشق وفي طريقه أتى موضعاً يعرف بقصر الماء، فصلى، ثم دعا، وقال: “اللهم لا تمتني حتى تمكني من أبي المهاجر دينار”.
ولما قابل الخليفة اشتكى إليه من الظلم الذي حل به فاعتذر منه ابن أبي سفيان. وبعد وفاة معاوية، وتولي ابنه يزيد الخلافة، أعاد عقبة بن نافع ليكون والياً على إفريقية للمرة الثانية، فلما وصل إليها اعتقل أبا المهاجر وخرب مدينته وأعاد إعمار القيروان.
فتوحات جديدة
عقب توليه إفريقية ثانية، بدأ عقبة بن نافع على الفور سلسلة من الفتوحات الجديدة، ففتح الجريد وحصن لميس ومدينة باغانة بعد قتال عنيف مع الروم وتابع تقدمه نحو الزاب ثم تاهرت فهزم جموع البربر من زناتة ومكناسة وهوارة وغيرها.
ثم توجه عقبة بن نافع إلى بلاد المغرب الأقصى، قاصداً مدينة طنجة، فهزم البربر والأفارقة على طول الطريق إلى هناك، وعندما وصل طنجة عقد صلحاً مع أميرها وتابع التوجه غرباً.
فأخضع بربر المغرب الأقصى، وبدأ بالسوس الأدنى (خلف طنجة)، ثم سار جنوباً إلى مدينة وليلي القديمة ففتحها، وهناك التقى بجموع بربر الأطلس المتوسط وهزمهم وتبعهم جنوباً إلى صحراء بلاد درعة، وهزمهم مجدداً ثم حول أنظاره نحو الشمال الغربي، فدار حول جبال الأطلس العليا، ودخل بلاد صنهاجة حيث أطاعه الناس دون قتال.
ثم فتح أغمات ومنها اتجه غرباً إلى مدينة تفيس وبدخول المسلمين مدينة تفيس الحصينة فُتح أمامهم وادي السوس الأقصى، ففتح عاصمته.
وعلى طول الطريق بنى عقبة المساجد في المناطق التي فتحها ودعا أهلها إلى الإسلام فأجابه كثير منهم وانضم بعضهم إلى الجيش الإسلامي.
عقبة بن نافع وجنوده يكسرون أغماد سيوفهم
عندما أفل عقبة عائداً وبلغ مدينة طنجة صرف معظم رجاله إلى القيروان ولم يبق معه إلا قرابة 300 من الجند معظمهم من الصحابة والتابعين، فاستغل ذلك أحد قادة البربر ويدعى كسيلة، فاستنجد بالروم والفرنجة والقبائل البربرية غير المسلمة ليجمع جيشاً قوامه 50 ألف مقاتل.
واعترض جيش كسيلة المسلمين في الزاب جنوب جبال الأوراس عام 683، ولما رأى عقبة عددهم علم أنها النهاية فأخلى سبيل أبي المهاجر وطلب منه الانصراف إلى المشرق وكذلك طلب من جنوده الراغبين في العودة، لكن أبا المهاجر والجنود أبوا ترك عقبة بن نافع وكسروا أغماد سيوفهم كي لا تعاد فيها وخاضوا معركة شرسة غير متكافئة انتهت بمقتل معظمهم مع قائدهم عقبة بن نافع.
ذكرت أغلب المصادر أن المكان الذي قُتل فيه عقبة ورفاقه هو بلدة تهودة، وسميت المنطقة المجاورة باسم “سيدي عقبة”، وفيها يقع اليوم مسجد وضريح يُنسب لعقبة في مسجد “عقبة بن نافع” الذي يعد ثالث أقدم المساجد في المغرب العربي بعد مسجد القيروان ومسجد أبي المهاجر دينار، وهو المسجد الذي ذكره ابن خلدون وقال فيه: “إنه أشرف مزار في بقاع الأرض لما توفر فيه من عدد الشهداء والصحابة التابعين”.