مشاعر تُشبه تلك التي تجتاح الحضور فوق المنصة ومن حولها في حفلات التكريم والتخرّج في المؤسسات التعليمية؛ مزيجٌ من الشعور بالفخر والإنجاز، والراحة من مشوارٍ طويلٍ؛ ثيابٌ سوداء لامعةٌ ذات ألوان لها معانٍ، وقُبّعاتٌ مربّعة تتطاير في الهواء، وفرحةٌ لا تضاهيها فرحة! فمن ذا الذي اخترع هذا؟ ومن أين أتت التكريمات والشهادات والاحتفالات لتعلن تحقيق إنجازٍ علميّ في حياة الخريجين؟
يعرفُ أكثرنا أنّ النظام التعليميّ الحديث جاءنا من الغرب، وهذه الثياب الغريبة والقبّعات العجيبة شاهدٌ صريحٌ على ذلك؛ وأسماء الشهادات التي ينالُها الخريجون عند إتمام كل مرحلة شاهدٌ آخر، فهذه ‘ليسانس‘ أو ‘بكالوريوس‘ تليها ‘ماجستير‘ ثم ‘دكتوراه‘؛ وكلُّ هذه الأسماء بعيدةٌ من لساننا كما هي الثياب بعيدةٌ من هندامنا الذي كنا نعرفه!
لكن هل كان عند أجدادنا شيءٌ يشبه هذه التقاليد: هل عرفوا الشهادات والاحتفالات؟ وهل تلقى المتفوقون التكريم وعاش أهلوهم الفرحة قُرب المنصّة؟ أم إن هذه التقاليد كانت هدية صرفة من العالم الغربيّ لنا وللعالم؟ ذلك ما تحاول هذه المقالة الإجابة عنه بحفر تاريخي في بعض الجذور التراثية لهذه التقاليد.
اصطلاح لغوي
كان العربُ -منذ القِدم- يستعملون مصطلح “الحِذق” بمعنى التخرّج في علمٍ ما أو كتابٍ بعينه، أو صنعةٍ من الحِرف؛ فكأن الحاذق هو الخرّيج، وكأن “الحَذاق” هو حفلُ التخرّج! ولذا جاء في ‘لسان العرب‘ لابن منظور (ت 711هـ) أن الحِذاقة هي: “المهارة في كلّ عمل، وحَذِقَ الشيءَ يَحذِقه.. حَذْقًا.. وحَذاقًا.. وحِذاقة؛ فهو حاذقٌ من قوم حُذّاق! يعني ماهرٌ متقِنٌ لصنعته. وحَذق القرآن والعِلم: تعلّمه وأتقنه، ويُقال لليوم الذي يختم فيه الصبي القرآن: هذا يومَ حَذاقه”. وقال شمس الدين ابن طولون الدمشقي (ت 953هـ) -في كتابه ‘فصّ الخواتم فيما قيل في الولائم‘- إن “وليمة الحِذاقة.. هي الإطعام عند ختم القرآن…، وكذا إذا تعلَّم الآداب”.
وأقدمُ ذكرٍ وقفنا عليه للحَذق -بمعنى التأهل في علم ما- هو ما ذكره الحافظ ابن عساكر (ت 571هـ) في ‘تاريخ دمشق‘، لدى ترجمته للشاعر الجاهليّ الشهير عَدِي بن زيد العِبَاديّ (ت 35 ق.هـ)؛ قال: “فلما تحرّك عدي بن زيد وأيفع (شبّ) طرحه أبوه في الكُتّاب، حتى إذا حَذِق أرسله المرزُبان (رُتبةٌ وظيفية عند الفرس) مع ابنه شاهان مرد إلى كُتّاب الفارسية، فكان يختلفُ مع ابنه ويتعلم الكتابة والكلام بالفارسية، حتى خرج من أفهم الناس بهما وأفصحهم بالعربية، وقال الشعر”. ففي هذا النصّ دعوى أن الكُتّاب كان عند العرب قبل الإسلام، وأن من يتخرّج فيه يُقال إنّه “حَذِق”.
والمتتبع لمصطلح “الحذق” في كتب التاريخ وتراجم الأعلام يجد أن استعماله غلب على البراعة في القرآن الكريم تحديدا؛ فإذا قيل: “حَذِق فُلان” فإنه يعني أتمّ تعلّم القرآن، واستُعمل أيضًا في البراعة في علوم الحديث والفقه والنحو، وفي علوم أهل الكتاب، وفي الطب والكتابة والحساب، وفي الغناء والصنعة عموما.
فأما حذق القرآن والحديث وعلوم الشريعة فلا يُحصى ذكره في الكتب؛ وأما النحو فقد وجدتُّ ياقوت الحموي (ت 626هـ) نقل -في كتابه ‘معجم الأدباء‘- شهادة “حِذق” كتبها الأخفش النحوي (ت بعد 452هـ) لتلميذه سليمان الشرفي ووثّقها بتاريخ منْحها؛ يقول فيها: “حَذِقَ عليّ هذا الكتاب -وهو كتاب ‘الفصيح‘- أبو القاسم سليمان بن المبارك الخاصة الشرفي -أدام الله أيامه- من أوله إلى آخره قراءةَ فهم وتصحيح، وقرأت أنا على عليّ بن عميرة -رحمه الله- في محلة باب البصرة ببغداد عند المسجد الجامع الكبير، وقرأ هو على أبي بكر ابن مقسم النحوي (ت 355هـ) عن أبي العباس ثعلب (ت 290هـ) رحمه الله. وكتب علي بن محمد الأخفش النحوي سنة اثنتين وخمسين وأربعمئة عربية”.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website