في عام 125هـ/ 743م، وعقب وفاة عمّه هشام بن عبد الملك، تولّى الوليد بن يزيد حُكم الدولة الإسلامية. حينها كانت الدولة الأموية تعيش ذروة مجدها بعدما وصلت إلى أقصى اتّساع لها بعدما امتدّت حدودها من الصين إلى فرنسا.
وبالرغم من أن فترة حُكم الوليد لم تحفل بالكثير من الإنجازات -لقصر مُدتها ولأسباب أخرى سنبيّنها لاحقاً- لكنه رغم ذلك ذُكِر في تاريخ الإسلام، كأول خليفة يسخط عليه أهله ويقتلونه ثم يستولون على الحُكم منه، ليكون أول ضحية لأول انقلاب في الإسلام.
فما القصة؟
الخليفة الفاسق
أسهبت مراجع التاريخ الإسلامي في التنكيل بسيرة الوليد بن يزيد بن عبد الملك بن مروان بن الحكم، حتى أن عديداً من الكتب نعتته بـ”الخليفة الفاسق” كإشارة شهيرة له محجوزة بِاسمه مدى الدهر، مترافقة مع كُنيته التي عُرف بها وهي “أبو العباس”.
قدّمت المرويات التاريخية شخصية الوليد بأنه كان “فاسقاً، شريباً للخمر، مُنتهكاً للحرمات”، فقال عنه ابن فضل الله القرشي في كتابه “مسالك الأبصار في ممالك الأمصار”: الوليد بن يزيد، الجبار العنيد، لقبًا ما عداه، ولقمًا سلكه فما هداه، فرعون ذلك العصر الذاهب، والدهر المملوء بالمعائب.
وأيضاً حكى البلاذري في كتابه “أنساب الأشراف”، أن حياة الدعة التي نشأ فيها الوليد داخل قصر أبيه أفسدته، وأنه برغم زواجه من إحدى حفيدات عثمان بن عفان فإن أختها أعجبته حين رآها وأراد خطبتها من أبيها بعدما طلّق أختها.
هذا الامر في شخصية الوليد لم يظهر متأخراً بعد تقلّده الخلافة وإنما منذ صغره وحينما كان ولياً للعهد، لذا فكّر هشام بن عبد الملك في خلعه من الولاية ومنحها لابنه، وهي الخطوة التي وصلت أنباؤها للوليد فقلّل من شأنها قائلاً: (خُذوا مُلككم لا ثبّت الله مُلككم ثباتاً يُساوي ما حييتُ قبالاً).
يُرجع المدائني سبب سوء خُلق الوليد إلى مربيه ومؤدبه الوليد بن عبد الصمد بن عبد الأعلي، الذي اتُّهم بالزندقة بدوره وأنه من علّم الوليد شُرب الخمر، بل اتّهمه باحثون آخرون بأنه من ألّف بنفسه بعض الأبيات الماجنة التي نُسبتْ لاحقاً للوليد وأشهرها “يا أيها الباحث عن ديننا.. نحن على دين أبي شاكر… نشربها صرفاً وممزوجة بالسُّخن أحياناً وبالفاتر”.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
في النهاية، وقع ما خشيه الخليفة هشام، فرحل عن الدنيا وتولّى ابن أخيه الحُكم من بعده، خلافة لم يطل أمدها كثيراً ففي يوم الخميس من شهر جمادى الاول عام 126هـ، قتله ابن العم يزيد، الملقّب تاريخياً بـ”يزيد الناقص” في منطقة تُدعى البخراء تابعة لدمشق، بعد ولاية لم تدم أكثر من سنة و4 أشهر وعدة أيام.
السبب الرئيسي الذي قدّمته لنا كُتب التاريخ لهذه السابقة في تاريخ الإسلام هو اتّهام يزيد بالفسق وسوء الخُلق والرغبة المروانية في تطهير الراية الأموية البيضاء من الدنس.
إلى حدِّ هنا ينبغي علينا التوقّف قليلاً، فالروايات التاريخية تفيض في تبيان فساد الوليد ومجونه، دون أن تكشف لنا سبباً منطقياً عن تعيين الخليفة هشام بن عبد الملك رجلاً سكيراً لتأديب ابن أخيه وولي عهده، وسبب تقاعسه عن منع الوليد –ولو بالقوة- عن التمادي في ذلك الدرك الأسفل من سوء الخُلُق.
لم تخبر الكُتب إجابة هذين السؤالين المهمّين
وبحسب الباحث التركي الألماني فؤاد سزكين (Fuat Sezgin) المتخصص في التاريخ الإسلامي فإن اليزيد اشتهر بغرامه بالشعر وبأدب العرب، فكان يقرض الشعر بنفسه كما أمر بجمع أخبار العرب في كتابٍ واحد يحفظها من الضياع.
جمع المستشرق الإيطالي فرانشيسكو جابرييلي (Francesco Gabrieli) أشعار الوليد من بطون كتب التراث في دراسة تشكّلت من 52 قطعة وقصيدة تكوّنت من نحو 428 بيتاً شعريّاً، قُدِّمت لاحقاً بالعربية في مجلة المجمع العلمي العربي في دمشق عام 1937م.
كما عُرف عنه ولعه بالغناء والمغنين، حتى أنه في أحد المجالس ومن فرط إعجابه بالمنشد أبي كامل غزيل الدمشقي خلع قلنسوة كانت عليه وألبسها لأبي كامل، الذي فرح بها كثيراً وكان لا يلبسها إلا يوم عيد وكان يقول عنها “كسانيها أمير المؤمنين، فقد أوصيتُ أهلي أن يضعوها في أكفاني”.
كما ذكر البلاذري في كتابه “أنساب الأشراف” بأنه فور تنصيبه خليفة أجرى على أهل الشام الأموال، وأمر لكل واحدٍ منهم بجائزة وخادم، وأخرج لعيالات الناس الطيب، وزاد للناس أعطياتهم من بيت المال.
بينما تعرّض ابن الأثير لسيرة الوليد في جزءٍ يسيرٍ من كتابه “الكامل في التاريخ” قائلاً: لقد نزّه قوم الوليد مما قيل فيه وأنكروه ونفوه عنه، كما ينقل عن هارون الرشيد قوله “رحم الله الوليد إنه كان خليفة مجمعاً عليه”.
المتأمل فيما ذكره البلاذري من سيرة الوليد يُمكن أن تستوقفه عبارة ذكرها بين ثنايا صفحاته بأن الناس خلال حُكم يزيد كانوا يلقبّون الوليد بأنه “شهيد بني مروان”.
وهو ما يؤكّد أن الانقلاب عليه لم يكن فقط مرتبطاً بعشقه للخمر وإنما بتصدّعات عميقة عرفها البيت الأموي متأخراً، منها الصراع المحتدم بين بين أبناء الوليد بن عبد الملك وبين أبناء مروان بن عبد الملك على السُلطة، والذي ظهرت بعض آثاره خلال حُكم العم هشام بن عبد الملك.
عُرف عن سليمان بن هشام بن عبد الملك كراهيته الجمّة للوليد وكان يحضّ أباه على خلعه وقتله وهو ما لم يتم، وعندما تولّى الوليد الخلافة استدعى ابن أخيه ووصفه بأنه “أعدى الناس له”، ثم أمر بضربه 100 سوط وألبسه الصوف وقيّده بالحديد، وفور خروج سليمان كان أشد الناس تأليباً عليه.
كما حدّتنا مروية أخرى أن سليمان –بعد هذه الواقعة- كان عدواً للوليد، وكان يسعى بكل جهده لقتله.
لم يقتصر عداء الوليد ضد المروانيين على سليمان فقط وإنما انضمّ إليهم أيضاً أخوه يزيد الذي “أقصاه وجميع إخوته وأهل بيته، واستخفَّ بهم وأغلظ لهم وحبس بعضهم”، وهو ما دفع يزيد لاتهام الوليد بالكفر واللواط.
وتظهر المرويات، أن الخليفة الوليد اشتدّ على أبناء عمومته، وعاقبهم بشكلٍ جماعي، فأخذ منهم الجواري، وحبس منهم الأفراد وعذبهم، كما فرّق بينهم وبين زوجاتهم، والأخطر من ذلك أنه اعتزم تولية الحكم لولديه الحكم وعثمان من بعده، وهو ما يعني أن ذلك الفرع من آل أمية سيستمر أكثر ما شكّل أزمة كبيرة عند المروانيين بلا شك.
بعدها أقدم الوليد على خطأ أكبر حينما وقع خلاف بينه وبين القائد الأموي خالد بن عبد الله فأمر بقتله، وهو ما أثار غضب اليمانية على الوليد، واليمانية هم قبائل اليمن الذين وفدوا على الشام وتمركزوا حول دمشق، وشكّلوا مركز قوة طوال حُكم دولة الأمويين لطالما وضعه الخلفاء في حساباتهم إلا الوليد!
خرجت الشرارة الأولى من عند اليمانية الذين خرجوا إلى يزيد وبايعوه على الخلافة، وهي الخطوة التي رفضها أخوه العباس ووصفها بأنها “فساد للدين والدنيا” بل وهدّد أخاه لو ظلَّ على استجابته للناس بأنه سيقيّده ويرسله إلى الخليفة، ورغم ذلك استمر يزيد في بثّ دعاته السريين بين الناس في دمشق، حتى قاد قوة من اليمانية قتلت الوليد وبايعت يزيد خليفة.
إني لظلوم نفسي
استهلّ يزيد حُكمه بخطبة طويلة قالها للناس نقتبس منها “إني والله ما خرجت أشراً ولا بطراً ولا طمعاً ولا حرصاً على الدنيا ولا رغبة في الملك، وإني لظلوم لنفسي إن لم يرحمني ربي ولكن خرجت غضباً لله ولدينه، وداعياً إلى كتابه وسنة نبيه (….) دعوت من أجابني من أهلي وأهل ولايتي، فأراح الله منه البلاد والعباد، ولاية من الله”.
وبرغم هذه البداية الحماسية، فإن الخلافة لم تدم ليزيد بن الوليد كثيراً، فمات عقب 6 أشهر فقط من حُكم الدولة الأموية متأثراً بإصابته بالطاعون.
كما كانت دماء الوليد لعنة على مُلك بني أمية بأسره، فلم يُعمّر بعده خليفة في منصبه، وفي ظرف 6 سنوات وحسب ضاع المُلك الأموي تماماً عقب الهزيمة أمام العباسيين في معركة الزاب.