تشيع لدى سكان الأوراس شرق الجزائر أغنية أمازيغية شاوية قديمة، أعادتها الفنانة المعروفة “مركوندا
نقلاً عن الجدات، مقدمة إياها في مرثية حزينة خلدت الألم، ألم أن تموت في حرب لا تعنيك.
تقول أغنية “الألمان”:
في زمن الروس
عشرة في البرنوس
شبان في عمر الزهور
ألّبتهم فرنسا على الآخرين
ثم ألقت بهم لقما
لحمم طائرات الألمان
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
تؤرخ هذه الأغنية الحزينة لمأساة إنسانية مروّعة، عندما قررت فرنسا تجنيد الآلاف من الجزائريين لمحاربة النازية والفاشية، في إبان الحرب العالمية الثانية. كما تنعى مصائر شبان في عمر الزهور، جنّد أغلبهم عنوة وتطوَّع آخرون ظناً منهم أن المساواة في الموت ستجلب لهم مساواة في الحياة، لكن ذلك لن يحدث، فالآلاف سيموتون هدراً، مثلما هلك ملايين “الروس” رغم أن الواحد منهم يضاهي عشرة أبدان متلفعين في البرنس الواحد. لم تشفع لهم بسطاتهم المتينة تلك من أن يكونوا حطب الحرب ورمادها المستعر، ما بالك بأبناء المستعمرات ذوي القامات المتوسطة؟
1- فرنسا الحرة تستنجد بأبناء المستعمرات لاسترجاع مجد نابليون المتهالك
عندما انتصرت ألمانيا على فرنسا، وتجوَّل هتلر في باريس وقُسمت البلاد إلى قسم تابع لألمانيا، وآخر موالٍ لها في منطقة فيشي، الذي حكمته حكومة بهذا الاسم، ارتأت قيادة فرنسا الحرة أن تنشئ جيشاً جديداً يشارك في تحرير فرنسا بالتعاون مع الحلفاء.
ذهب القائد العام الجنرال هنري غيرو للقاء الزعيمين البريطاني والأمريكي، ونستون تشرشل وفرانكلين روزفلت في أنفا بكازابلانكا المغربية، متوسلاً مده باللباس والسلاح: “نريد سلاحاً وفقط”، حتى إن الرئيس الأمريكي قال كلاماً مهيناً في حق ممثل فرنسا الحرة: “لم يكن شيئاً يذكر لمّا كان إدارياً، ولن يكون شيئاً ساعة يصير زعيماً”.
لم يكن البريطانيون والأمريكيون ينظرون بعين الثقة لفرنسا المتهاوية، إثر تلك الإهانة الألمانية التي سحقت الجيش الفرنسي، في رمش العين، وبددت تلك الصورة المبهرة التي جسدها الإمبراطور الغازي نابوليون بونابرت على مدار عصور.
لم يكن أمام الجنرال غيرو سوى أن يشرع في خطة جديدة لإعادة بعث الجيش الفرنسي، في مظهر جديد؛ لذا فإنه سيطلب لباساً جديداً وسلاحاً جديداً وذخائر جديدة عدا أنه سيحتفظ بـ “خوذة أدريان” الفرنسية، كآخر رمز فرنسي.
وأما الجنود الذين سيرتدون اللباس الجديد فليس ثمة مشكلة، ففرنسا التي لا تزال عبر سلطة المنفى تبسط سيطرتها على مستعمرات كثيرة، ستلجأ مرة أخرى كما فعلت في الحرب العالمية الأولى، لأبناء الجزائر وتونس والمغرب والسنغال، أي أولئك “البشر” الذين ترزح بلدانهم تحت قهر الاحتلال الفرنسي، والذين تصنفهم الأدبيات الرسمية ذات الطابع العنصري بكلمة “الأنديجان” أي “الأهليين”، وهم في مرتبة واقعة بين درجة ما فوق العبد، وما تحت المواطن، والدليل أنها أنشأت مدارس خاصة بالأوروبيين ومدارس خاصة بالأهليين. لكن غير المتساوين في الحياة سيتساوون في الموت، فعبيد الحرب هم الأبطال وهم المحررون.
تشير الإحصائيات الرسمية إلى أن فرنسا جنَّدت، ما بين أعوام 1939 إلى 1947، 325.000 جندي، بينهم 134.000 جزائري، و73.000 مغربي، و26.000 تونسي، و92.000 من إفريقيا السوداء، وأرقام مهولة كهذه تدل على أنهم كانوا يشكلون أكثر من ثلاثة أرباع القوى المسخرة للدفاع عن حياة فرنسا والموت في سبيلها.
2- جحيم عسكري وإنساني في جنان نابولي مونتي كاسينو
سيحمل هذا الجيش اسماً هو الجيش الإفريقي ويخضع لقيادة الجنرال ألفونس جوان المدعو الإفريقي لميلاده في مدينة عنابة الجزائرية، وكانت مهمته الأولى “تحرير فرنسا”، أما جبهة العمل فكانت في العام 1944 تدور رحاها في الأراضي الإيطالية، وتحديداً بصقلية وجنوبي نابولي، بهدف التوغل نحو الأراضي الفرنسية، عبر غزو روما براً.
لكنَّ جنرالاً ألمانياً يدعى ألبرت كيسرلينغ وكنيته “العم ألبرت” و” ألبرت الباسم”، كان بالمرصاد، لما أنشأ قبل ذلك خطاً دفاعياً حمل مسمى “غوستاف” كان الأشهر قوة ومناعة، غير بعيد عن دير مونتي كاسينو، أو “قلعة الإله”، تلك الكنيسة التي شيدها القديس بينديكت في العام 529 ميلادية.
وتلك الجبهة ستكون بدءاً من شهري يناير حتى مايو 1944، على ميعاد مع واحدة من أشرس معارك الحرب الكونية الثانية، فعلى الجانب الفرنسي والحلفاء يتخندق قرابة 400.000 جندي من أمريكا وبريطانيا وفرنسا ومستعمراتهما. وبين مقاتلي الحملة الفرنسية الذين بلغوا 112.000 مقاتل، كان هناك 67.000 جندي من الجزائر والمغرب وتونس والسنغال، صُفِّفوا في كتائب تدربت على معارك الجبال، لمقارعة جيش كيسرلنغ الألماني الذي ناهز 100.000 عسكري، بينهم عتاة الصاعقة والمغاوير.
تبدت المواجهة قاسية الملامح، فالألمان الذين احتلوا أعالي المناطق الجبلية والدير، وجل القمم المحيطة، يتموقعون في الواقع، خلف جدار حديدي شيده النازيون بسخرة 20.000 قروي إيطالي، وهو مرتكز على تحصينات طبيعية، واصطناعية، معززاً بأسلاك شاسعة، وحقول ألغام.
كان خط غوستاف أو “خط الشتاء” يظهر كما لو أنه سور صين طبيعي من الصعب اختراقه، أو حتى الاقتراب منه، دون دفع فاتورة بشرية تشيب من هولها الولدان.
طوال شهور، سيعيش الجنود أياماً مهولة، إذ كانوا يتساقطون فيها مثل الأرانب والذباب، وأما العربات فكانت تحرق في تلك الأراضي الموحلة المليئة بالمستنقعات. أيضاً سيعانون الجوع لتأخر الإمداد كلما تساقطت الأمطار والثلوج، ولأن بعضهم كانوا لا يجدون ما يستدفئون به، سيتبولون، إذن، في أيديهم أملاً في حرارة تساعدهم في تحريك أصابعهم والإمساك ببنادقهم والدفاع عن أنفسهم. وأما المغامرة بتنفيذ مهمات اختراق فكانت تعني الموت حتى إن جنوداً أمريكيين كانوا يلجأون للعب “البوكر” لتحديد الخاسر الذي سيتولى تنفيذ مهمة جلب الماء أو تنفيذ عملية استطلاع أو جس نقاط أعداء ألمان كانت تطلق عليهم كنية “الشياطين الخضر”.