الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه الطيبين الطاهرين أما بعد
فقد طالعتنا الصحف الإعلامية بفتوى جديدة من شخص يدعي العلم والمعرفة يطلق لسانه بالتكفير بلا حق ولا سبب شرعي ، على من يبيح مطلق الاختلاط بين النساء والرجال ، وبفتوى أخرى باطلة مبينية على فكر باطل من مدع ءاخر يدعو فيها لهدم المسجد الحرام تفاديا للاختلاط، وكلاهما عُرِف عنه سابقا فتاوى مماثلة باطلة ، نسأل الله السلامة والعافية ، وإنما شجع هذين وأمثالهما على التمادي في أقوالهم قلةُ من ينكر عليه وضعفُ نيات أغلب الناس وتوانيهم عن القيام بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإلا فإنهم لو فعلوا لما بقي مثل هؤلاء يضللون بأفكارهم المخالفة للشرع أولاد المسلمين من غير رادع ولا زاجر ، فلا حول ولا قوة إلا بالله.
وأما عن مسألة اختلاط النساء بالرجال فالجواب وبالله التوفيق:
إن هذه المسألة تحتاج إلى تفصيل فقد روى الإمام المجتهد ابن المنذر في كتابه الأوسط (ج2/401) عن أنس قال [قدمنا مع أبي موسى الأشعري فصلى بنا العصر في المِرْبَد، ثم جلسنا إلى مسجد الجامع فإذا المغيرة بن شعبة يصلي بالناس والرجال والنساء مختلطون فصلينا معهم]. وروى البخاري في صحيحه عن سهل قال [كان الرجال يصلون مع النبي صلى الله عليه وسلم عاقِدِي أُزرهم على أعناقهم كهيئة الصبيان ويقال للنساء لا ترفعن رؤوسكن حتى يستوي الرجال جلوسًا].
وروى الحافظ ابن حبان عن سهل بن سعد قال [كن النساء يؤمرن في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يرفعن رؤوسهن حتى يأخذ الرجال مقاعدهم من الأرض من ضيق الثياب] أي من ضيق أزر الرجال.
وعند الإمام احمد وأبي داود من حديث أسماء بنت أبي بكر ولفظه [فلا ترفع رأسها حتى يرفع الرجال رءوسهم كراهية أن يرين عورات الرجال]. ففي هذه الروايات دليل على أن النساء كن يصلين خلف الرجال في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وليس بين صفوف الرجال وصفوف النساء ستارة، وقد قال عليه الصلاة والسلام [لا تمنعوا إماء الله مساجدَ الله] رواه البخاري.
قال النووي في شرحه على المهذب ج4/484 ما نصه [ونقل ابن المنذر وغيره الإجماع على أنها ـ أي المرأة ـ لو حضرت وصلّت الجمعة جاز، وقد ثبتت الأحاديث الصحيحة المستفيضة أن النساء كن يصلين خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم في مسجده خلف الرجال، ولأن اختلاط النساء بالرجال إذا لم يكن خلوة ليس بحرام] اهـ.
ثم أليس يجتمع النساء والرجال معًا في مكة المكرمة والمدينة المنورة في موسم الحج وغيره؟
هذا وقد صح في الحديث الذي رواه مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال [لا يدخلن أحدكم على مغيبة إلا ومعه رجل أو رجلان]. وجاء في الموطأ أنه سئل مالك هل يجوز أن يأكل الرجل وزوجته مع رجل ءاخر فقال مالك: لا بأس بذلك إذا كان ذلك على ما يعرف من أمر الناس. فإذا كان جلوسها مع زوجها ورجل أجنبي للطعام جائزًا فكيف بجلوسها في مجلس تتعلم فيه أمور دينها تتلقى فيه من رجل؟!
وقد ثبت في الصحيح أن الرجال كانوا يسألون السيدة عائشة رضي الله عنها عن الأحكام والأحاديث مشافهة، ذكر ذلك الحافظ العسقلاني وغيره، ومن المعروف أن العديد من المحدثات في الماضي تخرجن على العديد من الحفاظ والمحدثين ثم حدثن الرجال، فقد أخذ الحافظ ابن عساكر أفضل المحدثين بالشام في زمانه عن ألف رجل وثلاثمائة امرأة.
وذكر الشيخ ابن حجر الهيثمي الشافعي في فتاويه الكبرى والشيخ أحمد بن يحيى المالكي في كتابه الذي جمع فيه فتاوى فقهاء المغرب المسمى “المعيار” وكان من أهل القرن العاشر توفي سنة 914هـ [إن الاختلاط المحرم ما كان فيه تضام وتلاصق بالأجسام]. وفي صحيح البخاري عن سهل قال [لما عرّس أبو أسيد الساعدي دعا النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه فما صنع لهم طعام ولا قرّبه إليهم إلا امرأته أم أسيد] الحديث. قال الحافظ ابن حجر العسقلاني في فتح الباري (ج9/ص251) [وفي الحديث جواز خدمة المرأة زوجها ومن يدعوه ولا يخفى أن محلّ ذلك عند أمن الفتنة ومراعاة ما يجب عليها من الستر] اهـ.
وهذا هو الحق، مع الصيانة وستر العورات وأمن الفتنة، أما الشخص الذي عرف من نفسه أنه لا يستطيع ان يمنع نفسه ما دام في المجلس من النظر المحرم فاستمراره هناك حرام عليه. ومما يؤكد يا أخي المسلم أن هؤلاء (أي الذين يحرمون مطلقا بلا قيد) مدلسون أن عددًا من النساء المنتسبات إليهم يتلقين المحاضرات في الجامعات من أستاذ أجنبي وقد يكون هذا الأستاذ ينتسب إليهم فكأنهم يبيحون لأنفسهم ما يحرمون على غيرهم وكفاهم هذا خزيًا.
فكن على ذكر أخي المسلم أنه لم يقل أحد من المجتهدين إن اختلاط الرجال بالنساء حرام على الإطلاق، إلا أنهم حرموا الاختلاط الذي فيه تضام وتلاصق وهذه المسألة لا خلاف فيها، وقد كان الرجال والنساء يختلطون في مكة في الطواف والسعي والوقوف وغير ذلك في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم وما زال الأمر كذلك إلى يومنا هذا، وإن حصل تضام وتلاصق في الحج غير متعمد فلا يحرم ذلك لأنه غير متعمد، وقد نص الإمام مالك – كما سبق – أنه لا بأس لو أكلت المرأة مع زوجها بحضور أجنبي إذا كان ذلك على ما جرت به العادة بين الناس، وكانت النساء يصلين في مسجد النبي خلفه وخلف الصحابة الرجال دون ضرب ستر بينهم.
وأما قول إنه صار في هذا الزمان فتنة، فالفتنة وإن كانت زادت في أيامنا هذه إلا أنها كانت موجودة في الماضي أيضًا، ففي زمن سيدنا عمر حصل أن امرأة أعجبت برجل يقال له نصر بن حجاج وكان سيدنا عمر يمشي بالليل ليتفقد أحوال الناس فسمع تلك المرأة تقول:
هل من سبيل إلى خمر فأشربها * أم من سبيل إلى نصر بن حجاج
وفي صحيح ابن حبان أن امرأة حسناء كانت تحضر صلاة الجماعة خلف النبي وأصحابه فصار بعض الصحابة يصلي في صف الرجال الأخير لينظر إليها من تحت إبطه في الركوع فنـزل قوله تعالى {ولقد علمنا المستقدمين منكم ولقد علمنا المستأخرين} (سورة الحجر/ءاية 24) ومع ذلك لم ينهها رسول الله عن الحضور، لكن المعصية على من نظر إلى عورة امرأة، أو نظر إلى غير العورة بشهوة. فالشرع لا يؤخذ بالرأي، إنما الشرع اتباع.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website