جامع “تحت الأرض” في مدينة إسطنبول
هذه المدينة العظيمة كانت في قلب السياسة العربية الإسلامية في مرحلة مبكرة من فجر الإسلام، إذ كانت مصدر تهديد حقيقيّ للإسلام، فكانت مركز استهداف حقيقي من طرف المسلمين الأوائل حتى تمكّنوا من الهيمنة عليها بعد قرون.
وكلما تعمّق المرء في دراسة تاريخ هذه العلاقة ومعالمها الباقية فإنه سيجد آثاراً شاهدة تدلّ على هذه الصلات، وهذه الآثار علامات خافية ومؤشرات غامضة على علاقة ما، ولكنها لا تخبرنا بهذه العلاقة السرية قبل الفتح خاصة لطبيعة العلاقة الأمنية والعسكرية المتوترة دائماً والمصبوغة بالعداوة المستحكِمة رغم أن الجالية المسلمة في القسطنطينية قبل الفتح لم تكن صغيرة.
هناك موضع غريب في ناحية مطلة على بداية خليج القرن الذهبي تنزل إليه نزولاً بدرجات قليلة، وكأنه محفور في صخور الأرض، هو الآن مسجد تقام فيه الصلوات والجُمَع، يقبع حزيناً في ضاحية كركوي التي تعجّ بأخلاق السيّاح من كلّ لون ومشرب، ولا يكاد يظهر لك أيّ شيء يدلّ على أنه مسجد إلا بلافتة تفاجئك في زقاق متفرع من ساحة كركوي غارق وسط الأبنية.
هذا الموضع ينبسط على مساحة واسعة مسكونة بالسكينة والهدوء يقوم على أعمدة عريضة تبلغ نحو 56 عموداً، وكأن هذه الأعمدة تحمل شيئاً ثقيلاً فوقها لا نعلمه، وبين كل عمود وأخيه قوس، وتشكل الأقواس من كل أربعة أعمدة قبة، ولكن المكان يبدو كمخزن قديم أو صهريج ماء أرضيّ كان حرّاس الخليج الذي تقوم حوله المدينة القديمة يتعهّدونه بالرعاية في مواسم الحصار الذي اعتادته هذه المدينة منذ دهر طويل.
الأضرحة الثلاثة واحد منها منفرد وعلى رأسه حوض ماء فيه بكرة قديمة وهو مقام سفيان بن عيينة، وأما الآخران فهما متجاوران متوازيان، والأضرحة الثلاثة مغطاة بالأقمشة الفاخرة الخضراء المزينة بالآيات المطرّزة والمحاطة بالأضواء الخضراء الخافتة، ويأتيها عامة الترك في زيارات خاصة للتبرّك بالصلاة إلى جوارهم والاستئناس بحضرتهم؛ خاصة في رمضان وليلة السابع والعشرين، وهو من أكثر الأماكن زيارة بعد جامع أبي أيوب الأنصاري “سلطان أيوب”.
في كل مرة نسأل أنفسنا عن سرّ وجود ثلاثة مقامات فيه كأنها أضرحة لثلاث شخصيات لم نجد لها أيّ علاقة بتاريخ هذا المكان فيما وصلَنا من معطيات تاريخية، كما أنه لا رابط بين الثلاثة؛ والغريب أن الذاكرة الشعبية تصف هؤلاء الثلاثة بأنهم صحابة!
الاسم الأول مشهور جداً وهو الصحابيّ القرشيّ عمرو بن العاص فاتح فلسطين ومصر، والرجل القويّ في تأسيس دولة بني أمية والمتوفى في النصف الثاني من أربعينيات القرن الأول الهجريّ، ولا نجد له أيّ صلة تاريخية بهذه المدينة رغم كثرة عنائنا في البحث.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
والاسم الثاني لشخص يُدعى وهْب بن هُشيرة، ولم نجد اسماً لأي صحابيّ يحمل هذا الاسم، وقد شوهد لبعضهم تسجيلات زعموا فيها أن هشيرة محرفة عن العَشيرة، وظنّ أن العشيرة اسم أبيه، ويستدلّ على أن هذا الاسم موجود في أنساب العرب ومنه نسلٌ قحطانيّ ينتسب إلى سعد العشيرة، وهو اجتهاد لا قرينة له ولا دليل عليه ولا شاهد يسنده، ولأحدهم رأي له وجاهتُه وهو أن هشيرة في الهجاء العثمانيّ ولسان الترك يدلّ على معنى التنبيه، فكأن هذا الاسم أصله وهب بن منبّه، وهو تابعيّ مشهور تحوّل من اليهودية إلى الإسلام ونقل إلينا طائفة هائلة من الإسرائيليات التي لا تزال تستنزف تراثنا بمرويات غريبة مضللة، ولكن وهب بن منبه هذا يمانيّ ولم نجد له علاقة بالقسطنطينية أيضاً ولم يكن صحابياً، وقد كان له نحو عشر سنين عندما مات عمرو بن العاص، وعاش حتى عام 114 هـ.
والاسم الثالث أحد أئمة الحديث الكبار وهو سفيان بن عيينة الكوفي الذي كان له نحو سبع سنوات عندما مات وهب بن منبه، وظل حيّاً حتى سنة 198 هـ، ولم نجد له أيّ علاقة بالقسطنطينية أيضاً، وهو ليس صحابياً.
هذا المسجد المسمى ييرالتي yeraltı camii ويعني “جامع تحت الأرض” بلغة الترك، وربما سمي “قبو كورشونلو”، وتزعم المعطيات السياحية المنشورة أن فيه ثلاثة قبور لصحابة شاركوا في حصار القسطنطينية عام 714م أي في عامي 95 و96هـ ويقصدون بذلك الحصار الذي قاده مسلمة بن عبد الملك القائد الأموي العظيم، وقد فاتهم أن عمرو بن العاص توفي قبل هذا الحصار بأكثر من أربعين عاماً، وأن سفيان بن عيينة لم يكن قد وُلد بعدُ، وأن وهب بن منبّه إن كان هو ابن هشيرة كان في أواخر أيامه.
وهذا المكان لم يتحوّل إلى مسجد إلا في عهد السلطان محمود الأول على يد القائد البحري مصطفى باشا؛ وكان قبل ذلك مخزناً لذخيرة الرصاص، كما أن إنشاءه يعود لحقبة بيزنطية قريبة من بدء العصر الإسلامي، وربما كان اختيار المكان مرتبطاً بتلك السلاسل الحديدية التي يخرج أحد طرفيها من موضع قريب من هذا المكان ليمتد إلى الضفة الأخرى لمنع السفن من اقتحام الخليج لا سيما بعد اشتداد الغارات البحرية على أحياء العاصمة القديمة وموانئها الصغيرة في هذا الخليج.
وأحسب أن هؤلاء الثلاثة شخصيات أمنيّة أو عسكرية كبيرة كانت تقوم بعمليات خاصة في عمق القسطنطينية قديماً، وربما في زمان مسلمة بن عبد الملك الذي كان يرافق جيشه نفر من الصحابة متأخّري الوفاة، وقد تعرّضوا للقتل فنقلهم رفاقهم إلى هذا الموضع المستور عن العيون والذي اتخذوه مركزاً لعملياتهم السرية، ودُفنوا في عمقه البعيد عن مداخله المشرفة على البحر وأخفوها بين متاع المستودع القديم، وعندما خشي العارفون من انكشاف زعموا للناس أنهم صحابة مقدّسون مدفونون قديماً لا ينبغي مسّ تربتهم واستفزاز عامة الجند المسلمين على أسوار القسطنطينية، وتعهّدوا لهم بدوام إخفائه عن العيون، وظلّ ذلك دهراً حتى كاد يتناساه الناس لولا رؤية الشيخ النقشبنديّ!
وربما كانت هذه الأضرحة مقامات تثبّت رؤى مناميّة شوهد فيها هؤلاء في هذا الموضع لدى بعض الأوتاد أو الأقطاب الصوفيين، وتزعم الرواية الشعبية العثمانية أن الشيخ النقشبندي محمد أفندي قد رأى في المنام مشهد ثلاثة شهداء في قبور سرية مغلقة بالرصاص في هذا المكان عام 1640م فكانت تلك الرؤيا سبباً في تحويل المكان من مستودع إلى مسجد.
وفي العموم فإن هذا المكان الغامض يُضفِي سحراً أخّاذاً في هذا الموضع الجميل من إسطنبول عاصمة آخر خلافة إسلامية عظيمةأمرهم