الحمد لله رَبِ العَالمين والصلاةُ والسلامُ على سيدنا محمد وعلى ءاله وصحبه وسلم. يقولُ اللهُ تعالى (إِنَّ اللهَ لاَ يَظلِمُ مِثقَالَ ذَرَّةٍ) النساء / 40. ويقولُ عزَّ وجلَّ (وَمَا رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلعَبِيِدِ) فُصِّلَت / 46. وقال جلَّ ذكرُهُ (وَمَا اللهُ يُرِيدُ ظُلمًا لِلعَالَمِينَ) ءال عمران / 108.
وقد روى مسلم رحمه الله أنّ الله تعالى يقول في الحديث القدسي “يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي وَجَعَلتُهُ بَيْنَكُمْ مُحَرَّمًا فَلاَ تَظَّالَمُوا…” إلى ءاخر الحديث. هذا الحديث العظيم كان السلف رضي الله عنهم يعظمونه، كان سيدنا أبو إدريس الخولاني إذا حدّث هذا الحديث جثى على ركبتيه. اللهُ عزَّ وجلَّ يمنُّ على عباده بنعمه، وله الحمد والمنَّة على كل نعمه، فقوله عزّ وَجلَّ “يَا عِبَادِي إِنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ عَلَى نَفْسِي” أي تقدست عن الظلم، فالظلم مستحيل في حق الله تعالى؛ لأنَّ الظلم معناه مجاوزة الحد أو التصرف في مِلك الغير بما لا يرضى، والله يتصرف بملكه، فنحن وما نملك ملك لله تعالى فالله لا يُتَصَّورُ في حقّه الظلم.
والظلمُ أنواعٌ كثيرةٌ، وأكبرها وأشدُها على الإطلاق، الشركُ باللهِ والكُفرُ باللهِ، قال عزَّ وجلَّ (إِنَّ الشِركَ لَظُلمٌ عَظِيمٌ) لقمان / 13. وأولُ ما أوصى به لقمان الحكيم ابنه عدم الشرك بالله، لأنه يعلم أنَّ أكبر الظلم وأشده هو الشرك بالله، والله تعالى قال أيضًا (وَالكَافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ) البقرة / 254. أي الكاملون في الظلم أي أن الكافرين ارتكبوا أشد أنواع الظلم. والويل ثم الويل لمن أهلك نفسه بالشرك والكفر لأن له الخلود الأبدي في النار لا يخرج منها.
وما أعظم قول الله تعالى (وَسيَعلَمُ الَّذيِنَ ظَلَمُوا ْ أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ) الشعراء / 227. وقوله تعالى (إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظلِمُونَ النَّاٍسَ) الشورى / 42. وقوله تعالى (وَكَذَلِكَ أّخذُ رَبِّكَ إِذَآ أَخَذَ القُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ) هود / 102. والظلم عاقبته وخيمة وسيئة، لقول الرسول الكريم “الظلم ظلماتٌ يوم القيامة”. ومن الظلم أكل أموال الناس بالباطل وأخذها ظلمًا، فقد روى مسلم رحمه الله أنّ سيدنا محمدًا قال: “أتدرون من المفلس؟” قالوا يا رسول الله: المفلس من لا درهم له ولا متاع، فقال “إنَّ المفلس من أمتي من يأتي يوم القيامة بصلاة وزكاة وحج وصيام، فيأتي وقد شتم هذا، وأخذ مال هذا، ونبش عن عرض هذا، وضرب هذا، وسفك دم هذا، فيؤخذ لهذا من حسناته وهذا من حسناته، فإن فنيت حسناته قبل أن يقضي ما عليه أُخذ من خطاياهم فطُرح عليه ثم طُرح في النار”. فويل للذي يأكل أموال الناس بالباطل ثم يموت من غير توبة فله النار يوم القيامة. وقد صح في الحديث “إنَّ رجالاً يتخوضون في مال الله بغير حق فلهم النار يوم القيامة” رواه البخاري. وقد أوصى الرسول صلى الله عليه وسلم معاذ بن جبل رضي الله عنه لما بعثه إلى اليمن بقوله “واتق دعوة المظلوم فإنه ليس بينها وبين الله حجاب” رواه البخاري. .
حُكيَ أَنَ امرأةً صالحةً كان لها دارٌ بجوار قصرٍ المَلِك. وكانت هذه الدارُ تُشينُ ذلك القصر – أي تؤثر على هيئة القصر وبهائِهِ. وكلما رَامَ المَلِك (أي طَلبَ) منها أن تبيع الدار أبت أن تبيعها منه. فخرجت المرأة ذات يوم في سفرٍ فأمر الملك بهدم الدار. فلما جاءت المرأةُ من السفرِ قالت: مَنْ هَدَمَ داري؟ فقيل لها: المَلِكْ. فرفعت طَرفَهَا ويَديهَا إِلى السمَاءِ وقالت “إِلَهي ومولاي ربَّ العالمَين أنا الضعيفَةُ وأَنتَ القاهِرُ، للضعيفِ معينٌ وللمظلومِ نَاصِر”. ثم جلست فخرج المَلِك في مَوكِبِهِ فلما نَظَرَ إِلَيهَا قال لها: مَا تَنتظِرين؟ قالت: أنتظرُ خرابَ قَصرِكَ.فهزأ بقولها وضحك منها. فلما جُنَّ عليه الليلُ خُسِفَ بِهِ وَ بِقَصرِهِ، ووُجِدَ عَلَى بعض حيطان القصر مكتوبٌ هذه الأبيات:
أتهزأُ بالدعاءِ وَتَزدَريهِ … وَمَا يُدريكَ ما صَنَعَ الدُعاءُ
سِهَامُ الليلِ لا تُخطي ولكِن … لها أمدٌ وللأمَدِ انقضاءُ
وَقَد شَاءَ الإلَهُ بِمَا تَرَاهُ … فَمَا لِلمُلكِ عِندَكُم بَقاءُ
وقد قيل أنه لَمَّا حُبِسَ خالد بن برمك وولده قال: يا أبتي بعد العز صرنا في القيد والحبس فقال: يا بني دعوة المظلوم برت بليل غفلنا عنها، ولم يغفل الله عنها والله تعالى يقول (وَلاَ تَحسَبَنَّ اللهَ غَافِلاً عَمَّا يَعمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُم لِيَومٍ تَشخَصُ فِيهِ الأَبصَارُ) إِبراهيم / 42. وكان يزيد بن حكيم يقول: ما هبتُ أحدًا قط هيبتي رجلاً ظلمته، وأنا أعلم أنه لا ناصر له إلا الله يقول لي “حسبي الله”، فما أقبح الظلم وما أشنعه وسيعلم الظلام غدًا أي منقلب ينقلبون، في يوم تشيب فيه رؤس الولدان.
يُروى أنه كان رجل من بني إسرائيل على ساحل البحر، فرأى رجلاً وهو ينادي بأعلى صوته “ألا من رءاني فلا يظلمنّ أحدًا” قال: فدنوت منه وقلت له: يا عبد الله، ما خبرك، فقال: إني كنت شرطيًا فجئت يومًا إلى هذا الساحل، فرأيت صيادًا قد صاد سمكة، فسألته أن يعطيني إياها فأبى، فسألته أن يبيعها لي فأبى، فضربت رأسه بسوطي وأخذتها منه قهرًا ومضيت بها. فبينما أنا حاملها إذ عضت السمكة على إبهامي، فأردت أن أخلص إبهامي منها فلم أقدر، فجئت إلى أولادي، فلم يستطيعوا تخليص إبهامي إلا بعد تعب شديد. فأصبح إبهامي وقد ورم وانتفخ، ثم ظهرت فيه عيون من ءاثار عضة السمكة. فذهبت إلى طبيب، فلما نظر إلى إبهامي قال لي: هذه ءاكلة (أي غرغرينا) بلا شك، وإن لم تقطع إبهامك هلكت، قال: فقطعت إبهامي، ثم ضربت على يدي فلم أطق النوم من شدة الألم، فقيل لي: إقطع كفك، فقطعته وانتشر الألم إلى الساعد وءالمني، وجعلت أستغيث فقيل لي: إقطعها من المرفق فقطعتها فانتشر الألم إلى الكتف فسُئلت: ما سبب ألمك، فذكرت هذه القصة، فقيل لي: لو كنت رجعت أول الإمر إلى صاحبها فاستحللت منه واسترضيته لعله يسامحك حتى لا ينتشر المرض في جسمك كله. قال: فبقيت أبحث عن الصياد حتى وجدته فوقعت على قدميه أقبلهما وأبكي وأسأله العفو. فقال لي: من انت؟ فقصصت عليه القصة ورأى يدي المقطوعة فبكى حين رءاها وقال: يا أخي قد أحلَلْتُكَ منها. فقلت له: يا سيدي سألتك بالله هل كنت دعوت عليّ لما أخذتها منك؟ قال: “نعم، قلتُ: اللَّهُمَّ هذا يقوى عليّ بقوته على ضعفي، فأخذ مني سمكتي، فأرني فيه قدرتك”.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
ومن الظلم أكل مال اليتيم، قال عزَّ وجلَّ (إِنَّ الَّذِينَ يَأكُلُونَ أَموَالَ اليَتَامَى ظُلُمًا إِنَّمَا يَأكُلُونَ فِي بُطُونِهِم نَارًا وَسَيَصلَونَ سَعيرًا) النساء / 10. قال السدي رحمه الله : يُحشرُ ءاكِلُ مال اليتيم ظلمًا ولهب النار يخرج من فيه ومسامعه وأنفه وعينه، ومن رءاه عرف أنه أكل مال اليتيم.
ومن الظلم المماطلة بحق عليه مع قدرته على الوفاء، وقد ثبت في الصحيح أنّ الرسول صلى الله عليه وسلم قال “مطل الغني ظلم”. وفي حديث ءاخر “ليّ الواجد ظلم يُحل عِرضه وعقوبته” أي من وجد المال ولم يدفعه للذي عليه الحق هذا حلت شكايته وحبسه.
ومن الظلم أن يستأجر إنسانًا ولا يعطيه أجرته رغم أنه استوفى منه العمل لما ثبت في الصحيح قال رسول الله: يقول الله تعالى في الحديث القدسي “ثلاثَةٌ أَنَا خَصْمُهُمْ يَوْمَ القِيَامَةِ، ومن كنتُ خَصْمَه خَصَمْتُهُ: رَجُلٌ أَعْطَى بِيَ ثمَّ غَدَرَ، وَرَجُلٌ بَاعَ حُرًّا فَأَكَلَ ثَمَنَهُ، وَرَجُلٌ اسْتَأجَرَ أجِيرًا فَاسْتَوفَى مِنْهُ وَلَمْ يُعْطِهِ أَجَرَهُ” رواه البخاري، ومعنى خصَمتُه أنه مغلوبٌ لا حُجَّةَ له، ومعنى أعطى بي أي أعطى العهدَ باسمي الذي يبايع إمامًا ثم يتمرد عليه كالذين غدروا بعليّ بن أبي طالب رضي الله عنه من الخوارج وغيرهم بعد أن بايعه المهاجرون والأنصار في المدينة.
ومن الظلم أن يظلم الإنسان زوجته فيضربها بغير حق، أو يمنع عنها النفقة الواجبة، أو يمنعها من تعلم الفرض العيني الديني. ومما حُكي قول بعض العارفين: رأيت في المنام رجلاً ممن يخدم الظلمة والمكاسين بعد موته بمدة في حالة قبيحة فقلت له ما حالك؟ قال: شر حال، فقلت: إلى أين صرت؟ قال: إلى عذاب الله. قلت: فما حال الظَلَمة عنده؟ قال: شر حال، أما سمعت قول الله عزَّ وجلّ (وَسيَعلَمُ الَّذيِنَ ظَلَمُوا ْ أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ) الشعراء / 227.
ومن الظلم أن يتصدى إنسان لتدريس الناس فلا يعلمهم الحق، يفتي بلا علم، يحلل الحرام، ويحرّم الحلال، ويبيح الكفر غير ءابه، يغشهم في دين الله، ويا ويل من غش في دين الله ولم يُعلِم العقيدة الحقَّة ولم يحذّر من الكفر، ويفتي بما يخالف القرءان والحديث النبوي.
ونذكر هذه القصة التي حصلت مع سيدنا موسى عليه السلام التي تدل على عاقبة الظالمين، فقد ذكر الله تعالى في القرءان الكريم قارون وهو ابن عم موسى عليه السلام وقيل غير ذلك، كان من أتباع فرعون مصر الكافرين الذين اتبعوا فرعون على كفره وضلاله، وكان رجلاً طاغيًا فاسدًا غرته الحياة الدنيا، وكان كثير المال والكنوز، وقد ذكر الله تبارك وتعالى كثرة كنوزه وبيّن أن كنوزه كان يثقل حمل مفاتيحها على الرجال الأقوياء الأشداء حتى قيل: إن مفاتيح خزائن كنوزه كانت تحمل على أربعين بغلاً.
يروى أن الله تبارك وتعالى أمر قارون بالزكاة فجاء إلى موسى عليه السلام من كل ألف دينار بدينار، فجمع قارون نفرًا يثق بهم من يني إسرائيل فقال: إنّ موسى أمركم بكل شئ فأطعتموه وهو الآن يريد أخذ أموالكم، فقالوا له: مرنا بما شئت قال: ءامركم أن تحضروا فلانة البغيّ فتجعلوا لها جعلاً أي أجرة فتقذفه بنفسها ففعلوا ذلك فأجابتهم إليه، ثم أتى قارون إلى موسى عليه السلام فقال: إن قومك قد اجتمعوا لك لتأمرهم وتنهاهم، فخرج إليهم نبي الله موسى عليه السلام فمما قاله لهم: من سرق قطعناه ومن زنى وليس له امرأة جلدنا مائة جلدة، وإن كانت له امرأة رجمناه حتى يموت. فقال له قارون: إن بني إسرائيل يزعمون أنك فجرت بفلانة، فقال عليه السلام: أدعوها، فلما جاءت قال موسى عليه السلام: أقسمت عليكِ بالذي أنزل التوراة إلا صدقت، أنا فعلت بك ما يقول هؤلاء؟ قالت: لا، كذبوا ولكن جعلوا لي جعلاً على أن أقذفك، فسجد موسى عليه السلام ودعا الله عليهم فأوحى الله تعالى إليه: مُرِ الأرض بما شئت تطعك، فقال موسى عليه السلام: يا أرض خذيهم، فاضطربت دار قارون وساخت به وأصحابه إلى الكعبين وجعل يقول: يا موسى ارحمني، قال: يا أرض خذيهم، فلم يزل يستعطفه حتى ابتلعته الأرض إلى العنق وجعل يقول: يا موسى ارحمني، وهو يقول: يا أرض خذيهم حتى خُسِفَت بهم.
أجارنا الله من الظلم والظالمين وحشرنا مع أحباب سيد المرسلين محمد عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.