هو الذي ولد فى عهد الحروب الضروس، وغزو التتار لبلاد العرب، وما تم فتحه على يد المسلمين، فتحكمه عن دون إرادة كاملة سيكولوجيا المواطن المهدد في بيته وماله ودينه، وظنه بأنه المحارَب من قبائل وحشية لا تعرف التوحيد، مما قد يشكل لديه آلية دفاعية تلقائية دون وعي كامل، وهو البادي بجلاء فى فتاواه الخاصة بالجهاد، وتقسيم العالم لديار إسلام وديار كفر، بل إن المرحلة الزمنية نفسها كفيلة بأن تجعل منه بطلًا قوميًا يناضل ضد الدموية التترية، بل تنشىء رمزًا مدافعًا عن الناس، وهو ما لا ينكر على الرجل، فهو ما لم ينفه المؤرخون على اختلافهم، ولا ندخل فى صدق نواياه، فلقبه أتباعه بـ«شيخ الإسلام» نظرًا لخطابه الممتلىء عنفًا يليق بطبيعة الفورة الجماهيرية حينها
لى صعيد آخر، عاصر ابن تيمية مرحلة محاكم التفتيش الأسقفية فى أوروبا، والتى اتهمت كل من خالف الكنيسة فى روما بالهرطقة، وبخلفية دينية تدعى محاربة البدع، فشنت هجومًا داميًا على مجموعات كبيرة من الحركات الشعبية التى انتشرت فى أوروبا، والتى كانت تعتبرها الكنيسة بدعة أو ردة عن المسيحية، خاصة الكاثارية والوالدنسية فى جنوب فرنسا وشمال إيطاليا، فتجد أن أفكاره عما أطلق عليه الردة أشبه بما أسماه بعض من رجال الدين المسيحي فى عهده بالهرطقة، بل تكاد تكون وسائل العقاب والقتل واحدة، فقد أنشئت هذه المحاكم بشكل منظم فى أوائل القرن الثالث عشر بقرار من البابا جرينوار التاسع وذلك عام 1233، وكان هدفها محاربة الهرطقة فى كل أنحاء العالم المسيحي، والمقصود بالهرطقة هنا أى انحراف ولو بسيط عن العقائد المسيحية الرسمية «لاحظ كلمة رسمية»، وقد كلف بها رجال الدين فى مختلف المحافظات والأمصار، فكل واحد منهم كان مسؤولاً عن ملاحقة المشبوهين فى إيبارشيته، وكانت الناس تساق سوقًا إلى محكمة التفتيش عن طريق الشبهة فقط، أو عن طريق وشاية أحد الجيران.. كانوا يعرضون المشبوه به للاستجواب حتى يعترف بذنبه بنظرهم، فإذا لم يعترف انتقلوا إلى مرحلة أعلى فهددوه بالتعذيب- وهو ما تفعله داعش وغيرها من الحركات الوهابية كما سبق أن حدث فى مصر منذ أكثر من عامين، وفى بعض من القرى السورية.. إلخ فى استناد لضعاف الأحاديث ومختلق الروايات- وعندئذ كان الكثيرون ينهارون ويعترفون بذنوبهم ويطلبون التوبة، وأحيانًا كانت تعطى لهم ويبرأون، لكن إذا شكّوا بأن توبتهم عندهم ليست صادقة عرضوهم للتعذيب الجسدي حتى ينهاروا كليًا، وإذا أصرّ المذنب بنظرهم على أفكاره ورفض التراجع عنها فإنهم يشعلون الخشب والنار ويرمونه في المحرقة، وهو ما يتفق مع شروح ابن تيمية حول قتل من يراه مرتدًا دون إعطائه حق الاستتابة أن كان مجاهرًا، بل وتعذيبه على الشبهة، ثم ذهب ابن تيمية وتلميذه ابن القيم لجواز «المثلة قصاصًا»
من هنا تجد أن ابن تيمية هو ابن لمرحلة تاريخية امتلأت فى شقيها، الشرقي والغربي، بتطرف فكري لم يأت مثيلًا له فى حقب تاريخية تالية جرفت ابن آدم «ابن تيمية» إلى تشدد، وتتقاذفه بين دور أشبه بالنشاط السياسي المتحمس لوطنه ودولته، وبين الداعية إلى دين جديد، فتاه الرجل غير المعصوم متقاذفًا بين أمواج لم ينقذه منها قراءته لفلسفات أفلاطون وأرسطو التي فحصها فى شبابه، وكتب فيها ناقدًا فتحول من اعتدال مُبشِر إلى إجحافٍ مُكفِر
ليعلم أن أحمد بن تيمية هذا الذي هو حفيد الفقيه المجد بن تيمية الحنبلي المشهور، ولد بحران ببيت علم من الحنابلة، وقد أتى به والده الشيخ عبد الحليم مع ذويه من هناك إلى الشام خوفا من المغول، وكان أبوه رجلا هادئا أكرمه علماء الشام ورجال الحكومة حتى ولّوه عدة وظائف علمّية مساعدة له، وبعد أن مات والده ولّوا ابن تيمية هذا وظائف والده بل حضروا درسه تشجيعا له على المضيّ في وظائف والده وأثنوا عليه خيرا كما هو شأنهم مع كل ناشئ حقيق بالرعاية. وعطفهم هذا كان ناشئا من مهاجرة ذويه من وجه المغول يصحبهم أحد بني العباس- وهو الذي تولى الخلافة بمصر فيما بعد، ومن وفاة والده بدون مال ولا تراث بحيث لو عيّن الآخرون في وظائفه للقِىَ عياله البؤس والشقاء. وكان في جملة المثنين عليه التاج الفزاري المعروف بالفركاح وابنه البرهان والجلال القزويني والكمال الزملكاني ومحمد بن الحريري الأنصاري والعلاء القونوي وغيرهم.
بداية انحراف ابن تيمية
ثناء هؤلاء غرّ ابن تيمية ولم ينتبه إلى الباعث على ثنائهم، فبدأ يذيع بدعا بين حين وءاخر، وأهل العلم يتسامحون معه في الأوائل باعتبار أن تلك الكلمات ربما تكون فلتات لا ينطوي هو عليها، لكن خاب ظنهم وعلموا أنه فاتن بالمعنى الصحيح، فتخلّوا عنه واحدا إثر واحد على توالي فتنه
خرق ابن تيمية للاجماع في الاصول والفروع
ثم إن احمد ابن تيمية وإن كان ذاع صيته وكثرت مؤلفاته وأتباعه، هو كما قال فيه المحدث الحافظ الفقيه ولي الدين العراقي ابن شيخ الحفاظ زين الدين العراقي في كتابه الأجوبة المرضية على الأسئلة المكية: “علمه أكبر من عقله “، وقال أيضا: “إنه خرق الإجماع في مسائل كثيرة قيل تبلغ ستين مسألة بعضها في الأصول وبعضها في الفروع خالف فيها بعد انعقاد الإجماع عليها”. اهـ. وتبعه على ذلك خلق من العوام وغيرهم ممن اضلهم الله، فأسرع علماء عصره في الرد عليه وتبديعه، منهم الإمام الحافظ تقي الدين السبكي قال في الدرة المضية[1] ما نصه: “أما بعد، فإنه لما أحدث ابن تيمية ما أحدث في أصول العقائد، ونقض من دعائم الإسلام الأركان والمعاقد، بعد أن كان مستترا بتبعية الكتاب والسنة، مظهرا أنه داع إلى الحق هاد إلى الجنة، فخرج عن الاتباع إلى الابتداع، وشذ عن جماعة المسلمين بمخالفة الإجماع، وقال بما يقتضي الجسمية والتركيب في الذات المقدس، وأن الافتقار إلى الجزء- أي افتقار الله إلى الجزء- ليس بمحال[2] ، وقال بحلول الحوادث بذات الله تعالى، وأن القرءان محدث تكلم الله به بعد أن لم يكن، وأنه يتكلم ويسكت ويحدث في ذاته الإرادات بحسب المخلوقات، وتعدى في ذلك إلى استلزام قدم العالم، والتزامه بالقول بأنه لا أول للمخلوقات فقال بحوادث لا اول لها، فأثبت الصفة القديمة حادثة والمخلوق الحادث قديما، ولم يجمع أحد هذين القولين في ملة من الملل ولا نحلة من النحل، فلم يدخل في فرقة من الفرق الثلاث والسبعين التي افترقت عليها الأمة، ولا وقفت به مع أمة من الأمم همة، وكل ذلك وإن كان كفرا شنيعا مما تقل جملته بالنسبة لما آحدث في الفروع “. ا.هـ.
انحراف تلامذة ابن تيمية عنه بعد انكشاف زيغه وضلاله
وكان الحافظ شمس الدين الذهبي وهو من معاصري ابن تيمية مدحه في أول الأمر ثم لما انكشف له حاله من الزيغ والضلال قال في رسالته بيان زغل العلم والطلب 10 ما نصه: “فوالله ما رمقت عيني أوسع علما ولا أقوى ذكاء من رجل يقال له ابن تيمية مع الزهد في المأكل والملبس والنساء، ومع القيام في الحق والجهاد بكل ممكن، وقد تعبت في وزنه وفتشه حتى مللت في سنين متطاولة، فما وجدت أخره بين أهل مصر والشام ومقتته نفوسهم وازدروا به وكذبوه وكفروه إلا الكبر والعجب وفرط الغرام في رئاسة المشيخة والازدراء بالكبار، فانظر كيف وبال الدعاوى ومحبة الظهور، نسأل الله المسامحة، فقد قام عليه اناس ليسوا بأورع منه ولا أعلم منه ولا أزهد منه، بل يتجاوزون عن ذنوب أصحابهم وءاثام أصدقائهم، وما سلطهم الله عليه بتقواهم وجلالتهم بل بذنوبه، وما دفع الله عنه وعن أتباعه أكثر، وما جرى عليهم إلا بعض ما يستحقون، فلا تكن في ريب من ذلك “. اهـ. وهذه الرسالة ثابتة عن الذهبي لان الحافظ السخاوي نقل عنه هذه العبارة في كتابه الإعلان بالتوبيخ 11، وقال: “وقد رأيت له- أي للحافظ للذهبي- عقيدة مجيدة ورسالة كتبها لابن تيمية هي لدفع نسبته لمزيد تعصبه مفيدة ” اهـ. ثم قال في موضع ءاخر فيه ما نصه12: “فإن برعت في الأصول وتوابعها من المنطق والحكمة والفلسفة وءاراء الأوائل ومحارات العقول، واعتصمت مع ذلك بالكتاب والسنة وأصول السلف، ولفقت بين العقل والنقل، فما أظنك في ذلك تبلغ رتبة ابن تيمية ولا والله تقاربها، وقد رأيت ما ءال أمره إليه من الحط عليه والهجر والتضليل والتكفير والتكذيب بحق وبباطل، فقد كان قبل ان يدخل في هذه الصناعة منورا مضيئا على محياه سيما
“شرعنة” التطرف
في أطروحته “تأويل فكر ابن تيمية لدى جماعات التطرف الديني”، يقول الباحث هاني نسيرة، إن “ابن تيمية لم يكن مرجعا للتيارات السلفية المتطرفة وتنظيماتها المختلفة فحسب، بل كان ملهما لمنظري فكرة “الحاكمية” وأمراء هذه التنظيمات، ينتقون ما يوافقهم منه دون ما يخالفهم، مما يخطئون فيه”.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
ابن تيمية في ميزان الشرع
ثمَّ إنَّ ابنَ تيميةَ وإن كانَ ذاعَ صيتُه وكَثُرَتْ مؤلّفاتُه وأتباعُه، هوَ كما قالَ فيه المحدثُ الحافظُ الفقيهُ وليُّ الدين العراقيّ في كتاب [ الأجوبة المرضية على الأسئلة المكية ] : ” إنّه خَرَقَ الإجماعَ في مسائلَ كثيرةٍ قيلَ تبلغُ ستينَ مسألةً بعضُها في الأصولِ – أي في العقائدِ – وبعضُها في الفروعِ – أي في الفقه – خالف فيها بعدَ انعقادِ الإجماع عليها ” اهـ . وتَبِعَه على ذلكَ خلقٌ من العوامِ وغيرُهم، فأسرعَ علماء عصرِه في الرَّدِّ عليه وتبديعِه، منهم الإمامُ الحافظُ تقيُّ الدينِ عليُّ بنُ عبدِ الكافي السبكيُّ قال في الدُّرَّةِ المُضِيَّةِ(1) ما نصُّه : ” أما بعدُ، فإنّه لمّا أحدثَ – أي ابتدعَ – ابنُ تيميةَ ما أحدثَ في أصولِ العقائدِ، وتقضَ مِنْ دعائِمِ الإسلامِ الأركانَ والمعاقدِ، بعدَ أنْ كانَ مستترًا بتبعيّة الكتابِ والسنةِ، مظهِرًا أنه داعٍ إلى الحقِّ هادٍ إلى الجنّةِ فَخَرَجَ عن الاتباعِ إلى الابتداعِ، وشذَّ عن جماعةِ المسلمينَ بمخالفةِ الإجماعِ، وقال بما يقتضي الجسميةَ والتركيبَ في الذاتِ المقدسِ ” اهـ .
وأمّا مقالاتُه التي خالفَ فيها في أصولِ الدينِ فمنها قوله : ” إنَّ العالمَ قديمٌ بالنوعِ ولم يزلْ مع اللهِ مخلوقٌ دائمًا “، ومنها قولُه بالجسميةِ والجهةِ والانتقالِ، وهو مردودٌ .
وصرَّحَ في بعضِ تصانيفِه بأنَّ اللهَ تعالى بقدْرِ العرشِ لا أكبر منه ولا أصغر، تعالى اللهُ عنْ ذلكَ، ومنها قولُه إن الأنبياءَ عليهم السلام غير معصومين، وإن نبيَّنا عليه الصلاة والسلام ليس له جاهٌ ولا يتوسلُ به أحدٌ إلا ويكونُ مخطئًا، وأنّ إنشاءَ السفرِ لزيارةِ نبيِّنا صلى الله عليه وسلم معصيةٌ لا تُقْصَرُ فيها الصلاةُ، وبالغَ في ذلكَ ولم يقلْ بها أحدٌ من المسلمينَ قبلَه . وأنَّ عذابَ أهلِ النار ينقطعُ ولا يتأبَّدُ، حكاهُ بعضُ الفقهاءُ عنْ تصانيفِه .
وقد استُتيبَ مرات وهو ينقضُ مواثيقَه وعهودَه في كلِّ مرةٍ حتى حُبِسَ بفتوى مِنَ القُضاةِ الأربعةِ الذينَ أحدُهم شافعيٌّ وهو القاضي بدرُ الدينِ محمدُ بنُ إبراهيم بن جماعة، والآخرُ مالكيٌّ وهو القاضي محمدُ بنُ أبي بكرٍ، والآخرُ حنفيٌّ وهو القاضي محمدُ بنُ حرير الأنصاريُّ، والآخرُ حنبليٌّ وهو القاضي أحمدُ بن عمر المقدسيُّ، – ذكرَ ابنُ المعلمِ القرشيُّ في كتاب [ نجم المهتدي ورجم المعتدي ] أن القضاةَ الأربعة حكموا على ابن تيميةَ بالحبسِ – وحكموا عليه بأنّه ضالٌّ يجبُ التحذيرُ منه كما قال ابنُ شاكر الكُتُبي في عيونِ التاريخِ وهو من تلامذةِ ابن تيميةَ، وأصدَرَ الملكُ محمدُ بن قلاوون منشورًا ليُقْرَأَ على المنابرِ في مصرَ وفي الشامِ للتحذيرِ منه ومِنْ أتباعِه واعْتُقِلَ بالقلعَةِ إلى أنْ ماتَ سنةَ 728 هـ .