الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد النبي الأمين وعلى آله وصحبه الغر الميامين
حفظُ القُرءانِ منَ النِّعَم العظِيمةِ التي ينَالُهَا المسلِمُ ومِن أَعظَمِ القُربَاتِ إلى اللهِ تَعالى ويَنبغي الحثُّ على مُذَاكَرتِه كمَا جاءَ في الحديثِ الصّحيحِ عن أبي موسى الأشعريِّ رضيَ اللهُ عنهُ عن النّبي صلى الله عليه وسلم قال (تَعَاهَدُوا القُرءانَ، فَوَالذي نَفسُ محَمّدٍ بيَدِه لهُوَ أَشَدُّ تَفَلُّتًا مِنَ الإبِل في عَقُلِهَا) رواه مسلم.
وهوَ مِن فُروضِ الكِفَايةِ الذي إنْ قامَ بهِ البَعضُ سقَطَ عنِ البَعضِ الآخَرِ لا مِنْ فُروضِ العَينِ فلا يجِبُ على جمِيعِ المسلمِين إلا أنّ حِفظَ الفاتحة مِن فُروضِ العَين لأنّ الصّلاةَ لا تصِحُّ بدُونها ، والفَرقُ بينَهُما جَلِيٌ . وهَذا المعنى إجماعٌ منَ الأُمّةِ ظَاهِرٌ لا يخفَى فلا يُخرَجُ عنه تحتَ اسمِ الحثِّ على حفظِ القرءان إلى القَولِ بأنّ مَن حفِظَ شَيئاً منَ القُرءانِ ثم نَسِيَهُ أو نَسِيَ بعضًا مِنه بمعنى نَقْصِ حِفظِه عمّا كانَ عليه معصيةٌ كبيرة , بل ذلك غُلوٌّ في الدِّين يؤدِّي إلى جَعلِ الحَرج في الدِّين وإلى عَكسِ مَقصُودِ القَائلِ بهِ حيثُ ينفِّرُ الناسَ عن حِفظِ القُرءانِ ولو القليل منه بدَل تَشجِيعهِم على حِفظِه لئلا يَقَعُوا في الكبيرةِ إذا نَسُوا مِنه شَيئاً بحَسَبِ دَعْواهُم الفَاسِدة وقَد سُمِعَ ذلكَ مِن بَعضِ مَن بَدَأ بِحفظِ القُرءانِ حيثُ قال إنْ كانَ في نِسيانُ شَىءٍ منَ القُرءانِ مَعصِيةً فالأَسْلَمُ أنْ لا أَحفَظ حتى لا أقَع في المعصيةِ إنْ نسِيتُه.
وهَل أمرُ النّسيانِ بيدِ الشخصِ؟ ومَا سُمِّيَ الإنسانُ إنسانًا إلا لنَسْيِه، وإلا فلا يَكادُ يَسْلَمُ شَخصٌ واحِدٌ مِنْ أُمّةِ محمّدٍ صلى الله عليه وسلم مِنَ الكبَائرِ. فإذاً هذَا الفَهمُ. أي القَولُ بأنّ مَن نَسِيَ شَيئاً مِنَ القرءانِ يكونُ واقعًا في كبيرةٍ مُصادِمٌ ومُعارضٌ للإجماع كما تقَدّم وللنصُوصِ الحديثيةِ الصّحيحةِ والصّريحةِ التي يأتي بَيانها، ولكن يجدُر قَبلَ ذِكرِها التّنويهُ بالقَاعدةِ الشّرعية التي تَقولُ: إنّ القرءانَ لا يُعارِضُ بَعضُه بعضًا والحديثَ لا يُعارضُ بَعضُه بعضًا وكذلكَ القُرءانُ لا يُعارض الحديثَ والحديثَ لا يُعارِضُ القُرءان.
فمِن هذِه الأحَادِيث
ما رواه ابنُ ماجَه والبيهقيّ عن ابنِ عباس أن رسولَ الله صلى الله عليه وسلم قال (إنّ اللهَ تجَاوَزَ لي عن أُمّتي الخطَأَ والنِّسيانَ ومَا استُكرِهُوا علَيه) وهو حديثٌ مشهورٌ على أَلسِنَةِ النّاسِ. وقال الحافظ النووي في الأربعينِ النّووية عنهُ حديثٌ حَسن. وروى البخاري في صحيحه من طريقِ عائشةَ أنها قالت: سمعَ رسولُ الله صلى الله عليه وسلم رجُلاً يَقرأُ في سورةٍ بالليل فقال (يَرحَمُه الله لقَد أَذكَرني آيةَ كذَا وكذا كنتُ أُنسِيتُها مِن سورةِ كذا وكذا). وفي روايةٍ “نُسِّيتُها” وفي رواية “أسقَطتُها” هذا مع ملاحَظةِ ما قالَهُ الحافظُ العَسقلاني “فأمّا قَبلَ التّبليغِ فلا يجوزُ عليه النِّسيانُ أَصْلاً”. وروى البخاريُّ أيضاً في صحيحِه أنه صلى الله عليه وسلم أسقَطَ ءايةً في الصلاةِ فلَمّا فَرَغَ مِنهَا قال: أَفي القَومِ أُُبيّ؟ قالَ نَعم يا رسولَ الله، قال (فلِمَ لم تُذَكِّرني)؟ قال (خشِيتُ أَنها رُفِعَت) فقال النبي صلى الله عليه وسلم (لم تُرفَع ولكِني نُسِّيتُها).
ولا يَسُوغُ لنا بَعدَمَا عَلِمنا بهذه الأحاديثِ الصحيحةِ الإسنادِ كما رأَيت أن نَبقى أُسَراءَ التّقليدِ في غَيرِ مَعنًى. وإلا فهلْ يقالُ إنّ الرسولَ صلى الله عليه وسلم ارتكَبَ كَبيرةً لمجرّدِ أنّهُ نَسِيَ آيةً أو آياتٍ مِن كتابِ الله؟! وهَل يُقالُ إنّ الإمامَ إذا نَسيَ في صَلاتِه ءايةً كانَ عاصِياً ؟!
وفي تَراجمِ بَعضِ العُلماءِ أنّ بعضَهُم نَسيَ ما كانَ حفِظَهُ مِن كتابِ اللهِ كمَا في الميزانِ للذّهَبي. وقَد قيلَ: وما سُمِّيَ الإنسانُ إنساناً إلا لنَسْيِه . [فظَهَر بذلكَ أنّ في تَرتِيبِ المعصِيةِ على مَن نَسِيَ بَعضَ مَا كانَ حفِظَهُ مِنَ القُرءانِ حَرجٌ وأَيُّ حَرجٍ ]. أضِف إلى ذلكَ: أنّ أهلَ العِلمِ على أنّ الحديثَ وإنْ رُوِيَ مِن طَريقِ بعضِ الثّقاتِ إذَا خَالَف مَضمُونُه رِوايةَ مَن هوَ أَوثَقُ مِنهُ أو الجمَاعةَ منَ الثِّقات أي مَع كَونِه لا يَقبَلُ الجَمعَ بَينَهُمَا فهوَ حَديثٌ شَاذٌّ يُردُّ ولا يُعمَلُ بهِ، فكَيفَ إن كانَ الحديثُ الذي يُقابِلُ الأحاديثَ الصّحيحةَ حَديثًا ضَعيفًا.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
وكيفَ يُقبَلُ هذا الحديث (عُرِضَت عَليّ ذُنوبُ أُمّتي فلَم أَر ذَنبًا أَعظَم مِن ءايةٍ أُوتِيَها رجُلٌ ثم نَسِيهَا) الذي رواه أبو داودَ وتكَلّم فيهِ التِّرمذي. وقَد صَرّح بتَضعِيفِه الحافظُ النّوويّ في روضةِ الطّالبين وقالَ عنه (ضعيفٌ) والحافظُ ابنُ حجَرٍ العَسقلاني في (فتح الباري شرحِ صَحيحِ البخَاريّ) وهاكَ نصُّ الترمذي في جامِعه: حديثٌ غَريبٌ لا نعرفُه إلا مِن هذَا الوجه، قال وذاكَرتُ به محمدَ بنَ إسماعيلَ -يعني البخاريّ- فلم يعرِفْه واستَغربَه، وقالَ محمدٌ (أي البخاريّ) لا أعرِفُ للمُطّلِب بنِ عبدِ الله سماعًا مِن أحدٍ مِن أصحابِ النبي صلى الله عليه وسلم إلا قَولَه: حدّثَني مَن شهِدَ خُطبَة النبي صلى الله عليه وسلم.
وسمعتُ عبدَ الله بنَ عبدِ الرحمن يقول: لا نَعرفُ للمطّلِب سماعًا مِن أحَدٍ مِن أصحابِ النبي صلى الله عليه وسلم قال عبدُ الله: وأَنكَر عليُّ ابنُ المَدِيني أن يكونَ المطّلِبُ سمعَ مِن أَنسٍ. وكَذا حديث (مَن قَرأَ القُرءانَ ثم نَسِيَهُ لقِيَ اللهَ وهوَ أَجْذَم) قال عنه الحافظُ ابنُ حَجر “وفي إسنادِه مقَالٌ”.
فالحَاصِلُ: أنّ هَذانِ الحَدِيثانِ وإن رُوِيَا وذُكِرَا في بعضِ كُتُبِ الحَديثِ فلا يُقاومَانِ حديثَ ابنِ ماجَه والبيهقي والذي صَرّحَ النوويُ بأنّه حديثٌ حسَنٌ وهو قولُه صلى الله عليه وسلم (إنّ اللهَ تجَاوَزَ لي عن أُمّتي الخَطَأَ والنِّسيانَ ………) ولا حَديثَي البخاري (يَرحمُه اللهُ لقَد أَذْكَرني آيةَ كذَا وكذَا كنتُ نُسِّيتُها) وقولهُ (لم تُرفَع ولكنّي نُسِّيتُها).
تَنبيهٌ هَامّ: كيفَ يجوزُ على الرسول أن يقولَ إنّ نِسيانَ ءايةٍ أَعظَم مِن كلِّ الذّنوب؟ ظَاهِرُ هَذا الحديثِ هكذا، هذَا شَىءٌ لا يُعقَل، ومِنَ المعلُومِ أنّ أكبرَ الكبائرِ بعدَ الكُفر قَتلُ المسلم بغَيرِ حَقٍّ ثم الزِّنى، وهذا ظاهِرُه أنّه أعظَمُ منَ الزِّنا والسّرقة، والرسولُ بَرئ مِن هَذا.
رَوى البخاريّ ومسلم وأبو داود والترمذي والنسائي وأحمد (أنّ رجلا قال للنبي صلى الله عليه وسلم: أيُّ الذّنبِ أَعظَم عندَ الله ؟ قال” أنْ تَجعَلَ للهِ نِدًّا وهُوَ خَلقَكَ، قال: ثم أَيّ ؟ قال: أنْ تَقتُلَ ولَدَك خَشيَةَ إمْلاق، قال ثم أيّ، قال أنْ تُزانيَ حَليلَة جَارِكَ). ويؤيّد ذلك ما جاء في قوله تعالى {والَّذينَ لا يَدعُونَ معَ اللهِ إلهاً آخرَ ولا يَقتلُونَ النَّفسَ التي حرَّمَ اللهُ إلا بالحَقِّ ولا يَزنُونَ} وكذلك روى البخاري ومسلم وأبو داود والنسائي (اجتَنِبُوا السّبعَ الموبِقَات) والحديث الذي رواه البخاري ومسلم والترمذي وأحمد (ألا أُنبِئُكُم بأَكبَرِ الكبَائر)
فيتلَخّص مما سَبقَ بَيانُه
أن هذا الحديثَ “عُرضَت عليّ ذنُوبُ أُمّتي …….” ضعِيفٌ، وظَاهرُه يُعارضُ عدَداً منَ الأحاديثِ الصّحيحةِ، ولا يُترَكُ الصّحيحُ للضّعيف، وكَذا لا يؤوّل لأجلِه.
أن حفظ القرءان من فروض الكفاية لا من فروض العين إلا الفاتحة، ولا ينسب مَنْ نسيَ ما حفظَهُ إلى المعصية ولم يتعلق به فرض الكفاية أصلاً ؟!
أن حمل ذلك الحديث على ظاهره معناه أنه لا يكاد يسلم شخص واحد من أمة محمد صلى الله عليه وسلم من الكبائر. وهذا خطر خطير وشر مستطير، وهل أمر النسيان بيد الشخص ؟!
أن حمل هذا الحديث على ذلك المعنى السقيم يحث الناس على الابتعاد عن حفظ القرءان ولو القليل منه بدل تشجيعهم على حفظه. ولذلك تأول أبو يوسف القاضي صاحب الإمام أبي حنيفة حديث (عرضت علي ذنوب أمتي …….) مع ضعفه بأن معناه ترك العمل بالقرءان، بهذا أوّل النسيان الوارد في الحديث، أي بترك العمل به بإضاعة الفرائض وارتكاب الكبائر، ففي المصباح المنير للعلامة أحمد بن علي الفيومي المقرئ صحيفة (231) “ونسيت الشىء أنساه نسياناً مشترك بين معنيين: ترك الشىء على ذهول وغفلة وذلك خلاف الذكر له، والثاني الترك على تعمد، وعليه (ولا تنسوا الفضل بينكم) أي لا تقصدوا الترك والإهمال” ا.هـ
ومثال ذلك في القرءان كثير ومنه ما في سورة الأعراف {قالوا إنَّ اللهَ حرَّمَهُمَا على الكافرين الَّذينَ اتَّخَذُوا دينَهُم لهواً وَلَعِبَاً وغرَّتهُمُ الحياةُ الدنيا فاليومَ ننساهُم كما نسُوا لِقاءَ يومِهِم هذا وَمَا كانُوا بآياتِنَا يَجحَدُون}. قال السدي “نتركهم من الرحمة كما تركوا أن يعملوا للقاء يومهم هذا” وكذا في تتمة هذه الآيات {يومَ يأتي تأويلُهُ يقولُ الَّذينَ نَسُوهُ مِن قبلُ قد جاءَت رُسُلُ ربِّنَا بالحق} أي تركوا العمل به وتناسوه في الدار الدنيا . وكذلك قال أهل العلم في قوله {قالَ كذلكَ أتتكَ آياتنا فنسيتَهَا وكذلكَ اليومَ ُتنسَى}. أي عندما أعرضت عن ءايات الله كذلك اليوم تترك من رحمة الله .
وءاخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين