الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى ءاله وصحبه، أما بعـد، اشترط العلماء الذكورة في الولاية العامة (الخلافة) لما رواه البخاري عَنْ أَبِي بَكْرَةَ قَالَ (لَقَدْ نَفَعَنِي اللَّهُ بِكَلِمَةٍ سَمِعْتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَيَّامَ الْجَمَلِ بَعْدَ مَا كِدْتُ أَنْ أَلْحَقَ بِأَصْحَابِ الْجَمَلِ فَأُقَاتِلَ مَعَهُمْ قَالَ لَمَّا بَلَغَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ أَهْلَ فَارِسَ قَدْ مَلَّكُوا عَلَيْهِمْ بِنْتَ كِسْرَى قَالَ لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً)، ولأن هذا المنصب له أعباء جسيمة، تتطلب قدرة كبيرة لا تتحملها المرأة عادة، ولا تتحمل المسئولية المترتبة على هذه الوظيفة في السلم والحرب والظروف الخطيرة مما يتنافى مع طبيعة المرأة وأنوثتها، فاقتضت حكمة الشرع صرفها عنه، وعدم تكليفها به رحمة بها، وشفقة عليها أولاً، وصوناً له هو ثانياً من أن يوكل إلى من لا يستطيع القيام به فيضيع، وذهب الجمهور من العلماء إلى اشتراط الذكورة في القضاء وقال الحنفية بنفوذ قضائها في غير الحدود والقصاص.
جاء في الإشراف على نكت مسائل الخلاف للقاضي أبي محمد عبد الوهاب بن علي بن نصر البغدادي المالكي (422هـ)، مسألة: لا يجوز أن تكون المرأة حاكمًا، خلافاً لأبي حنيفة في قوله يجوز أن تكون قاضية فيما تقبل شهادتها فيه، ولبعض المتأخرين في قوله يجوز أن تكون حاكماً في كل شيء لقوله صلى الله عليه وسلم (أخِّروهن حيث أخرهن الله) وقوله (إنهن ناقصات عقل ودين) وكل هذا تنبيه على نقص يمنع تقليدهن شيئاً من أمور الدين، وقوله (لا يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة) ولأنّها ولاية لفصل القضاء والخصومة فوجب أن ينافيها الأنوثية كالإمامة الكبرى، ولأن كل من لم يجز أن يكون حاكمًا (في الحدود فكذلك) في غير الحدود كالعبد.
وفي روضة المستبين في شرح كتاب التلقين للإمام العلامة الفهامة الحافظ للفقه والحديث عبد العزيز إبراهيم أبي محمد القرشي التميمي التونسي المالكي المعروف بابن بزيزة (توفّي 662 هـ) قوله (ولا يكون الحاكم عبدًا ولا امرأة) وأما المرأة (فللعلماء في كونها حاكمًا ثلاثة مذاهب، فأجاز الطبري كونها قاضية في كل شيء، ومنعه مالك وجماعة أصحابه في كل شيء، وأجاز أبو حنيفة قضاءها فيما تجاوز فيه شهادتها فقط وروى نحوه عن مالك، والدليل لنا قوله صلى الله عليه وسلم (ناقصات عقل ودين) الحديث وقوله صلى الله عليه وسلم (أخروهن حيث أخرهن الله)، وقوله صلى الله عليه وسلم (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) ولأنها ولاية لفصل الأحكام وتنفيذ القضايا فلا يجوز كالإمامة الكبرى…).
وقال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري المجلد الثامن، بقية كِتَاب الْمَغَازِي، باب كِتَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَى كِسْرَى وَقَيْصَرَ (والمنع من أن تلي الإمارة والقضاء قول الجمهور وأجازه الطبري وهي رواية عن مالك وعن أبي حنيفة تلي الحكم فيما تجوز فيه شهادة النساء). اهـ
وقال الحافظ في الفتح المجلد الثالث عشر، كِتَاب الْأَحْكَامِ، باب مَتَى يَسْتَوْجِبُ الرَّجُلُ الْقَضَاءَ (واتفقوا على اشتراط الذكورية في القاضي إلا عن الحنفية واستثنوا الحدود، وأطلق ابن جرير، وحجة الجمهور الحديث الصحيح (ما أفلح قوم ولوا أمورهم امرأة)).
وقال الحافظ ابن حجر في فتح الباري المجلد الثالث عشر كِتَاب الْفِتَنِ باب الْفِتْنَةِ الَّتِي تَمُوجُ كَمَوْجِ الْبَحْرِ قال ابن التين (احتج بحديث أبي بكرة من قال لا يجوز أن تولى المرأة القضاء وهو قول الجمهور وخالف ابن جرير الطبري فقال يجوز أن تقضي فيما تقبل شهادتها فيه وأطلق بعض المالكية الجواز).
وقال أبو حنيفة يجوز أن تكون المرأة قاضياً في الأموال، وأجاز ابن جرير الطبري قضاء المرأة في كل شىء لجواز إفتائها، وقد رد عليه الماوردي بقوله ولا اعتبار بقول يرده الإجماع مع قول الله تعالى (الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض) إلا أن ابن العربي نفى صحة ذلك عن ابن جرير الطبري وتأول قول أبي حنيفة بأن مراده أن تقضي المرأة فيما تشهد فيه على سبيل الاستبانة في القضية الواحدة لا أن تكون قاضية، قال وهذا هو الظن بأبي حنيفة وابن جرير، ففي أحكام القرآن للقاضي الحافظ أبي بكر بن العربي المعافري الاشبيلي المالكي (المتوفى 543 هـ)، مَسْأَلَة الْمَرْأَةَ لَا تَكُونُ خَلِيفَةً، الْمَسْأَلَةُ الثَّالِثَةُ رُوِيَ فِي الصَّحِيحِ عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ حِينَ بَلَغَهُ أَنَّ كِسْرَى لَمَّا مَاتَ وَلَّى قَوْمُهُ بِنْتَهُ (لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً) وَهَذَا نَصٌّ فِي أَنَّ الْمَرْأَةَ لَا تَكُونُ خَلِيفَةً وَلَا خِلَافَ فِيهِ، وَنُقِلَ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ جَرِيرٍ الطَّبَرِيِّ إمَامِ الدِّينِ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ الْمَرْأَةُ قَاضِيَةً وَلَمْ يَصِحَّ ذَلِكَ عَنْهُ وَلَعَلَّهُ كَمَا نُقِلَ عَنْ أَبِي حَنِيفَةَ أَنَّهَا [إنَّمَا] تَقْضِي فِيمَا تَشْهَدُ فِيهِ، وَلَيْسَ بِأَنْ تَكُونَ قَاضِيَةً عَلَى الْإِطْلَاقِ، وَلَا بِأَنْ يُكْتَبَ لَهَا مَنْشُورٌ بِأَنَّ فُلَانَةَ مُقَدَّمَةٌ عَلَى الْحُكْمِ، إلَّا فِي الدِّمَاءِ وَالنِّكَاحِ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ كَسَبِيلِ التَّحْكِيمِ أَوْ الِاسْتِبَانَةِ فِي الْقَضِيَّةِ الْوَاحِدَةِ، بِدَلِيلِ قَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ (لَنْ يُفْلِحَ قَوْمٌ وَلَّوْا أَمْرَهُمْ امْرَأَةً) وَهَذَا هُوَ الظَّنُّ بِأَبِي حَنِيفَةَ وَابْنِ جَرِيرٍ.
وقال الشيخ خليل في مختصره أهل القضاء عدل ذكر، قال محمد بن أحمد عليش الفقيه المالكي في منح الجليل شرح على مختصر العلامة خليل (فلا يصح تولية امرأة).
واستدل الجمهور من المالكية والشافعية والحنابلة على قولهم بأدلة عديدة، منها:
1- عدم تكليفها بهذه الولايات في عهد النبي صلى الله عليه وسلم وعهد الخلفاء الراشدين ومن بعدهم، وقد قال الله تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم (إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ) النساء 105.
قال ابن قدامة في المغني (لم يول النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من خلفائه ولا من بعدهم امرأة قضاءً ولا ولاية بلد فيما بلغنا، ولو جاز ذلك لم يخل منه جميع الزمان غالبا).
2- قوله تعالى (الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاءِ بِمَا فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ وَبِمَا أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوَالِهِمْ) النساء 34، قالوا فهذه الولاية وهي ولاية الأسرة هي أصغر الولايات، وإذ منع الله المرأة من تولي هذه الولاية، فمن باب أولى منعها من تولي ما هو أكبر منها كالقضاء.
3- قول النبي صلى الله عليه وسلم في حديث أبي بكرة (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) رواه البخاري، قال ابن حجر في الفتح قال ابن التين (احتج بحديث أبي بكرة من قال لا يجوز أن تولى المرأة القضاء وهو قول الجمهور).
4- حديث بريدة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال (القضاة ثلاثة واحد في الجنة واثنان في النار، فأما الذي في الجنة فرجل عرف الحق فقضى به، ورجل عرف الحق وجار في الحكم فهو في النار، ورجل قضى للناس على جهل فهو في النار) رواه أصحاب السنن، قال مجد الدين ابن تيمية في منتقى الأخبار عقبه (وهو دليل على اشتراط كون القاضي رجلا).
5- قال محمد بن أحمد الفاسي في الإتقان والإحكام في شرح تحفة الحكام المعروف بشرح ميارة (واشترطت فيه (أي القضاء) الذكورة لأن القضاء فرع عن الإمامة العظمى، وولاية المرأة الإمامة ممتنع لقوله صلى الله عليه وسلم (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة) فكذلك النائب عنه لا يكون امرأة).
أما المناصب الصغرى التي تستطيع المرأة تحملها وإدارتها بكفاءة، فلا مانع من تقلدها
إن شاء الله تعالى مثل إدارة مستشفى أو مدرسة، فقد ولى عمر رضي الله الشفاء بنت عبد الله العدوية رضي الله عنها مهام الحسبة في سوق المدينة ذكر ذلك الحافظ ابن حجر في الإصابة في ترجمة الشفاء.
وفي تهذيب الكمال عند ترجمة الشفاء قال وكان عمر بن الخطاب يقدمها في الرأي ويرضاها ويفضلها وربما ولاها شيئا من أمر السوق وفي تهذيب التهذيب مثل ذلك.
وروى الطبراني عن يحيى بن أبي سليم قال رأيت سمراء بنت نهيك (وكانت قد أدركت النبي صلى الله عليه وسلم) عليها دروع غليظة وخمار غليظ بيدها سوط تؤدب الناس وتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر، قال الحافظ الهيثمي في مجمع الزوائد المجلد التاسع كتاب المناقب باب في سمراء رضي الله عنها رواه الطبراني ورجاله ثقات.
ولم تقتصر مكانة المرأة في الإسلام على كونها أولَ مؤمنة في الإسلام (السيدة خديجة رضي الله عنها) وأول شهيدة (السيدة سمية رضي الله عنها) وأول مهاجرة (السيدة رقية مع زوجها سيدنا عثمان رضي الله عنهما) بل تعدَّت مكانتُها ذلك عبر العصور والدهور، وأقر النبي صلى الله عليه وءاله وسلم مشاركة النساء في الجهاد والغزوات، فغزت المرأة مع رسول الله صلى الله عليه وءاله وسلم كأم سُلَيم وأم حَرام بنت مِلحان، وأم الحارث الأنصارية، والرُّبَيِّع بنت مُعَوِّذ ابن عفراء، وأم سِنان الأَسلَمِيّة، وحَمنة بنت جَحش، وأم زياد الأشجعية وغيرهن رضي الله عنهن وأرضاهن.
كما نبغ في مختلف مراحل التاريخ الإسلامي الآلافُ من العالمات المُبَرِّزات والمتفوقات في أنواع العلوم العربية والإسلامية، وقد ترجم الحافظ ابن حجر في كتابه الإصابة في تمييز الصحابة لثلاث وأربعين وخمسمائة وألف امرأة، منهن الفقيهات والمحدِّثات والأديبات.
وسبحان الله والحمد لله رب العالمين.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website