تُعتبر مدينة الفسطاط أوّل وأقدم العواصم الإسلامية، وقد بقيت عاصمةً لمصر لمدّة 113 عاماً. وإضافة إلى مكانتها كعاصمة للبلاد، شكّلت المدينة مركز قوة اقتصادية وإدارية، حتى اندلاع الحريق الكبير الذي قضى عليها.
بُنيت الفسطاط بعد الفتح العربي الإسلامي لمصر في العام 20هـ/641م، بعد أن رفض الخليفة عمر بن الخطاب اتخاذ مدينة الإسكندرية عاصمةً للبلاد، وهي التي بقيت عاصمة مصر طوال عهد البطالمة والرومان.
فوقع اختيار عمرو بن العاص على موقعٍ خالٍ من البناء والعمارة لتأسيس العاصمة الجديدة، وأطلق عليها اسم الفسطاط، أي الخيمة، بحسب موقع وزارة السياحة والآثار المصرية.
لم يكن في المدينة سوى الحصن الروماني المعروف بقصر الشمع، عند مدينة منف الفرعونية. فبدأت عمارتها الفعلية ببناء جامع عمرو بن العاص، الذي أُطلق عليه فيما بعد اسم “الجامع العتيق”.
أهمية الفسطاط من أهمية جامع عمرو بن العاص
في الواقع، لا يمكن تحييد جامع عمرو بن العاص عن مدينة الفسطاط، فالاثنان متلازمان. أهمية الجامع العتيق من أهمية أقدم العواصم الإسلامية، التي شكّلت مركز القوة بمصر في ظلّ الدولة الأموية، إلى أن أحرقها الأمير شاور خلال صراعه على الوزارة مع الأمير ضرغام؛ خوفاً من اقتحام الصليبيّين لها.
وفي ذلك الوقت، كانت الفسطاط تقع داخل حدود مدينة القاهرة الحديثة؛ وتُعرف هذه المنطقة اليوم باسم حيّ مصر القديمة، ولعلّه واحد من أبرز الأحياء في القاهرة.
فهو يضمّ العديد من المواقع الأثرية، منها: معبد بن عزرا اليهودي، وكنائس مصر القديمة، وجامع عمرو بن العاص، وحفائر أطلال مدينة الفسطاط، إضافة إلى مقياس النيل في جزيرة الروضة، وقصرَي المانسترلي ومحمد علي.
جامع عمرو بن العاص أنشئ فيها أولاً، حين لم تكن فنون العمارة الإسلامية نضجت بعد، وكان الهدف الأساسي بناء مسجدٍ صغير يصلّي فيه الجنود المتمركزون في الفسطاط، بعدما نجحوا -تحت قيادة عمرو بن العاص- في فتح العريش، ثم بلبيس، إلى أن وصلوا إلى الفسطاط وجعلوها عاصمة البلاد.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
ولعلّ هذا ما يبرّر واقع أنه لم يتبقَّ من أثر الجامع القديم الذي بناه عمرو بن العاص، سوى موقعه واسمه ورمزيته التاريخية. فقد عاصر الجامع نحو 13 قرناً من التغيّرات، فقد نشأ متواضعاً وبسيطاً قبل أن يزدهر ويُذاع صيته، وتبلغ مساحته 13 ألفاً و200 متر مربّع.
اختار القائد ابن العاص، مكاناً مميزاً لإنشاء مسجد في وسط مدينة الفسطاط يطلّ على النيل، وكان عبارة عن حديقة مملوكة لقيسبة بن كلثوم، تبرّع بها. وقد حدّد، مع جنوده، مساحته بما يقارب 323 متراً.
شيّدوه من الطوب اللبن، وصنعوا له 6 أبواب، وحُمّل سقفه المنخفض على سوارٍ من جذوع النخل، كما فُرشت أرضه بالحصباء. بقيت جدران الجامع من دون طلاء، ولم يكن لديه صحنٌ، وألحقوا به بئراً للوضوء.
انتهى الازدهار الذي عرفه جامع عمرو بن العاص في العصر الفاطمي، بكارثة الفسطاط الشهيرة، عندما أُحرقت المدينة في سنة 564هـ خلال النزاع بين الوزيرين شاور وضرغام.
خاف شاور من اقتحام الصليبيين لمصر، فأمر بحرقها؛ تفادياً لوقوعها في أيدي أمالريك، ملك مملكة القدس الصليبية. فانتهى زمن الازدهار.
الفسطاط قبل الحريق.. مركز القوة في مصر
كانت الفسطاط، كما تشير مراجع تاريخية كثيرة، مركز القوة بمصر في ظلّ الدولة الأموية، التي بدأت مع حكم معاوية الأول، وترأس الخلافة الإسلامية من العام 660 إلى 750.
حينها، كانت مصر تُعتبر فقط مقاطعة كبيرة، يحكمها مَن تمّ تعيينهم مِن مراكز إسلامية أخرى، مثل دمشق والمدينة المنوّرة وبغداد. كانت الفسطاط مدينة رئيسية، وقد وصل عدد سكّانها في القرن التاسع إلى 120 ألف نسمة.
اشتهرت المدينة بشوارعها وحدائقها وأسواقها المظلّلة؛ وكانت تحتوي على مبانٍ سكنية شاهقة، يبلغ ارتفاعها نحو سبعة طوابق، والتي يُمكن أن تستوعب مئات الأشخاص.
لكن عندما استولى القائد جوهر الصقلي، من الفاطميين القادمين من شمال إفريقيا، على المنطقة؛ أسَّس مدينة جديدة شمال الفسطاط في العام 969، وأطلق عليها اسم القاهرة. وفي عام 971 نقل الخليفة الفاطمي المعز لدين الله الفاطمي بلاطه من مدينة المنصورية إلى القاهرة.
وبين عامَي 975 إلى 1075، كانت الفسطاط مركزاً رئيسياً لإنتاج الفنّ والخزف الإسلامي، وواحدة من أغنى مدن العالم. ويُشير أحد التقارير إلى أنها دفعت ضرائب تعادل 150 ألف دولار في اليوم لإدارة الخليفة المعز.
وقد كشفت الحفريات الأثرية الحديثة عن ثروة من المواد المدفونة في المدينة؛ بين قطع أثرية تجارية، من أماكن بعيدة مثل إسبانيا والصين وفيتنام، ومخططات معقدة للمنازل والشوارع: غرف مبنية حول فناءٍ مركزي، ورواق من الأقواس، وغيرها.
كانت الفسطاط كذلك، والتي شُيِّدت بالقرب من حصن بابليون، مركزاً رئيسياً للتجارة البحرية الخارجية؛ نظراً لموقعها الجغرافي على النيل، الذي كان يصلها بثغور مصر الشمالية ومدن الصعيد الجنوبية.
تأكد هذا الدور في العصر الفاطمي لاتصالها بالقاهرة، مقرّ الخلفاء الفاطميين. وأصبحت الفسطاط ميناء للتجارة الآتية من الصين والهند وأوروبا، كما أصبحت المركز الرئيسي لحركة النقل المائي.
كانت تتمركز المحال التجارية على طول ساحل الفسطاط، حيث تُفرغ البضائع مباشرة أمام أبوابها. فقد كان من الصعب نقل البضائع على ظهور الدواب، بسبب ازدحام المدينة الكبير.
وقد كتب الرحّالة المقدسي، الذي زار الفسطاط، عن كثرة السفن والمراكب التي رآها بميناء الفسطاط. كذلك فعل الرحّالة “بن سعيد”، الذي قال عن المدينة: “لئن قلت إنني لم أبصر على نهرٍ ما أبصرته على ذلك الساحل، فإني أقول حقاً”.
بقيتْ الفسطاط عاصمة مصر، من حيث القوة الاقتصادية والإدارية، وازدهرت المدينة ونمت بحيث شكّلت ثلث مساحة بغداد تقريباً في عام 987، كما كتب الجغرافي ابن حوكال. بلغت مدينة الفسطاط ذروتها في القرن الـ12، حيث بلغ عدد سكّانها ما يقارب مليوني نسمة.
لكن في العام 1168 وقع حريق الفسطاط بالتزامن مع نهاية الخلافة الفاطمية، فأتى على كلّ المدينة، ولم يبقَ منها إلا بعض من مسجد عمرو بن العاص. ولولا هذا الحريق، لبقيت آثار أخرى من الفسطاط.
كيف وقع الحريق؟
نشب صراعٌ مرير على الوزارة، في عهد الخليفة الفاطمي العاضد بالله، بين الأمير شاور، حاكم الصعيد، والأمير ضرغام أمير فرقة من الجند المغاربة. كان الاثنان يحاولان أن يصلا إلى كرسى الوزارة، ولو على جثة الآخر، والخليفة العاضد يقف متفرجاً يكيد لأحدهما تارةً، ثم ينقلب عليه تارة أخرى.
بلغ الصراع بين الأمراء ذروته عندما استغلّ شاور أطماع الصليبيّين في مصر، ورغبتهم في إقامة إمارة صليبية فيها، فأرسل يحثّهم على مناصرته ضدّ ضرغام مقابل أن يدفع لهم ثلث إيراد مصر.
فانتهز أموري، ملك بيت المقدّس الصليبي، هذه الفرصة وسار بجيشه إلى مصر بدعوى أن شاور لم يدفع له الضريبة المتفق عليها. فاستنجد شاور بالأمير نور الدين محمود بن عماد الدين زَنكي لينقذه من الصليبيّين هذه المرة.
لكن نور الدين كان يدرك لعبة شاور، وتغليبه مصالحه الشخصية على مصلحة البلاد، فقرّر أن يتخلّص من شاور نهائياً وينقذ -في الوقت نفسه- مصر من الوقوع بيد الصليبيّين. فأرسل جيشه بقيادة أسد الدين شيركوه وصلاح الدين الأيوبي ليتخلص نهائياً من شاور والحكم الفاطمي الشيعي والتهديد الصليبي، قبل أن يضمّ مصر إلى الشام تحت إمرته.
وجد شاور نفسه في مواجهة جيشين، الصليبي ونور الدين محمود. ولمّا عرف أن ملكه زائل، عمد إلى اللعب على الطرفين، حيث قام بدفع ثلث ريع مصر (إجمالي الناتج المحلي) إلى نور الدين محمود ليحميه من الصليبيّين، وفي الوقت نفسه قام بتحذير “أموري” من قدوم جيش نور الدين ليكسبه في صفّه.
وبهدف عرقلة دخول الصليبيّين إلى القاهرة، أمر أهل الفسطاط بترك بيوتهم ومحالهم والانتقال إلى القاهرة التي بناها المعز، وحرق المدينة بأكملها.
بقيت النيران مشتعلة فيها 54 يوماً، وكان يمكن رؤية النار من على مسيرة 3 أيام، فسقطت المدينة في حالةٍ سيئة لسنوات وضاع كل أثر لها، باستثناء بعض من جامع عمرو بن العاص.