لم تكن صرخة في واد، بل كانت صدى عابرا للأزمان، ولا يزال يتردد وهجه في المسامع، عابرا شرفات التاريخ وأمواج الأيام، ليستقر في رئة الإباء العربي والنجدة الإسلامية.
ذات صباح من أيام بغداد المفعمة بالعطر والآمال وعبق الخلافة العباسية وأهازيج الصوفية الحقة المعتدلة، يخطو أعرابي غليظ الحذاء مغبر العمامة، ويلقي التحية على الخليفة المعتصم بن هارون الرشيد.
كنت يا سيدي أمير المؤمنين، في سوق عمورية، فإذا بامرأة عربية في السوق مهيبة جليلة تسحل إلى السجن، فصاحت في لهفة: وامعتصماه وامعتصماه.
وتقول رواية أخرى إن الأعرابي قال له: يا أمير المؤمنين، كنت بعمورية فرأيت امرأة عربية تساوم علجا من الروم في بضاعة، فاختلفا فصفعها على حر وجهها، فصرخت: وامعتصماه.
فضحك العلج، وقال: انتظريه حتى يأتيك على حصانه الأبلق لينصرك.
ومهما اختلفت الروايات وتعددت، فالثابت من موجز الخبر أن استغاثة تلك المسلمة المكلومة ترددت أصداؤها في قصر الخلافة، وحركت مشاعر النجدة في الخليفة العباسي المعروف بالإباء والعزة والقوة البدنية، حتى وصفه بعض خاصته بأنه كان يضع ذراع الرجل بين أصبعيه ثم يكسره.
كان حصانه الأبلق يعلك لجامه جامحا لولا أن سائسه يداريه، فقد تعود أن يضمر للمعالي، ويخرج من قتام في قتام.
وليست عمورية إلا واحدة من معارك رمضان ذات التاريخ الأصيل في الانتصار، وعلى مشارف عمورية اليوم المعروفة بهدوئها واحتلال المساحات الخضراء لأكثر من نصفها، جرت إحدى أكبر المعارك العابرة للتاريخ بين المسلمين والروم.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
سار المعتصم في جيش قوامه ٩٠ ألف مقاتل لفتح عمورية استجابة لنداء امرأة صرخت وامعتصماه
فتنة بابك الخرمي.. حلف أعداء الخليفة العباسي
لم تكن شراة العلوية الهاشمية إلا واحدة من أكثر من ألف أسيرة قادها في أغلال الذل والإهانة إمبراطور الروم الشاب المغرور، وقد شقت صرختها سماء التاريخ قبل أن تقع في قلب الخليفة، ليحرك بسببها جيشا ضخما قوامه 90 ألف مقاتل من نخبة المسلمين، ويقودهم خيرة القادة العسكريين للدولة العباسية التي كانت يومها مجتمعا متعدد الأعراق والألوان وحتى الأديان، يستظل تحت راية الإسلام بحكم بني العباس.
لكن صوت شراة لم يكن إلا ارتفاعا لموجات الصدى الأليم الذي تردد طيلة سنوات على حدود الخلافة، منذ انطلاق فتنة بابك الخُرَمي الذي كون جيشا عظيما، وأقام له نحلة عقائدية بالغة التعقيد، فيها إيمان شديد بالحلول وتناسخ الأرواح وعداوة مفرطة للإسلام والمسلمين.
وطوال عهد المأمون كانت فتنة بابك تقض مضاجع المسلمين، خصوصا أنها استطاعت إيقاع ضربات مؤلمة بهم في أماكن متعددة، وقد استطاع المعتصم أن يخمد نار بابك الخرمي وأن يشتت شمل أتباعه، لكنهم نجحوا في الاتصال بإمبراطور الروم، فأوهموه بأن الطريق إلى بغداد سالكة وسهلة، فجهز الرجل جيوشه الفتاكة التي عبرت أمواج الدم وأقامت جسورا من الجماجم والدموع.
وقد كانت بعض أطراف الدولة الإسلامية مثل مدن خط الشام المحاذية لتركيا الآن أكثر المدن عرضة لعدوان إمبراطور الروم توفيل بن ميخائيل كما تسميه المصادر العربية والإسلامية، حتى إن مدينة ملطية لوحدها شهدت أسر أكثر من ألف امرأة مسلمة بعد تقتيل الآلاف من الرجال والنساء والأطفال، وتشويه أجسادهم بالتقطيع والتعذيب الوحشي، وكانت شراة إحدى هؤلاء النسوة اللواتي سامهن الإمبراطور وجنوده سيف العسف، وعلى الضفة الأخرى للتاريخ والضمير انطلق جيش المعتصم، فكانت معركة عمورية.