مأساة سجين عربي تحول إلى فأر تجارب في سجون الاستخبارات المركزية الأمريكية يبدو أنها أيقظت جزءاً من ضمير أمريكا، بعد أن حاولت الاستخبارات الأمريكية إخفاء وجوده للحيلولة دون الكشف عما فعلته بالرجل المعتقل سجن غوانتانامو والذي أطلق عليه لقب “السجين الأبدي”.
ففي صباح يوم 6 أكتوبر/تشرين الأول، جاء تسعة قضاة من المحكمة العليا الأمريكية إلى قاعة المحكمة في واشنطن للاستماع إلى الحجج في نزاعٍ بين الحكومة الأمريكية وأبي زبيدة، وهو سجينٌ في معتقل غوانتانامو احتُجز بمعزل عن العالم الخارجي ودون تهمةٍ خلال العشرين سنة الماضية، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Guardian البريطانية.
خاطب محامٍ حكومي هيئة المحكمة مجادلاً، على أساس “أسرار الدولة”، بأنه يجب منع أبي زبيدة من الاتصال باثنين من متعاقدي وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية للإدلاء بشهادته حول الاستجوابات الوحشية التي خضع لها في موقع أسود مخفي في بولند من قِبل الاستخبارات المركزية نفسها.
في غضون دقائق من ملاحظاته الافتتاحية، قاطعته إيمي كوني باريت، إحدى قضاة اليمين الذين عينهم دونالد ترامب في المحكمة.
أرادت باريت أن تعرف ما الذي ستفعله الحكومة لو قام المقاولون بالإدلاء بشهادة أمام محكمة أمريكية محلية حول طريقة “الإيهام بالغرق” التي مارسوها على أبي زبيدة 83 مرة على الأقل، علاوة على ضربه بالحائط، وتعليقه من يديه في قضبان الزنازين، ودفنه عارياً في صندوقٍ بحجم التابوت لمدة 266 ساعة. وكان ذلك هو الدليل على “تعذيبه والطريقة التي عومِلَ بها”.
لأول مرة قاضية أمريكية عينها ترامب تعترف بأن حكومة بلادها تعذب المعتقلين
“تعذيب”.. قالت باريت الكلمة بلا مبالاة تقريباً، لكن تأثيرها ارتدَّ في قاعة المحكمة وخارجها. باستخدام الكلمة، كانت قد اعترفت فعلياً بأن ما فعلته وكالة الاستخبارات المركزية لأبي زبيدة، وما لا يقل عن 39 معتقلاً آخر في إطار “الحرب على الإرهاب” في أعقاب 11 سبتمبر/أيلول، كان جريمةً بموجب قانون الولايات المتحدة.
انطلق الفيضان بعد أن نطقت باريت بالكلمة. تردَّدَ صدى “التعذيب” في أعلى محكمة في البلاد 20 مرة في ذلك اليوم، ونطقتها باريت ست مرات، ومرة أخرى من قِبَلِ مُرشَّح محافظ آخر لترامب، وهو نيل جورسوش، مع القاضيين الليبراليين سونيا سوتومايور وإيلينا كاجان.
هذا الحديث الواضح على لسان قضاةٍ من كلا الجانبين في المحكمة أذهَلَ المراقبين لتاريخ أمريكا الطويل من الازدواجية والتهرب من هذا الموضوع. قال أندريا براسو، المحامي والمدافع الذي يعمل على محاسبة الولايات المتحدة على انتهاكاتها في مجال مكافحة الإرهاب، لصحيفة The Guardian البريطانية: “الطريقة التي استخدم بها قضاة المحكمة العليا كلمة “تعذيب” كانت رائعة. يمكنك الشعور بإمكانية أن تتغيَّر الأمور”.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
أبو زبيدة يحصل على تعويض من دولة أوروبية
أبو زبيدة، 50 عاماً (الاسم الفعلي زين العابدين محمد حسين) هو فلسطيني سعودي المولد كان أحد الأهداف “عالية القيمة” لوكالة الاستخبارات المركزية في أعقاب أحداث 11 سبتمبر/أيلول. أُلقِيَ القبض عليه في فيصل آباد في باكستان، في 28 مارس/آذار 2002 في مداهمةٍ أُطلِقَت فيها النيران عليه عدة مرات، بما في ذلك في منطقة الفخذ، وقد فقد عينه اليسرى فيما بعد أثناء وجوده في الاحتجاز لدى الولايات المتحدة في ظروفٍ غامضة.
ودفعت ليتوانيا دفعت أكثر من 113 ألف دولار إلى أبو زبيدة، تعويضاً عن السماح لوكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية (CIA) بإبقائه في موقع سري على أراضيها، حيث خضع لأشكال من التعذيب.
يأتي مبلغ الـ113500 دولار بعد أكثر من 3 سنوات على إصدار المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان أمراً إلى الحكومة الليتوانية بدفع تعويض لانتهاك القوانين الأوروبية التي تحظر استخدام التعذيب.
حيث قضت المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان في 31 مايو/أيار 2018، بأن رومانيا وليتوانيا انتهكتا حقوق أبو زبيدة وعبد الرحيم الناشري في 2003-2005 وفي 2005-2006 على التوالي، وأمرت ليتوانيا ورومانيا بدفع تعويضات لكل منهما.
سجين آخر يدلي بشهادة صادمة عن التعذيب والقضاة يطالبون بالعفو عنه
اندهش براسو للمرة الثانية بعد ثلاثة أسابيع عندما أصبح ماجد خان، العضو السابق للقاعدة والمحتجز في غوانتانامو، أول شخص يتحدَّث علانية في المحكمة عن التعذيب الذي تعرَّضَ له في موقعٍ أسود تابع لوكالة الاستخبارات المركزية.
كان وصف خان لتعرُّضه للإيهام بالغرق، وهو عارٍ ومُقيَّد بالسلاسل إلى السقف لدرجة أنه بدأ في الهلوسة، يمثِّل قهراً شديداً لدرجة أن سبعة من أعضاء هيئة المحلفين العسكرية الثمانية كتبوا خطاباً يطالبون فيه بالعفو عنه، قائلين إن معاملته كانت معاملةً سيئة له، و”وصمة عارٍ على النسيج الأخلاقي لأمريكا”.
لماذا أطلقت الاستخبارات الأمريكية برنامج التعذيب المتوحش هذا؟
يبدو أن الأمور تتغيَّر، وكما هو الحال، فإن الاهتمام ينصبُّ مرة أخرى على واحد من أكبر الأعمال في القرن الحادي والعشرين: برنامج التعذيب الأمريكي. في أعقاب حالة الذعر التي تلت أحداث الحادي عشر من سبتمبر/أيلول، عندما بدا العالم وكأنه ينهار من الداخل، اتخذت وكالة الاستخبارات المركزية وجهة نظر مفادها أن الغايات -البحث عن معلومات استخباراتية قابلة للتنفيذ لإحباط المزيد من الهجمات الإرهابية- تبرِّر أيّ وسيلة.
بمباركةٍ حماسية من وزارة العدل والبيت الأبيض بقيادة جورج دبليو بوش، تخلَّت وكالة الاستخبارات المركزية عن القيم الأمريكية وانتهكت القوانين الدولية والأمريكية بتبنيها الوحشية القاسية التي نسخوها بعمدٍ من العدو.
حولوه لخنزير تجارب ويريدون إخفاءه لمنع كشف الحقيقة
أخذوا سجيناً واحداً، هو أبو زبيدة، وجعلوا منه خنزير تجارب. وأخضعوه لتعذيبٍ وحشي، وهما ما يسمونه “تقنيات تعذيبٍ مُعزَّزة”، في تعبيرٍ مُلطَّف وغير دموي. وعندما انتهوا من أسوأ أعمال التعذيب، ومن أجل تجنُّب الملاحقة القضائية المُحتَمَلة، أصرَّت وكالة الاستخبارات المركزية على أن يظلَّ أبو زبيدة “في عزلةٍ عن العالم الخارجي طوال الفترة المتبقية من حياته”.
قال مارك دينبو، رئيس هيئة محامي أبو زبيدة، لصحيفة The Guardian: “صُمِّمَ برنامج التعذيب لشخصٍ واحدٍ فقط، وكان ذلك هو أبو زبيدة”. وأضاف: “بعد تعذيبه، طالبوا باحتجازه بمعزل عن العالم الخارجي إلى الأبد حتى لا تُروى قصته أبداً. منذ تلك اللحظة، الأشخاص الوحيدون الذين تحدَّث إليهم هم معذِّبه، وسجَّانه، ومحاموه، بمن فيهم أنا”.
بعد مرور عشرين عاماً على تعرُّض أبو زبيدة للإيهام بالغرق، وضربه مراراً بالحائط، وحرمانه من النوم، وصفع وجهه، وتقييده في أوضاعٍ مؤلمة، وتقييده بالمياه المتجمدة، وتعريته من ملابسه، وتعذيبه بضوضاءٍ تصمُّ الآذان، لا تزال قصته لم تُروَ بالكامل. في عام 2014.
أوباما قال إن برنامج التعذيب غير مفيد للأمن القومي الأمريكي
أصدرت لجنة الاستخبارات بمجلس الشيوخ مُلخَّصاً تنفيذياً منقوصاً بشدة، مؤلف من 500 صفحة عن تحقيقها الذي استمر سبع سنوات في برنامج التعذيب، مِمَّا دَفَع أوباما إلى استنتاج أن “هذه الأساليب القاسية لم تكن فقط غير متوافقة مع قيمنا، بل إنها لم تخدم أمننا القومي أيضاً”.
ومع ذلك، وبإصرارٍ من وكالة الاستخبارات المركزية، فإن التقرير الكامل الذي استُخلِصَ المُلخَّص منه يظلُّ مخفياً حتى يومنا هذا، بمجلَّداته الثلاثة وصفحاته الـ6,700 وهوامشه البالغة 38 ألف هامش. وكلُّ هذه التفاصيل مُقتَطَفة من 6.2 مليون صفحة من وثائق وكالة الاستخبارات الأمريكية.
ترك الرفض المستمر لإصدار تقرير مجلس الشيوخ الكامل عن التعذيب فجوة سوداء في قلب واحد من أكثر الأحداث المخزية في تاريخ الولايات المتحدة. والآن، مع سماع كلمة التعذيب حتى في القاعات المُقدَّسة للمحكمة العليا بالولايات المتحدة، تتجدَّد الدعوات لنشر التقرير حتى يمكن إغلاق هذا الفصل المؤسف أخيراً.
قال العديد من الأفراد الأكثر انخراطاً في المعركة من أجل معرفة الحقيقة بشأن معاملة أبو زبيدة، لصحيفة The Guardian، إن 20 عاماً فترةٌ طويلةٌ بما يكفي، ولقد حان الوقت لإخبار الشعب الأمريكي بالحقائق الكاملة غير المغشوشة عما حدث باسمه.