الله تعالى جعل للإنسان جوارح ليستعملها في طاعته سبحانه، وسلطان هذه الجوارح وأميرها هو القلب الذي صلاحُه صلاحُ للجسد كله وفساده فساد للجسد كله كما جاء في الحديث الشريف، ومن جملة معاصي القلب التي يقع فيها كثير من الناس من غير انتباه إلى الأذى الذي يكون بسببها، المَنُّ بالصدقة، وهو يبطل ثوابَ تلك الصدقة، كأن يقول لمن تصدّق عليه (أليس أعطيتك كذا يوم كذا وكذا)؟ ، فالمنُّ بالصَّدقة من كبائر الذنوب ومثاله أن يُعدّدَ نِعمتَه على آخذها حتى يكسِرَ قلبَه، أو يَذكرَها لِمَن لا يُحِبُّ الآخِذُ اطّلاعَه عليها.
قالَ الله تعالى (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُم بِالْمَنِّ وَالْأَذَىٰ كَالَّذِي يُنفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلَا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ ۖ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْدًا ۖ لَّا يَقْدِرُونَ عَلَىٰ شَيْءٍ مِّمَّا كَسَبُوا ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ) (264 سورة البقرة)، وإنّما ذكر العلماء المنّ بالصدقة من جملة مَعاصي القَلْب لأنّ المَنّ يكون أصلاً في القلبِ وذلك أنّ المَانَّ يقصِدُ إيذاءَ الشّخصِ فيتفَرَّعُ من ذلك القصد العمَل البَدني وهو ذِكرُ إنعامِه على الشّخصِ بلِسَانهِ.
ومن جملة المعاصي التي يقع فيها الكثيرون كذلك الغيبة، وهي ذِكرك أَخاكَ المسلمَ الحيَّ أو الميّتَ بما يكرَهُه لو سمعَ، سواءٌ كان مِما يتعلقُ ببدنهِ أو نَسَبه أو ثَوبه أو دارِه أو خُلُقِهِ كأن يقولَ فلانٌ قصيرٌ، أو أحوَلُ، أو أبوه دَبّاغٌ أو إسكافٌ أو فلانٌ سيّئ الخُلُقِ، أو قليلُ الأَدَب، أو كثيرُ النّوم، أو كثيرُ الأكل، أو وسِخُ الثياب، أو دارُه رَثَّةٌ، أو ولَدُه فلانٌ قليلُ التّربيةِ، أو فلانٌ تحكمُه زوجتُه، ونحوُ ذلك مِنْ كلّ ما يَعلَمُ أنّه يكرَهُه لو بلَغه.
وروى مسلم من حديث أبي هريرة أن رسولَ الله قال ((أتَدرُونَ ما الغِيبةُ)، قالوا الله ورسولُه أعلمُ، قال (ذِكرُك أخاك بما يكرَهُ)، قال أفرأيتَ إن كان في أخي ما أقولُ، قال عليه الصلاة والسلام (إن كان فيه ما تقولُ فقد اغتَبتَهُ، وإن لم يكن فيه فقد بَهَتَّهُ))، والغيبةُ لأهلِ الصّلاح والتّقوى بلا شكَّ كبيرةٌ من الكبائر، أما التحذير من أهل الباطل ولا سيما في العقيدة فليس من الغيبة المحرّمة بل هذا واجب شرعي.
وجاء في إكمال المعلم بفوائد مسلم للقاضي عياض، كتاب البر والصلة والآداب، بَاب تَحْرِيمِ الْغِيبَةِ (حَدَّثَنَا يَحْيَى بْنُ أَيُّوبَ وَقُتَيْبَةُ وَابْنُ حُجْرٍ قَالُوا حَدَّثَنَا إِسْمَاعِيلُ عَنْ الْعَلَاءِ عَنْ أَبِيهِ عَنْ أَبِى هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ أَتَدْرُونَ مَا الْغِيبَةُ؟ قَالُوا اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ، قَالَ ذِكْرُكَ أَخَاكَ بِمَا يَكْرَهُ، قِيلَ أَفَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ فِى أَخِى مَا أَقُولُ؟ قَالَ إِنْ كَانَ فِيهِ مَا تَقُولُ، فَقَدْ اغْتَبْتَهُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِ فَقَدْ بَهَتَّهُ).
قوله (أتدرون ما الغيبة؟ إلى قوله إن كان فيه ما تقول فقد اغتبته، وإن لم يكن [فيه] (1) فقد بهته) كذا هو بفتح الهاء مخففة، وأخطأ من شددها.
قال الإمام (المازري) يقال بهت فلان فلاناً إذا كذب عليه فبهته، أى يخبر فى كذبه عليه ([فَبُهِتَ] (2) الَّذِي كَفَرَ) (3) أى قطع حجته [فتحير] (4) والبهتان الباطل الذى يتحير فى بطلانه.
قال القاضى (والأولى فى تفسير هذا الحديث أن يكون من البهتان، أى قلت فيه البهتان، ويفسره الحديث الآخر (وإن قلت باطلاً فذلك البهتان) (5) وقيل (6) بهته وأبهته بما لم يفعل، وهو قريب من الأول، قال صاحب الأفعال بهت الرجل دهش، على ما لم يسم فاعله، وهى لغة القرآن الفصيحة، وبهت بضم الهاء جائز، وبهته بهتاً وبهتاناً قذفه.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
الاغتياب محرم، وأصله ذكر الإنسان بما يسوؤه فى غيبته، والبهت فى وجهه، وكلاهما مذموم كان بحق أو باطل، إلا أن يكون لوجه شرعى، أن يقول له ذلك فى وجهه على طريق الوعظ والنصيحة، ويستحب فيمن كانت منه زلة التعريض دون التصريح لأن التصريح يهتك حجاب الهيبة، وقد كان – عليه الصلاة والسلام – كثيراً ما يقول (ما بال أقوام يفعلون كذا) (7) ولا يواجه به، وأما فى الظهر والغيبة ففى مثل تجريح الشاهد والعالم المقتدى به إذا دعت إليه ضرورة، أو فى النصيحة عند المشورة، وإن اكتفى فى المشورة بالتعريض وتركه تعيين العيب فحسن) انتهى كلام القاضي رحمه الله.
(1) ساقطة من ز.
(2) فى هامش ح.
(3) البقرة 258.
(4) فى هامش ح.
(5) الموطأ، ك الكلام، ب ما جاء فى الغيبة، رقم (10).
(6) فى ز وفيه، والمثبت من ح.
(7) حديث رقم (128) فى ك الفضائل، ب علمه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بالله.