كان الهدف المُعلن من محاكم التفتيش في أوروبا والأندلس هو “خدمة الله” حسب معتقدهم البائد، والبحث عن أولئك الذين ارتكبوا ما أُطلق عليه “البدع”، بينما كانت تُعرّف البدع بأنها كل ما يخالف أو يُشتبه في مخالفته للكنيسة الكاثوليكية.
وربما تكون معلوماتك عن محاكم التفتيش لا تتخطّى كونها هيئة قضائية مسيحيّة كانت تحاكم السحرة، لكنّ الأمر أكبر من ذلك بعض الشيء، فقد استخدمت هذه المحاكم أسوأ استخدام من قبل القيادة الكنسيّة، لاستهداف المسلمين في الأندلس واليهود والغجر وغيرهم من الفئات والطوائف المسيحية الأخرى، ناهيك عن الأدوات التعذيبية البشعة التي استخدمها قضاة الكنيسة لانتزاع الاعترافات غصباً عن المتهمين لتثبيت التهمة عليهم ومن ثمّ حرقهم أحياءً!
الضوء الأخضر للتعذيب.. هكذا بدأت محاكم التفتيش
أمّا عن بداية محاكم التفتيش في أوروبا، فقد بدأها البابا إنوسنت الثامن، بابا الفاتيكان، في 9 ديسمبر/كانون الأوّل عام 1484م، عندما اختار كلماته بدقَّةٍ وحزم للتنكيل بكلّ من يتّهم بـ”ممارسة السحر”، وكان هذا جزءاً من خطابه:
“تخلَّى الكثير من الأشخاص من كلا الجنسين، والذين لا يعون شيئاً عن خلاصهم ومدى ضلالهم عن العقيدة الكاثوليكية، وحوّلوا أنفسهم إلى شياطين، وعن طريق تعويذاتهم وتعاضدهم وغيرها من أشكال السحر، ارتكبوا العديد من الجرائم، وقتلوا أطفالاً مازالوا بعد في أرحام أمهاتهم، وكذلك أضروا بنسل الأبقار، وإنتاج الأرض من عنب الكرمة وثمار الأشجار، يعيقون الرجال عن أداء الفعل الجنسي والنساء عن الحمل، حيث لا يستطيع الأزواج معرفة زوجاتهم، لا يتورعون عن ارتكاب أبشع الجرائم والمخاطر، ويغضبون الجلالة الإلهية ويعدّون خطراً على الكثيرين.”
ومن هنا بدأت المأساة الأوروبيّة التي لحقت كل الناس تقريباً، فقد بدأ إنشاء هيئة واضحة المعالم، سرعان ما ذاع صيت بشاعتها: محاكم التفتيش. وإن كانت الفكرة لها جذورها قبل ذلك بقرون، عندما طلب البابا لوسيوس الثالث عام 1184 من الأساقفة إجراء تحقيق قضائي للبدع في أبرشيتهم، وكان الهدف هو سحق “حركة الكاثار الدينية”، والتي اعتبرتها الكنيسة من أسوأ أنواع الهرطقة، فقد أقدم الكاثار على اعتماد طقوس دينية، وعادات غريبة عن بقية العالم المسيحي.
ومن نافلة القول أنّ محاكم التفتيش لم تتعقّب ما أسمتهم “السحرة” فقط، ولكن تعقبت أيضاً اليهود والمسلمين وأجبرتهم على التحوُّل للكاثوليكية في الأندلس، وكان من يُتهم بممارسة شعائره الأصلية سراً يقع تحت طائلة محاكم التفتيش ومحققوها منزوعي الرحمة.
كانت المحاكم تُجرِي عملها من خلال جلسات الاستماع، ولم يعرف الكثير من الناس شيئاً عن طرقهم التعذيبية إلا بعد فترةٍ طويلة من حلّ محاكم التفتيش، فقد استخدمت محاكم التفتيش أيّ وسيلة ضرورية عندهم للحصول على اعترافٍ من المتهمين بأنّهم يمارسون “البدع” أو “السحر” حسب تعبيرهم، وقد كانت كل منطقة تحتاج إلى محاكم تفتيش محلية خاصة بها من أجل مراجعة الحالات واتخاذ القرار بشأنها.
التعذيب من أجل الاعتراف، والحرق حيّاً بعد الاعتراف!
أصبح الأمر مأساةً تراجيديّة بعد ذلك، فقد كان من الممكن لأيّ مواطن أن يدلّ على جاره باعتباره “مهرطقاً” أو “ساحراً مشعوذاً”، لم تكن أساسيات القانون والتحقيق مع المتهمين في ذلك الوقت في أوروبا مثل الآن، كان يكفي وشاية من جارك أو زميلك كي يأتي المحققون يدقُّون بابك، ولا تتخيّل أنّهم سيحققون حقاً في أمرك، بل إنّهم سيفعلون التالي:
سيعذبونك حتّى ينتزعوا منك اعترافاً بأنّك تمارس السحر والشعوذة، وكان يكفي بالنسبة للنساء أن يكنّ متعلّمات حتّى تعتبرهنّ الكنيسة مشعوذات “يتحدّثن مع الشياطين سراً ويغوين الرجال”. إذا لم يعترف الضحيّة بأنّه مشعوذ ومهرطق فسيموت، أمّا إذا اعترف تحت التعذيب فسيحرقونه حيّاً ليخرجوا منه روح الشيطان الشريرة!
أمّا هؤلاء الذين اعترفوا من بداية التحقيق وقبل التعذيب بأنّهم مهرطقون وسحرة ومشعوذون، وأنّهم تابوا فربما يكفي عقاب بسيط، كأن يحرقوا شعر الضحية مثلاً لأنّ الشيطان سيخرج من جسده فقط بالنار حسب قولهم دائمًا!
كان الضحية الذي يعترف بذنبه بالنسبة لهم، كما سبق الذكر، يحصل على عقوبة “مخففة”، لكنّ مشكلة هذا كانت أن بعض الناس قد يعترفون حتى لا يعترف عليهم شخصٌ آخر على الرغم من أنهم قد لا يكونون مذنبين من الأساس حسب تعريق الذنب عندهم، فقد كان البعض يعترفون على أشخاص يعرفون أنهم أبرياء لمجرّد تخليص أنفسهم من محاكم التفتيش، وبالطبع يمكننا الآن أن نقول أنّ غالبية الأشخاص الذين حوكموا في محاكم التفتيش لم يكونوا مذنبين في أي شيء.
محاكم التفتيش في الأندلس للمسلمين واليهود
بدأت محاكم التفتيش في الأندلس حوالي عام 1478، لا شيء مُختلف هنا عن سائر الدول الأوروبية التي أُقيمت بها محاكم التفتيش، لكنّ الجديد في الأمر هو حجم الفوضى والجوانب السياسية المتعددة، فقد كان الهدف من محاكم التفتيش هو أن يتمكن الملك فرديناند والملكة إيزابيلا من فرض سيطرتهم السياسية على إسبانيا وتوحيد السلطة السياسية تحت رايتهما، فاستخدموا الكنيسة.
ولعدة قرون كانت إسبانيا موطناً للعديد من الأديان والتقاليد المتباينة، بما في ذلك الإسلام واليهودية والمسيحية، لذلك كان استخدام الاضطهاد الديني أداة سياسية لتوحيد إسبانيا تحت الدين النصراني في ظل الملكية.
في هذا السياق، وجد ما يسمى بـ “الكونفرسوس” وهو مصطلح يعني “المتحولين” ويُشير بالدرجة الأولى إلى المسلمين واليهود الذي اعتنقوا أو أُجبروا على اعتناق المسيحية الكاثوليكية في إسبانيا، ولكن تم القبض عليهم أو اتهامهم بممارسة دينهم السابق.
كان “الكونفرسوس” أهدافاً لمحكمة التفتيش الإسبانية، وقد كان يعيش الآلاف من هؤلاء المُتحولين في إسبانيا، وخلال 12 عاماً فقط، وتحديداً فيما بين عامي 1480 و 1492 تم التحقيق مع أكثر من 13 ألفاً، وعُقدت معظم هذه المحاكمات تحت سلطة توماس دي توركيمادا، وهو راهب إسباني، ويُعتبر أول محقق عام في محاكم التفتيش في الأندلس في ذلك الوقت، وعُيِّن في عام 1482.
كان توركيمادا راهباً قوياً جداً، وقد حظي بثقة الملكين تماماً، ليس فقط لأنه أول محقق عام في محاكم التفتيش التي نفذت بالكامل ما أراده الملكان، وإنما لكونه أيضاً الراهب الذي كان فرناندو وزوجته إيزابيلا يعترفان أمامه بآثامهما، كانت سلطة توركيمادا مُطلقة ولا تخضع لأحد، وأصبح اسمه مرادفاً لاستخدام التعذيب لانتزاع “الاعترافات”.
آلات التعذيب الوحشيّة في محاكم التفتيش
من ضمن آلات التعذيب التي كانت تستخدمها محاكم التفتيش الإسبانية: مقعد يهوذا، وهو جهاز معدني شبيه بالمقعد، تزينه قمة هرمية خشبية، وكان على الضحية الجلوس عارياً على تلك القمة الهرمية، حتى تجد قمة الهرم طريقها للدخول إلى فتحة المهبل أو فتحة الشرج!
كذلك كان يتم استخدام الحمار الإسباني أيضاً وهو آلة ظهرها مُدبب مثل السكين، ولم تكتف محاكم التفتيش الإسبانية بجلوس الضحية على قمّة تلك الآلة، بل كانوا يربطون في قدمه أوزاناً ثقيلة لضمان أكبر قدر من احتكاك الأعضاء الجنسية للضحية بالظهر المُدبّب.
ودعم الراهب توركويمادا أيضاً الطرد الكامل لما يقرب من 100 ألف يهودي من إسبانيا، والذي حدث في عام 1492، وهو أكبر طرد لليهود في أوروبا قبل محرقة النازيّة.
أما بالنسبة للمسلمين فقد عملت محاكم التفتيش على تنصير ما تبقّى منهم بالإكراه، وسُمي هؤلاء المسلمون باسم “الموريسكيون” الذين قادوا لاحقاً ثورةً كادت تعيد الأندلس للمسلمين.
المشكلة لم تكن فقط في التنصير بقدر ما كانت ايضًا في التفتيش عليهم بعد تحولهم الدينيّ، فقد كانت الكنيسة متشككة دوماً من انتمائهم الدينيّ، فقامت بفرض بعض الأمور عليهم مثل أن يأخذوا أولادهم للكنيسة وأن يحضروا الصلوات المسيحية في الكنيسة فرضاً، وأن يفتحوا أبواب بيوتهم احترازاً من إقامتهم الصلاة داخل بيوتهم.
استمر الأمر مع المسلمين هكذا قرناً من الزمان، وقد تنصّر منهم البعض، وأصرّ البعض الآخر على دينه، وقامت بعض الجماعات بتنظيم نفسها في الجبال ومحاربة الدولة الإسبانية الجديدة، لكنها لم تفلح في ذلك، حتى لحق الموريسكيون باليهود وتم طردهم بمرسوم ملكيّ عام 1609.
أمّا على الجانب الآخر من أوروبا، وبعيداً عن المسلمين فقد كان يُنظر للمرأة على أنّها موطن الفتنة والفاحشة، وموطن وجود الشيطان الذي يتحدّث لها سراً من أجل إغواء الرجال بفتنتهنّ وجمالهنّ، ومن هنا بدأت مأساةٌ أخرى: مأساة مطاردة الساحرات الشريرات!
استكمالاً لأدوات التعذيب الوحشية التي استخدمت لإجبار الضحايا على الاعتراف بفسقهنّ وهرطقتهنّ، كان هناك أداة تُسمى “كمثرى العذاب – The Pear of Anguish”، وهي من أسوأ أدوات التعذيب.
تشبه هذه الأداة الكمثرى ولها أربعة أضلاع قابلة للفتح بالتدريج البطيء، يتمّ إدخالها في شرج أو مهبل الضحيّة ثم يقوم المحقق بفتحها داخل الشرج أو المهبل فتُغرس الأسنان الحادة لهذه الأداة داخل الجسد، ثم يقوم المُحقق بسحبها ببطء وهي مفتوحة لتمزق الجدار الداخلي لعضو الضحية.
وقد أصبحت الفترة بين عامي 1550 و 1650 توصف باسم “أوقات الحرق”، في إشارة إلى الاحتراق المتكرر للأشخاص المتهمين بأنّهم سحرة، ووفقاً لموقع history extra فإنه بين عامي 1482 و 1782، اتُهم حوالي 100 ألف شخص في جميع أنحاء أوروبا بممارسة السحر، وأُعدم من بينهم نحو 40 إلى 50 ألف شخص.
وهكذا استخدم ملك فرنسا محاكم التفتيش للتخلُّص من خصومه السياسيين
تأسس تنظيم “فرسان الهيكل” بموافقة الكنيسة الكاثوليكية عام 1129، وكان تنظيماً رُهبانياً، الهدف منه حماية الحجيج المسيحيين الذاهبين إلى القدس. وأصبح فرسان الهيكل شديدي الشهرة خاصةً بعد مُشاركتهم القوية في الحملات الصليبية ومساعدتهم للجيوش النظامية على الانتصار عدة مرات في العالم الإسلامي.
أُضيف إلى شهرتهم زيادة قوتهم الاقتصادية بعد صدور مرسوم بابوي يجعلهم لا يخضعون للقانون المحلي بأي شكل مما مكنهم من تطوير أعمال أدرّت عليهم أرباحاً خيالية، وسرت إشاعات بأن التنظيم يسعى لإنشاء دولة، وهو الأمر الذي تصدَّى له الملك فيليب الرابع، ملك فرنسا بكامل قوته، فقد أمر باعتقال جاك دي مولاي القائد الأعلى للتنظيم ومعه العديد من فرسان التنظيم.
ولم تكن مُذكرة الاعتقال تشتمل على خوف الملك من تأسيس فرسان الهيكل لدولة مُستقلة بالطبع، وإنما كانت تشتمل على تهم “هرطوقية” وُجهت لفرسان التنظيم، كالإلحاد وعبادة الأصنام وممارسة الدعارة والشذوذ الجنسي في طقوسهم، كما اتهموا بالاحتيال و بالفساد المالي. كما كان من ضمن تهمهم أنهم تم إغراؤهم باعتناق الإسلام، وتم تعذيبهم بمعرفة الملك للاعتراف بكل هذا وقد اعترف بعضهم بالفعل.
ثم تم استجوابهم أمام محاكم التفتيش فأنكر الفرسان التهم التي اعترفوا بها من قبل، لكنّ المحكمة أذعنت لإرادة الملك وصدر الحكم بإعدام عدد كبير من قادة التنظيم حرقاً وتمّ حلّ التنظيم عام 1312.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website