كتب أحد الإخوة السعوديون ذكرى له تنفع كمقدمة لما سنسرده، فقال: “استيقظتُ اليوم على تصريحات إمام الحرم المكي عبد الرحمن السديس، التي يدعو فيها لأمريكا والسعودية بالتوفيق، وتسديد الخُطا، فذكرتني بموقف عشتُه قبل أربعة عشر عامًا. ففي عام ٢٠٠٣، كنت أتحدث ومجموعة من الناس بمسجد في الولايات المتحدة. وكان موضوع الحديث عن قرع طبول الحرب لغزو العراق. تحدثتُ بحرقة ناقدًا وزير الدفاع الأميركي آنئذٍ رامسفيلد، فرفع أحد الحضور رأسه- وما زالتْ لحيته الصهباء في عيني- قائلًا: “دعه، وما يُدريك ما في قلبه؟!”. وانتهى الحديث بأنني معنيٌّ بما تقترف يداه في حق أبرياء المسلمين، لا بما تنطوي عليه ضلوعُه. وعلمتُ بعد أيام أن الرجل أحد تلامذة الشيخ عبد الرحمن السديس.
أخذ مني العجب كل مأخذ، إذ كيف لرجل عاقل تأخذه رجلاه إلى السوق، ويُميز إشارات المرور أن يكون بهذا الحمق في أمور الدين والمنطق حتى، فكيف بدين محمد صلى الله عليه وسلم، المبعوث بالعدل والقسط والصراط المستقيم.
لقد لاحظ الجاحظ “أن الناس يخصون الدينَ من فاحش الخطأ وقبيحِ المقال بما لا يَخُصُّون به سواه من جميع العلوم والآراء والآداب والصناعات”. وعزز الجاحظ فكرته بأنك لو تأملتَ اليونان لوجدتهم أهل فكر ودقة نظر، لكنهم مع ذلك يعبدون البروج والكواكب. ولو نظرت إلى عرب الجاهلية لوجدتهم أهل أحلام ونُهى في شؤون الحياة، لكنهم يعبدون الحجر الصلد والصنم الأصم. ولو نظرت إلى من يُسمّون أنفسهم “سلفية” في أيامنا هذه، من علماء خليجيين وغيرهم، ستجد أن أشكال وأفعال العبادة عندهم من حيث المظهر تامّة ولكن عقيدتهم هي عقيدة اليهود التي تقول إن الله يجلس على العرش، وهذا سبب لعدم صحّة عباداتهم لأنهم لا يعرفون معبودهم. ومع العقول الراجحة للكثير من هؤلاء في الدنيا؟ فإنك “متى نقلْتَهم من علم الدنيا إلى علم الدين وجدتَ عقولَهم مُحتبلة وفِطرَتهم مُسْتَرقَّةً”.
لقد عرف العالم الإسلامي السديس من خلال صوته وهو يقرأ في الحرم المكي، فأحبّه بعض الناس وأحسنوا به الظن، والكثير من الناس لا يدركون حقيقة الوهابية و خروجهم عن الدين الاسلامي. غير أن الأيام كشفت لهم أن السديس ممن يقيم حروف الكتاب، لا ممن يقف عند حدوده الداعية إلى الحق والعدل والنصفة.
اشتهر السديس بدفاعه عن فكرة الطاعة العمياء للقوة، مهما انفصلت عن الحق، رافعا شعار طاعة ولي الأمر ولو أخذ مالك وجلد ظهرك. غير أن الرجل انكشف أكثر عندما خرج شباب يريدون عزل رئيس جمهورية معيّنة، فوقف السديس مساندا لهم، ناقضا الفكرة المركزية عنده.
أما السديس فينتمي لطبقة لا تعرف من الدين إلا مغانمه. فضيعات الرجل معروفة مشهورة، ومتاجرته في العقارات -الممنوحة من الملوك- مشهورة. وإذا ادلهمَّ الخطبُ وحانت لحظة دفع ضريبة الإمامة في الدين كعَّ، وخذل أمانة تبيين الموقف الشرعي للناس دون مواربة أو خداع: “وإذ أخذ الله ميثاق الذين أوتوا الكتاب لتبيننه للناس ولا تكتمونه فنبذوه وراء ظهورهم واشتروا به ثمنًا قليلًا فبئس ما يشترون”. قال الرازي: “هذه الآية تدل على أن ما يتصل بالدين ويحتاج إليه المكلف لا يجوز أن يُكتم، ومن كتمه فقد عظمت خطيئته”.
شتان بين السديس، وبين رجال نقدهم بلسان حديد. رجال خالفوا السلطان ونابذوه -لإرضاء ضمائرهم والدفاع عن أمتهم. شتان بين من يحضر لحظة الدفاع عن مبادئ الحق والعدل، وبين من لا يحضر إلا لأخذ المغنم:
وإذا تكونُ كريهةٌ أُدعى لها
وإذا يُحاسُ الحَيْسُ يُدعى جُندُبُ!
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
تزهيد الناس في الدين
إن طبقة “الجنادبة” -الحائسين الحيسَ فقط- طبقةٌ تُبَغّضُ الناسَ في الدين، وتفتنهم وتدفعهم إلى التساؤل عن حقانية دين يقف مع الظالم ضد المظلوم، ويتحول سدنته إلى صدى للحاكم مهما جانب الأخلاق وتنكّبَ الفطر السليمة. فالناس قد يرون غير المسلم وغير المتدين يُضحي بحياته من أجل العدل -كالفتاة ريشل كوري التي قُتلت وهي تحاول منع دبابة إسرائيلية من هدم منزل فلسطيني- ويرون دعاةً وأئمة لا ينكرون منكرا ولا ينبسون بكلمة مخالفة لمن يملك القوة. بل تدور مواقفهم من القدس والاستيطان وإسرائيل مع خطرات الحاكم. هذه المفارقة تؤدي ببعض الجهلة إلى إساءة الظن بالدين، فيكون هؤلاء سببًا لإخراج الناس من الدين من حيثُ لا يدرون.
ولعل الحكيم وضع يده على الداء، كأنه يصف هذه الطبقة من الشيوخ حين قال:
أما النّبيذُ فلا يذْعَرْكَ شاربُه
واحفظْ ثيابَك ممن يشربُ الماء
قومٌ يُوارون عمّا في صدورهمُ
حتى إذا استمكنوا كانوا همُ الداء
مشمِّرين إلى أنصاف سوقِهم
هم اللّصوصُ، وهمْ يُدْعوْنَ قُرّاء!