ابن العلقمي.. اسم تفوح منه رائحة الخيانة والغدر، اسم ارتبط بكارثة من أخطر الكوارث، وهي سقوط بغداد حاضرة الخلافة الإسلامية في أيدي التتار، فهو اسم خائن متربص بالشريعة، لا يخلو منه عصر من عصور هذه الأمة الإسلامية.
ابن العلقمي.. مراحل حياته
هو أبو طالب محمد بن أحمد بن علي، مؤيَّد الدين الأسدي البغدادي الرافيي المعروف بابن العلقمي (593- 656هـ/ 1197- 1258م)، وقال عنه الزركلي: “وزير المستعصم العباسي، وصاحب الجريمة النكراء في ممالأة هولاكو على غزو بغداد، اشتغل في صباه بالأدب، ووثق به المستعصم فألقى إليه زمام أموره، وكان حازمًا خبيرًا بسياسة الملك، كاتبًا فصيح الإنشاء”.
شغل منصب أستاذ الدار عام 629هـ، وجُعل مكان ابن الناقد فيها، ومنصب أستاذ الدار هو من المناصب الإدارية التي استحدثها العباسيون في منتصف القرن الرابع الهجري، وصاحبها مسؤول عن رعاية دار الخلافة العباسية وصيانتها، وتوفير ما يلزم ساكنيها من أسرة الخليفة.
وقد اكتسب منصب أستاذ الدار في مطلع القرن السادس الهجري أهمية كبيرة، حيث أخذ يبرز في صياغة الأحداث الداخلية، وأصبح من حاشية الخليفة التي لها القرار بتنصيب الخليفة أو عزله، وترشيح المقربين لتولي المناصب العليا.
ابن العلقمي.. وزيرًا للخليفة
بعد وفاة الخليفة العباسي المستنصر، تولى المستعصم خلافة المسلمين، وكان لينًا سهل الانقياد ضعيف التدبير، وفي ذلك يقول الذهبي رحمه الله: “وكان -أي المستعصم- فيه شح، وقلة معرفة، وعدم تدبير، وحب للمال، وإهمال للأمور، وكان يتكل على غيره، ويَقْدُم على ما لا يليق وعلى ما يُستقبح، وكان يلعب بالحمام، ويهمل أمر الإسلام”.
وقد اختار للوزارة ابن العلقمي، وذلك سنة 642هـ، وقد أورد ابن كثير ذلك في كتابه قائلاً: “استوزر الخليفة المستعصم بالله مؤيد الدين أبا طالب محمد بن أحمد بن علي بن محمد العلقمي المشئوم على نفسه، وعلى أهل بغداد، الذي لم يعصم المستعصم في وزارته، فإنه لم يكن وزيرًا صدق ولا مرضيّ الطريقة، فإنه هو الذي أعان على المسلمين في قضية هولاكو وجنوده، قبَّحه الله وإياهم”.
وكان داهية استطاع أن يستغل صفات الضعف في الخليفة لينفث سمومه وينفذ مخططاته، يقول الذهبي: “فأقاموا المستعصم، ثم ركن إلى وزيره ابن العلقمي، فأهلك الحرث والنسل، وحسَّن له جمع الأموال، والاقتصار على بعض العساكر، وقطع الأكثر، فوافقه على ذلك… وابن العلقمي يلعب به كيف أراد، ولا يُطلِعه على الأخبار، وإذا جاءته نصيحة في السر أطلع عليها ابن العلقمي، ليقضي الله أمرًا كان مفعولاً”.
ابن العلقمي وخطة إسقاط الخلافة
وقد كرَّس ابن العلقمي حياته؛ للقضاء على الخلافة العباسية، ومحاربة أهل السُّنَّة أينما حلَّوا أو ارتحلوا، وقامت تلك الخطة على محاور ثلاث، استطاع ذلك الوزير الخائن من خلالها أن يسقط دعائم الخلافة العباسية؛ لتعيش الأمة وللمرة الأولى منذ أكثر من خمسة قرون من دون خليفة يسيِّر أمور تلك الحضارة العظيمة.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
وكانت المراحل الثلاث لخطته كما يلي:
1- إضعاف الجيش الإسلامي:
حيث قطع من أرزاق العسكر، وسعى في تقليل النفقات على الجهاد، وهذا ما يؤكده ابن كثير بقوله: “وكان الوزير ابن العلقمي يجتهد في صرف الجيوش، وإسقاط اسمهم من الديوان، فكانت العساكر في آخر أيام المستنصر قريبًا من مائة ألف مقاتل، فلم يزل يجتهد في تقليلهم، إلى أن لم يبق سوى عشرة آلاف”.
2- مكاتبة التتار:
وهذا هو الفصل الثاني والمرحلة الثانية من الخيانة العظمى، حيث كاتب ذلك الوزير التتار؛ ليعرض عليهم معونتهم في اقتحام بغداد وإسقاطها، وأمدَّهم بما يحتاجونه من المعلومات. ويحكي ابن كثير عن ذلك قائلاً: “ثم كاتب التتار، وأطمعهم في أخذ البلاد، وسهَّل عليهم ذلك، وحكى لهم حقيقة الحال، وكشف لهم ضعف الرجال”.
3- النهي عن قتال التتار وتثبيط الخليفة والرعية:
ثم ضم إلى العقد غير الفريد لخياناته حلقة ثالثة، حيث بدأ في تثبيط همة الخليفة في جهاد التتار، والتخذيل في جماعة المسلمين، ولم يكتفِ بالتأثير على العامة، بل كان يثبط من عزيمة الخليفة في جهاد التتار، ويقاوم كل من أشار عليه بالثبات في وجههم، وفي ذلك روى ابن كثير في كتابه البداية والنهاية قائلاً: “وأوهم -أي ابن العلقمي- الخليفة وحاشيته أن ملك التتار يريد مصالحتهم، وأشار على الخليفة بالخروج إليه، والمثول بين يديه لتقع المصالحة على أن يكون نصف خراج العراق لهم، ونصفه للخليفة، فخرج الخليفة إليه في سبعمائة راكب من القضاة والفقهاء والأمراء والأعيان”.
وأشار على الخليفة بالخروج إلى هولاكو، قائلاً: “فليجب مولانا إلى هذا؛ فإن فيه حقن دماء المسلمين”.
وتمَّ بهذه الحيلة قتل الخليفة ومن معه من قواد الأمة وطلائعها بدون أي جهد من التتار، “وقد أشار أولئك الملأ من الرافضة وغيرهم من المنافقين على هولاكو أن لا يصالح الخليفة، وقال الوزير ابن العلقمي: (متى وقع الصلح على المناصفة لا يستمر هذا إلا عامًا أو عامين، ثم يعود الأمر إلى ما كان عليه قبل ذلك)، وحسنُّوا له قتل الخليفة”.
نتائج جريمته النكراء
وبعد مقتل الخليفة اتجه فريق من أشقياء التتار لعمل إجرامي بشع، وهو تدمير مكتبة بغداد العظيمة، وهي أعظم مكتبة على وجه الأرض في ذلك الزمن، وهي الدار التي كانت تحوي عصارة فكر المسلمين في أكثر من ستمائة عام، وجمعت فيها كل العلوم والآداب والفنون.
لقد ألقى التتار بمجهود القرون الماضية في نهر دجلة، “حتى تحول لون مياه نهر دجلة إلى اللون الأسود من أثر مداد الكتب، وحتى قيل: إن الفارس التتري كان يعبر فوق المجلدات الضخمة من ضفة إلى ضفة أخرى”.
وبعد ذلك خرج الجيش التتري بكامله من بغداد؛ لكيلا يصاب بالطاعون نتيجة الجثث المنتشرة في كل مكان، ويكفي في التعبير عن بشاعة ذلك العدوان، ما قاله الواعظ محمد بن عبيد الله الكوفي وقد شاهد تلك المأساة:
إن ترد عبرة فتلك بنو العبـ *** ـاس حلت عليهــــم الآفات
استبيح الحريم إذ قتل الأحـ *** ـياء منهم وأحرق الأمـوات
كما أصدر هولاكو قرارًا بأن يُعيَّن مؤيَّد الدين العَلْقمي الشيعي حاكمًا من قِبل التتار على بغداد، على أن توضع عليه -بلا شك- وصاية تترية، ولم يكن مؤيد الدين إلا صورة للحاكم فقط، وكانت القيادة الفعلية للتتار بكل تأكيد.
وفاة ابن العلقمي
ولم يتوقف منصبه الجديد عند حد كونه حاكمًا صوريًّا، بل إن الأمر تزايد بعد ذلك، ووصل إلى الإهانة المباشرة للحاكم الجديد مؤيد الدين العلقمي، ولم تكن الإهانة تأتي من قبل هولاكو، بل كانت تأتي من صغار الجند في جيش التتار؛ وذلك لتحطيم نفسيته، فلا يشعر بقوته، ويظل تابعًا للتتر.
ويروي السبكي -رحمه الله- طرفًا من تلك الإهانات فيقول: “وأما الوزير -أي ابن العلقمي- فإنه لم يحصل على ما أمَّل وصار عندهم أخس من الذُّباب، وندم حيث لا ينفعه الندم، ويحكي أنه طُلِب منه يومًا شعير، فركب الفرس بنفسه ومضى ليُحصِّله لهم، وهذا يشتمه وهذا يأخذه بيده، وهذا يصفعه بعد أن كانت السلاطين تأتي فتُقبِّل عتبة داره، والعساكر تمشي في خدمته حيث سار من ليله ونهاره.
وإذا بامرأة تراه من طاقٍ، فقالت له: (يا ابن العلقمي، هكذا كنت تركب في أيام أمير المؤمنين)! فخجل وسكت، وقد مات غَبنًا بعد أشهر يسيرة، ومضى إلى دار مقبره ووجد ما عمل حاضرًا”.
ومات بعد شهور قليلة جدًّا من السنة نفسها التي دخل فيها التتار بغداد، سنة 656هـ/ 1258م، ولم يستمتع بحكم ولا ملك ولا خيانة، وليكون عِبْرة بعد ذلك لكل خائن.