Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
ملخص
المسلمون في جنوب شرق أوروبا (البلقان) سكان أصليُّون شاركوا بفعالية في تشكيل الهوية الأوروبية وصناعة حضارتها، واجهوا في السابق -وما زالوا- مظالم وتحديات كبيرة في محيطهم الأوروبي العام المختلف عنهم دينيًّا وثقافيًّا؛ الرَّافض في أغلبه لهم أو للاعتراف باختلافهم عنه، ويُشَكِّك في نواياهم، فهم -بحسب إحدى التفسيرات الأوروبية الأكثر شيوعًا- “من مخلَّفات الإمبراطورية العثمانية”؛ التي ينبغي مسح كلِّ آثارها عن القارَّة الأوروبية “المسيحية”. ومن التحديات الأخرى أمام المسلمين القدرة على الجمع بين الولاء الوطني وبين الولاء القومي المتداخل مع انتمائهم الديني، والجمع بين متطلَّبات أوروبا ذات المرجعية المسيحية مع متطلَّبات خصوصيتهم الدينية. وفي السياق نفسه تشهد المنطقة عدَّة أنماط من التديُّن؛ تتراوح بين الانتماء التقليدي لثقافتهم الخاصة، وبين أنماط أخرى وافدة؛ كحالات التديُّن السلفية أو الحركية؛ فضلاً عن تعرُّضهم لمحاولات من التشييع مذهبيًّا أو التنصير دينيًّا. ويسعى مسلمو البلقان ليكونوا مواطنين في بلدانهم الأوروبية مهما كانت الاختلافات، ويخشون أن تنتقل اختلافات العالم إلى مجتمعاتهم فتُضعفها؛ ليجمعوا ما بين وصف الأقلية والانقسام.
تكاد تغيب الدراسات الجدية والعلمية المتعلِّقة بدراسة تاريخ الإسلام البلقاني وتعدُّد تمظهراته، وامتداد جذوره وأدواره المتقدمة في المشاركة الفاعلة في بناء الحضارة الغربية، وتشكيل جزء مهمٍّ من هوية أوروبا عبر قرون عديدة؛ بينما غالبًا ما يستدعي وجود وحضور المسلمين في جنوب شرق أوروبا تضاربًا صارخًا في التحاليل والتقييمات المتناولة لأصل ذلك الوجود؛ ما إذا كان طارئًا مع قدوم العثمانيين للمنطقة وبسط سيطرتهم عليها، وهو الرأي الغالب على الباحثين الغربيين عمومًا، خاصة البلقانيين من غير المسلمين، أم هو أقدم من ذلك بكثير(1)؟
نظريتان غربيَّتَان تُقَدَّمان في هذا السياق؛ يعتبر أنصارُ إحداهما -وهم أقلية- أنَّ منطقة البلقان خصوصًا وجنوب شرق أوروبا عمومًا هي مهد الإسلام العصري والمتسامح، وقلة من تلك الأقلية من الباحثين الغربيين ترى أنَّ المسلمين سكان أصليون في تلك المناطق التي سكنوها وعاشوا فيها منذ القرن السابع الميلادي، ولا يعود وجودهم على تلك الأراضي فقط إلى الفتوحات العثمانية في القرن الرابع عشر؛ وذلك في حين يذهب أنصار الفريق الثاني إلى أنَّ المنطقة ما هي إلاَّ موقع متقدِّم على أبواب أوروبا للإرهاب الإسلامي؛ حتَّى إنَّ المنظِّر السياسي الأميركي صامويل هانتغتنون صاحب نظرية: “صراع الحضارات” ذهب في تحليله (لحروب البلقان الأخيرة) إلى قراءة غريبة تُخالف كلَّ الحقائق الموثَّقة لتلك الأحداث، التي رأى فيها “إحدى الأدلَّة الدَّامغة على وجود حدود دموية للإسلام”(2).
غير بعيد عن هذا الجدل القديم المتجدِّد تبحث هذه الدراسة الموجزة في “أوروبية” مسلمي البلقان، وتحاول سريعًا الوقوف على التحولات التي طرأت عليهم بعد انسحاب الإمبراطورية العثمانية من المنطقة، وتركهم دون نصير أو ظهير، وتتناول أهم الصعوبات التي تعترض المسلمين في جنوب شرق أوروبا في فضائهم السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي الغربي؛ وذلك في حين خُصِّص الجزء الأخير من الورقة للتركيز على ملامح مستقبل مسلمي هذه المنطقة.
“أوروبية” مسلمي البلقان والتَّحولات الطارئة
يعود وجود المسلمين في جنوب شرق القارة الأوروبية إلى القرن الرابع عشر؛ وفقًا للرواية الأكثر شيوعًا في الدِّراسات والبحوث الغربية، التي تسعى جاهدة في تقديمهم على أنَّهم إمَّا أتراك وفدوا مع جيوش العثمانيين، أو خونة من سكان تلك المناطق اعتنقوا الإسلام، أمَّا في بحوث أخرى أكثر اعتدالاً والتزامًا بالحقائق التاريخية والموضوعية العلمية والتاريخية؛ فإنَّ إسلام مسلمي جنوب شرق أوروبا يعود إلى القرن السابع ميلادي، وأنَّهم من أصول سلافية؛ أي من السكان الأصليين، وإن انضمَّ إليهم في أوقات لاحقة (القرن 14) وافدون من تركيا، وغيرها من المناطق الآسيوية والعربية الأخرى، كما أنَّ من بينهم مَن اعتنق الإسلام إمَّا قناعة أو لأسباب شخصية أخرى.. ومهما يكن من أمر فإنَّه ما من شكٍّ في أنه لا شيء من هذا يطعن في “أوروبيَّتهم”؛ باعتبارهم ينتمون جغرافيًّا إلى تلك المناطق، ولا يمكن استثناؤهم من بين سكان أوروبا لكونهم مسلمين؛ فأوروبا مسلمة بالقدر نفسه الذي هي فيه مسيحية أو يهودية، علمانية أو ملحدة.
كما أنَّه لا شكَّ -أيضًا- في أنَّ عصر الحكم العثماني في منطقة جنوب شرق أوروبا كان يمثِّل حقبات ازدهر فيها الوجود المسلم، وعرف فيها المسلمون ازديادًا ملحوظًا في أعدادهم، وبرزت أدوارهم على المستويات الاجتماعية والثقافية والاقتصادية، فضلاً عن أدوارهم السياسية، وقد كان أولئك المسلمون ينتمون إلى إثنيات مختلفة شكَّلت في حينها عامل إثراء للنسيج المجتمعي المسلم، وكان ولاؤهم خالصًا للباب العالي ولشيخ الإسلام في إسطنبول؛ لكنَّ وضع المسلمين في دول جنوب شرق أوروبا عرف تحوُّلات جذرية؛ بدأت منذ نهايات القرن التاسع، وتمتدُّ إلى يومنا هذا.
فمع انسحاب الإمبراطورية العثمانية من المنطقة بدأت حملات ترحيل المسلمين وتهجيرهم القسري، وبلغت حملات التطهير العرقي والقتل على الهوية ذروتها في الفترة التي تبعت استقلال اليونان في ثلاثينات القرن التاسع عشر، وحصول بلغاريا بدورها على استقلالها في عام 1878، ثم ما تلا ذلك من حروب البلقان الدامية ما بين عامي 1912-1914، وما كان بعدها من حرب طاحنة تواجهت فيها اليونان وتركيا، وقادت إلى اتفاقيات “لوزان” الشهيرة، التي أفضت في حينها إلى عمليات تبادل للمواطنين من الجانبين في عام 1920.
فمع كلِّ تأسيس أو استقلال دولة من دول البلقان فإنَّه غالبًا ما كان يتمُّ التخلُّص من جزء كبير أو صغير من جماعاتها المسلمة، وإجبارها على الهجرة، بالإضافة إلى ما خلفته الحروب المبكرة وعمليات تبادل المواطنين التي نتج عنها تهجير أو هجرة ما يقرب من مليون ونصف المليون مسلم كانت تركيا وجهتهم الرئيسة.
نتائج الحروب وحملات التهجير تلك ما تزال إلى اليوم تمثِّل تجربة حاضرة بقوَّة في الذاكرة الجمعية؛ وذلك لسببين على الأقل؛ فأولاً: هي تعكس الخوف الكامن لدى عدد مهمٍّ من مسلمي البلقان من إمكانية تعرُّضهم يومًا ما للتَّهجير مرَّة أخرى من بلدانهم التي يُقيمون فيها حاليًّا.
وثانيًا: تمثِّل تلك التجارب المريرة عاملاً يبعث على سعي غالبية المسلمين في الدول البلقانية إلى تقوية الروابط التي تجمعهم بإخوانهم من مسلمي تركيا، الذين ينحدرون مثلهم من الإثنية/القومية نفسها، وربَّما ينطبق هذا بشكل واضح اليوم على كوسوفو ومقدونيا؛ حيث تربط بين مَنْ تَبَقَّى من المسلمين الألبانيين والأتراك وشائجٌ وعلاقاتٌ عائلية مع أقاربهم المقيمين في تركيا، والشيء نفسها ينطبق -أيضًا- وربما بشكل أكثر وضوحًا على بلغاريا واليونان؛ حيث ما تزال قنوات التواصل مع تركيا تشهد زخمًا ملحوظًا، في حين تقلُّ قوَّة تلك الروابط بين تركيا وألبانيا من جهة، وبين تركيا والبوسنة والهرسك من جهة ثانية؛ وذلك بحكم أنَّ أغلب موجات هجرة المسلمين من هذين البلدين إلى تركيا حدثت في مراحل تاريخية مبكرة، وتختلف مواقف مسلمي البلقان -أو جنوب شرق أوروبا عمومًا- من الإرث التاريخي العثماني، وما إذا كان يمثِّل عبئًا يمنع تقدُّمهم نحو الأفضل، أم هو عنصر محفِّز لهم على فرض وجودهم، وبناء علاقات ندِّيَّة مع أتباع الديانات الأخرى في البلدان التي يعيشون فيها؟
الإرث العثماني واختلاف مواقف مسلمي جنوب شرق أوروبا منه
تختلف تقييمات شعوب البلقان المسلمة للموروث العثماني سلبًا وإيجابًا، قبولاً ورفضًا، تبنِّيًا وإنكارًا للقيم والعادات والتقاليد، وللإرث الديني والأخلاقي الذي أرست دعائمه الإمبراطورية العثمانية عبر تاريخ المنطقة؛ فكلما قربت الدولة إلى جهة الشرق كان تقييم الإرث العثماني إيجابيًّا، وازداد احترام مسلمي تلك الدولة وتقديرهم للبعد الديني الذي أرسى العثمانيون دعائمه في المنطقة.
ففي البوسنة والهرسك يختزن المسلمون البوشناق ذكريات مختلطة حول الإمبراطورية العثمانية؛ التي يذكرون لها دورها الحاسم في تقوية شوكة الإسلام في المنطقة؛ لكنَّهم في الوقت ذاته لم ينسَوْا ما يعتبرونه “خيانة العثمانيين” لهم، والتخلي عنهم للنمساويين؛ الذين احتلوا بلادهم في القرن التاسع عشر.
الوضع في ألبانيا مختلف تمامًا؛ فالميراث العثماني الدِّيني والثقافي فيها مرفوض من قِبَل الأغلبية العلمانية، وينظر الألبانيون عمومًا إلى الجزء الديني من ذلك الميراث على أنَّه عبء ثقيل سحب ألبانيا الأوروبية نحو الشرق؛ وذلك في حين يرون أنَّ مكانها الطبيعي هو الغرب الأوروبي/المسيحي(3).
أما في كوسوفو ومقدونيا فإن احترام المسلمين للإمبراطورية العثمانية ودورها التاريخي في أسلمة المجتمع كبير، ولدى شعوب هذين البلدين اعتزاز واضح ومشاعر حب وتقدير لتركيا، ويرون أنَّ معتقداتهم وطرق إحياء شعائرهم الإسلامية وعاداتهم وتقاليدهم تركية عثمانية.
ويُلاحظ في هذا السياق أنَّ البلدان البلقانية الثلاثة ذات الأغلبية المسلمة –كوسوفو وألبانيا والبوسنة والهرسك- تسعى إلى قطع الصلة مع الإرث العثماني في بعده السياسي، وإقامة وتمكين أنظمة حكم علمانية تفصل الدين عن الدولة، وتُعَامَل المجتمعات الدينية فيها بشكل منفصل تمامًا عن الدولة؛ وذلك في حين نجد أنَّ الأرثوذكسيَّة في كلٍّ من مقدونيا وبلغاريا وصربيا واليونان تتمتَّع دستوريًّا وواقعيًّا بوضع الديانة المفضَّلة أو “الديانة التقليدية”.
مسلمو البلقان وتداخل الولاء للدين والولاء للقومية
يمثِّل المسلمون البوشناقيُّون أغلبيَّة في فدرالية البوسنة والهرسك، وداخل إقليم السَّنجق الواقع بين صربيا والجبل الأسود، وهم يمثِّلون أغلبية نسبية لشعب دولة البوسنة والهرسك؛ تزيد أو تقل قليلاً عن (46%)، وهم يمثِّلون -أيضًا- الأغلبية المطلقة لشعب فدرالية البوشناق والكروات في البوسنة والهرسك؛ حيث تصل نسبتهم إلى (75%)، هذا في حين يمثِّل الألبانيون المسلمون أغلبية كاسحة في ألبانيا وكوسوفو ومقدونيا الغربية.
تجدر الإشارة هنا إلى أنَّ تسمية “المسلمين” تُطلق على المسلمين بمعناها الاجتماعي؛ أي أنَّها وصف ينسحب على الأشخاص المنحدرين من عائلات وأسر ذات تقاليد مسلمة، ولا يجب الخلط بين هذه الفئة وبين فئات المسلمين الذين يُقيمون شعائر الدِّين الإسلامي بشكل عرضي (أداء صلاة الجمعة والعيدين وصوم شهر رمضان)، ولا بينها وبين الحريصين على شعائرهم بشكل منتظم؛ لذا -ولدواعي منهجية- فإننا سنجمع كلَّ تلك الفئات تحت مسمًّى واحد (المسلمون)؛ على الرغم من أنَّ من بينهم المتصوِّف والملحد، وأولئك الذين تحوَّلوا إلى المسيحية الرومانية، أو إلى البروتستانتية الإنجيلية، كما هو حال عدد متزايد من الألبان المسلمين في ألبانيا وكوسوفو.
على عكس الأقليات المسلمة الأخرى في شرق البلقان، فإنَّ المسلمين في كلٍّ من ألبانيا والبوسنة والهرسك وكوسوفو يسعَوْن إلى إقامة دول متعدِّدَة القوميات ذات سيادة ناجزة؛ وذلك في حين يناضل مسلمو إقليم السنجق ومسلمو شرق مقدونيا من أجل الحصول على وضع الأقاليم المستقلَّة ذات الحكم الذاتي.
يمكن القول: إنَّ هذا التطلُّع قد تحقَّق؛ وإن كان بشكل نسبي للمسلمين في ألبانيا منذ أكثر من قرن؛ عندما أقاموا دولتهم ذات الإثنية الألبانية الخالصة؛ أما في البوسنة والهرسك فيعود ذلك إلى ستينات القرن الماضي؛ حيث أطلقت حكومة “بروز يوسيبتيتو” مبادرة صُنِّفت فيها الإثنيات في البلد ضمن جماعات وطنية متباينة، وكان
للمسلمين الحقُّ في التمايز عن باقي الأعراق والإثنيات الوطنية الأخرى، التي تُقاسمها العيش المشترك على الأرض وتحت سلطة يوغسلافيا الاتحادية.
تأخَّرت الشعوب المسلمة في البلقان -مقارنة بغيرها- في البدء بعملية بناء “الأُمَّة”؛ بسبب إصرارها المتواصل على الانتماء إلى الدولة العثمانية، التي لم ينتهِ وجودها الفعلي إلاَّ بعد نهاية الحرب العالمية الأولى، وقد أدَّى هذا التأخُّر في عملية بناء تلك “الأُمَّة” المنشودة وتأكيد الشعوب المسلمة لهُويتها داخل حيِّز جغرافي خاص بها إلى عدم تحقيق المسلمين أهدافهم؛ وذلك في حين استطاع الصرب واليونانيون والبلغاريون في المقابل التجمُّعَ في دول ذات سيادة منذ القرن التاسع عشر، وتمكَّنوا من ضمِّ كلِّ أو أجزاء من الأراضي التي كان يسكنها المسلمون، التي كانوا يأملون في إقامة كياناتهم السياسية عليها.
نلاحظ في هذا السياق أنَّ عملية بناء “الأُمَّة” لدى مسلمي كلٍّ من ألبانيا والبوسنة والهرسك قد اتبعت مسارين متضادين تمامًا؛ فمسلمو ألبانيا -وفي إطار مشروع إثني- كوَّنوا “دولة/أُمَّة” واحدة يشتركون فيها مع الألبان الأرثوذكس والكاثوليك، الذين يتقاسمون معهم اللغة نفسها، وكان الألبان المسلمون في تلك المرحلة قد عملوا على إبقاء ميراثهم الإسلامي خارج دائرة الفضاء الاجتماعي العام.
أمَّا المسلمون البوسنيون فاختاروا أن يكون طريقهم إلى تكوين “أُمَّتهم” بتأسيس جماعة دينية متمايزة عن الأرثوذكس والكاثوليك، الذين يشاركونهم الأرض نفسها واللغة ذاتها، وأن يُعطوا للإسلام دورًا حاسمًا في تحديد هويتهم.
ويمكننا هنا التساؤل عما إذا كانت الصراعات الإثنية التي طبعت عقد التسعينات الأخير من القرن الماضي قد ساعدت الشعوب المسلمة في البلقان على التقدُّم في تحقيق أهدافها الوطنية، أم أنَّ العكس هو الصحيح؟
هنا أيضًا لا يمكن أن تكون الأجوبة نهائية ولا حاسمة؛ فالبوسنة والهرسك وكوسوفو حصلا على استقلالهما؛ في حين لا تبدو ألبانيا قد خرجت بعدُ من الأزمة الخطيرة التي عصفت بها عام 1997، وأدَّت إلى إحداث انشقاق في وحدتها الوطنية؛ أما فيما يتعلَّق بمطالب الاستقلال الذاتي، أو الحقِّ في تقرير المصير التي ترفعها زعامات مسلمة تُوصف بالمتشدِّدَة في دول بلقانية أخرى -مثل مقدونيا والجبل الأسود وصربيا (إقليم السنجق)- فما تزال بعيدة التحقُّق في سياقات واقع اليوم؛ إذن فالقضية الوطنية لشعوب البلقان المسلمة المحلية البوشناقية والألبانية خاصة تظلُّ مطروحة وغير محسومة إلى الآن.
مؤسسات مختلفة هيكليًّا وتنظيميًّا
يتعقَّد المشهد العام الذي تعيشه المجتمعات المسلمة في جنوب شرق أوروبا؛ خاصة فيما يتعلَّق بمؤسساتهم التنظيمية، وتطبع هذه التنظيمات علاقاتهم بالدول التي يعيشون فيها من ناحية وبباقي الأغلبية المجتمعية، التي يُشاركونها العيش داخل تلك الدول، بالإضافة إلى موقف الجماعات المسلمة من التعاطي مع الإرث العثماني.
فلقد عرفت كل الإدارات المسلمة في المنطقة تطوُّرًا، وسجَّلت تمايزًا واضحًا عما كانت عليه في عهد حكم الإمبراطورية العثمانية؛ حين كانت كل تلك المؤسسات والإدارات المسلمة في علاقة مع مؤسسات الخلافة وشيخ الإسلام في إسطنبول.
وقد كانت المؤسسات الإسلامية في البوسنة والهرسك أُولى المؤسسات الإسلامية في المنطقة التي أخذت شكلاً تنظيميًّا وهيكليًّا يُحاكي نموذج المؤسسات النمساوية، (وكانت البوسنة تخضع حينها لسلطات الإمبراطورية النمساوية-المجرية، التي شجَّعت على إحداث تغييرات في تلك المؤسسات بهدف فصلها عن الارتباط المباشر بمؤسسة الخلافة العثمانية.
في ألبانيا كان القطع مع إسطنبول أكثر راديكالية؛ بحكم أنَّ العلمانيين القوميين الألبانيين هم من كانوا مهندسوه، ووجد دعمًا من الدولة؛ فأصبح بذلك واقعًا ناجزًا حتى قبل سقوط الخلافة العثمانية؛ هذا القطع مع مؤسسات الخلافة أدَّى إلى تأسيس “المجموعة الدينية الألبانية” المسمَّاة: “ديانت”؛ ومن ثَمَّ تأسيس المؤتمر الإسلامي عام 1923، ثُمَّ عَرَف عزلُ المسلمين وغيرهم من الجماعات الدينية الأخرى في ألبانيا تحوُّلاً دراميًّا؛ وذلك بإعلان ألبانيا أوَّل “دولة ملحدة” عام 1967.
أما في حالة المجتمعات المسلمة الأخرى في مختلف دول البلقان؛ فقد قامت المؤسسات الإسلامية على مبدأ الاتفاق الثنائي بين الإمبراطورية العثمانية وممثلي تلك الجماعات، التي ظلت تحمل بصمات العثمانيين على مستوى التنظيم والاتجاه الفقهي؛ وهو ما لم تستطع سلطات هابسبورغ، ولا سلطات يوغسلافيا السابقة اجتثاثه بشكل نهائي؛ بل إنَّ السلطات اليوغسلافية تحت حكم “يوسيب بروز تيتو” سمحت بما يُعرف بالنهضة الإسلامية المعتدلة، الذي قادته الطرق الصوفية خلال المرحلة الاشتراكية في دول يوغسلافيا الاتحادية في كلٍّ من البوسنة والهرسك وخاصة في مقدونيا وكوسوفو وإقليم السنجق، أمَّا في بلغاريا فقد اختلف الأمر؛ حيث كان المبدأ هو اجتثاث المسلمين، وتطويعهم ومحاولة فصلهم عن هويتهم.
واقع الإسلام البلقاني بين الثوابت والمتغيرات
بعد انهيار الأنظمة الاشتراكية الذي وضع حدًّا لعزل تلك الشعوب البلقانية المسلمة، وعلى إثر مخلَّفات الحروب الأخيرة التي عصفت بمنطقة البلقان، فإنَّنا نلاحظ أن “الإسلام البلقاني” عَرَف جملة من التحوُّلات؛ التي طرأت عليه وغيَّرت الكثير من المعطيات والثوابت المتعلِّقَة به.
فعلى مستوى أوَّل؛ فقد عاش مسلمو البلقان منذ سنوات عديدة ظاهرة جديدة تتعلَّق بما يُسَمَّى بـ”تجديد الممارسة الشعائرية الدينية”؛ إلاَّ أنَّ هذا التجديد الذي يُوصف بالظاهرة الكبرى، ترافق -أيضًا- مع بروز نزعة نحو شخصنة الإيمان، أو بالأحرى جعله مسألة فردية لا انعكاس لها واضح على الحياة الاجتماعية؛ وهو ما أدَّى إلى أرض نوع من “القطيعة مع تقاليد الإسلام البلقاني”.
لكن في الوقت نفسه فإن الإسلام ما زال يمثِّل الهوية والمرجعية؛ بل إنَّه -أيضًا- في طريقه إلى أن يكون المكوِّن الأكثر بروزًا للهوية؛ حتى بالنسبة إلى الألبانيين؛ الذين لم يكونوا يعتبرونه كذلك، كما أن الإسلام ما زال يُحافظ على طابعه الجامع على المستوى الثقافي لشعوب البلقان المسلمة.
على مستوى ثانٍ، فإنَّ الإسلام البلقاني تحوَّل من المحلية إلى العالمية بعد انفتاح بلدان البلقان على التأثيرات الخارجية، وبالتَّالي تعرَّض “الإسلام التقليدي البلقاني” على أرضه التاريخية إلى المنافسة من قِبَل “أنماط إسلامية أخرى”، وحتَّى أشكال أخرى لتفسيره وممارسة شعائره وعقائده، ونشهد اليوم حضورًا مكثَّفًا لجماعات تدعو إلى إسلام يُوصف بـ”الوهابي” تحت غطاء سلفي؛ وتسعى هذه الجماعات -بحسب ما تُرَدِّده أوساط سياسية وأمنية صربية وكرواتية ومقدونية- إلى ما تراه ضرورة “إعادة أسلمة” شعوب البلقان المسلمة وفقًا لفهمها الخاص للإسلام، كما نشهد -أيضًا- حضورًا واضحًا للتأثير الإيراني والتركي على المسلمين التقليديين في البلقان.
وعلى مستوى ثالثٍ؛ يُواجه مسلمو البلقان حملات التبشير المسيحي؛ حيث باتت المسيحية الرومانية تلقى ترحيبًا وتعاطفًا؛ خاصَّة لدى القوميين الألبانيين من دعاة إلحاق ألبانيا بالاتحاد الأوروبي، وبشكل أخصَّ من ألبان كوسوفو. وقد ساعدت دعوات زعماء ومثقَّفين ألبانيين (من بينهم إسماعيل قادري وهو رئيس حزب سياسي كبير) على توسيع حركة إقبال الألبانيين على المسيحية بأعداد كبيرة، وقد ترافقت تلك الدعوات مع رفع شعار ضرورة تأكيد رسوخ هُوية الشعب الألباني، وعلاقتها الوطيدة بالحضارة الأوروبية، وشجَّع اعتناق الزعيم السياسي والثقافي الكوسوفي “إبراهيم روغوفا” للمسيحية العديد من أبناء وطنه -أيضًا- إلى اتباع خطوته تلك، التي اتخذها قبيل وفاته.
من ناحيتهم فإنَّ المبشرين بالبروتستانتية الإنجيلية وجدوا مساحة للانتشار وكسب منتمين جدد في صفوف الألبانيين المسلمين، الذين لا يجدون تأطيرًا إسلاميًّا مناسبًا، فانتشرت البروتستانتية الإنجيلية بين مسلمي ألبانيا وكوسوفو؛ وعلى الجملة أدَّت هذه التحوُّلات المتنوِّعة إلى تعقيد العلاقات القائمة بين الإسلام والهُوية الوطنية/القومية للشعوب المسلمة في البلقان.