وضع مؤسس المدرسة الوهابية أو ما يسمى بالسلفية المعاصرة، محمد بن عبد الوهاب، مانيفستو (إعلان) أسماه “نواقض الإسلام العشرة”؛ قال فيه إن الشخص المسلم قد يرتد عن دينه بأنواع كثيرة من النواقض التي تحل دمه وماله، ويكون بها خارجا من الإسلام، وحددها ظلمًا بشأكل عديدة منها: التوسل بالنبي وإظهار الحب له بالإحتفال بمولده وتنزيه الله عن الشبيه ومن أهمها من الناحية السياسية هي: “مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين”.
استدل بن عبد الوهاب على قوله بأن معاونة المشركين على المسلمين تعتبر من نواقض الإسلام بالآية 51 من سورة المائدة: “يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء بعضهم أولياء بعض ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدي القوم الظالمين”.
وعلى الرغم من أن هذا الإعلان، إلى جانب العديد من الأفكار الأخرى التي دعا لها بن عبد الوهاب، شكلت مصدرا رئيسا لانطلاق موجة التكفير والعنف في العصر الحديث، إلا أننا لا اود مناقشة هذا الجانب المهم بل سننظر في التناقضات التي أظهرتها تجربة الوهابيين في التعامل مع المبادئ التي أرساها مؤسس الدعوة.
غني عن القول إنه قد تم استخدام الدين كثيرا لمنح المشروعية للسلطات السياسية، وفي التجربة الوهابية التي استندت إلى التحالف بين بن عبد الوهاب ومحمد بن سعود، قام الطرف الأول ومن بعده أبنائه وأحفاده بتقديم الإسناد العقائدي للدولة السعودية في مراحلها التاريخية الثلاث التي مرت بها، وما يزالون يلعبون ذات الدور.
لتعضيد فكرتهم القائلة بكفر كل من يُظاهر المشركين على المسلمين، يستدعي شيوخ الوهابية فتوى القروسطي تقي الدين بن تيمية فيمن انضم إلى التتار وقاتل المسلمين، وهي الفتوى التي قال فيها: “وإِذا كان السلَف قد سموا مانعي الزكَاة مرتدين ـ مع كونهِم يصومون ويصلون ولَم يكونوا يُقاتِلون جماعة المسلِمين ـ فكيف بمن صار مع أعداء الله ورسوله قاتلا للمسلمين”.
غير أن تناقض مواقف الوهابية تجاه هذه القضية يتبين في غضِّهم الطرف أو تأييدهم لمواقف أخرى استعان فيها قادة مسلمون بالفرنجة على قتال مسلمين، حيث يحدثنا التاريخ أن الخليفة العباسي هارون الرشيد تحالف مع الملك الفرنسي شارلمان ضد الأمويين الذين أقاموا دولة مستقلة في الأندلس، أعطاه الولاية على المؤسسات الدينية المسيحية في الشرق الإسلامي التابع للدولة العباسية، كالتدريس والصيانة وتنظيم رحلات وقوافل الحج إليها، فهل يعتبر الوهابيون هارون الرشيد كافرا؟
وحينما دب الخلاف بين الملك عبد العزيز بن سعود مؤسس الدولة السعودية الثالثة، وجنوده المعروفين باسم “الإخوان” الذين كانوا ذراعه الباطش الذي أخضع به كل قبائل الجزيرة العربية، لم يتوان الملك في سحقهم بإنزال ضربة عسكرية قاصمة بهم مستعينا بالقوات البريطانية التي استعملت الطائرات لتشتيت فلولهم ودك حصونهم وذلك في معركة السبلة عام 1929، فلماذا لم يعتبر الوهابيون الملك عبد العزيز كافرا ومرتدا عن الدين؟
وعندما غزا الرئيس العراقي صدام حسين دولة الكويت في عام 1990، استعانت الأخيرة ومعها دول الخليج بعدد من الدول غير الإسلامية في مقدمتها الولايات المتحدة الأميركية للتصدي للعدوان العراقي. حينها أصدر مفتي السعودية الراحل عبد العزيز بن باز فتوى بعنوان “موقف الشريعة الإسلامية من الغزو العراقي للكويت” جاء فيها ما يلي”
“أما ما حصل من الحكومة السعودية لأسباب هذه الحوادث المترتبة على الظلم الصادر من رئيس دولة العراق لدولة الكويت من استعانتها بجملة من الجيوش التي حصلت من جنسيات متعددة من المسلمين وغيرهم لصد العدوان وللدفاع عن البلاد ـ فذلك أمر جائز بل تحتمه وتوجبه الضرورة وأن على المملكة أن تقوم بهذا الواجب!”.
من الجلي أن فتوى بن باز لا تخرج عن إطار الدور الذي ظلت تلعبه المؤسسة الدينية في منح الشرعية للقرارات التي يتخذها السلطان، وذلك في إطار علاقة تبادل المنافع المستمرة بين شيوخ الدين والسلطة السياسية، حيث يتكفل الأوائل بتقديم التبرير الديني بينما تغدق الثانية عليهم بالعطايا والمنح.
المواقف السياسية تحكمها “المصالح الدنيوية” بغض النظر عن الديانة التي تعتنقها الأطراف المتحالفة، فلا يوجد اختلاف بين استعانة ملك مراكش بملك البرتغال لحرب عمه والتي اعتبرها الوهابيون “كفرا”، وبين استعانة آل سعود بالأميركيين لإجلاء صدام من الكويت والتي اعتبروها “واجبا!”.
كان واضحا أن لأميركا والدول الغربية مصلحة في إجلاء قوات صدام من الكويت، فالسياسة الأميركية تسعى للحفاظ على منطقة الخليج كبحيرة نفط هادئة وسالمة تستطيع أن تدر هذا النفط يوميا بمقدار عشرين مليون برميل كما تفعل الآن وبحيث لا يكدر صفو انسيابه أي عامل سياسي أو اقتصادي.
وقبل ذلك تقاطعت مصالح الفرنجة والعباسيين في مقاومة الأمويين، وقد كان ملوك الفرنجة أيضا على عداء مع البيزنطيين خصوم العباسيين، وهكذا فقد نشأ تحالف (عباسي ـ فرنسي) في مواجهة البيزنطيين والأمويين.
إن الانفصام الواضح في التعاطي الوهابي مع قضية الاستعانة بـ”المشركين” على حرب المسلمين يؤكد على ضرورة النظر إلى الموضوع من زاوية دنيوية (سياسية) محض تتعلق بكيفية عقد التحالفات بين السلطات و الدول من أجل حماية المصالح بعيدا عن ثنائية (مسلم/كافر).
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website