الحمدُ للهِ ربِّ العالمين وصلى الله على سيدنا محمد الذي تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها وعلى ءاله وصحبه وسلم.
إخوة الإيمان والإسلام: قبيل رمضان من كل عام تطالعنا بعض الصحف ببيانات تعيين بداية شهر رمضان المبارك ثم لا تلبث قبل العيد بأيام عدة أن تنشر بيانات تعيين نهاية رمضان ويوم عيد الفطر السعيد وذلك باسم جمع كلمة المسلمين وتوحيدها على ركيزة من العلم الحديث مكينة وقد سألنا أنفسنا تكرارا هل في ذلك جمع لكلمة المسلمين حقيقة أم أن هذا الأمر يؤدي إلى زيادة تفرقة كلمتهم ما بين موافق على إمكان ذلك وقائل بعدم إمكان ذلك.
ونتمنى لو أن أصحاب هذه البيانات يسألون أنفسهم السؤال ذاته بعد أن لجأوا إلى هذه التجربة الجديدة على مدى سنوات وسنوات ولا نظنهم يتحققون إلا أن الجواب هو النفي المطلق. فقد أدى الخلاف في هذا الأمر إلى تشويش أفكار عوام المسلمين في بداية كل رمضان وانتهائه ولا سيما من لا سبيل له إلى أدوات النظر الحديثة من مراصد وحواسيب لم يكن الإسلام ليربط بها عباداتٍ مكلفًا بها كل إنسان بشروطه مهما بلغت درجة ثقافته أو قدراته المادية من سمعية وبصرية، فالصيام لازم لمسلمي صحراء شنقيط لا فرق في ذلك بينهم وبين مسلمي المجتمعات المشغولة تحضرا بالتلفزيون والانترنت.
وقد أحببنا في هذه المناسبة أن نبين بعض الأمور التي نجدها مفيدة في هذا المقام وهي:
إن جداول ولادة القمر وأوقات احتمال رؤيته والتي تنشرها سنويا جامعة Princeton في الولايات المتحدة على الانترنت وهي من أشهر الجامعات في العالم تظهر بوضوح ومن غير إعمال كثير فكر أن هناك فرقا واضحا بين ولادة القمر الجديد (New Moon) وإمكان رؤيته لأول مرة (First Visibility) وقد يكون الفارق بين الأمرين يوما أو يومين كما هو واضح في تواريخ متعددة.
إن الشرع لم يجعل الصيام منوطا بولادة القمر (مع ما تقدم من اختلافه الجلي مع إمكان رؤيته) ولا بإمكان رؤيته، بل ربط هذه العبادة الكريمة بحقيقة الرؤية العيانية للقمر حتى إذا لم يُر وجب اللجوء إلى قطع الشك باليقين باستكمال شعبان ثلاثين يوما بنص الحديث الشريف المعروف: ” صُومُوا لرؤيته وأَفْطِرُوا لرؤيته فإن غم عليكم فأكمـلوا عدة شعبان ثلاثين ” رواه البخاري وغيره.
ومن الواضح جدا أن الشرع لم يربط الصيام بولادة الهلال حسابيا ذلك أن تأقيتها يختلف باختلاف البلاد والمواقع وفي هذا الأمر حِكَم عدة منها الاحتراز من تداخل الأشهر. فماذا يفعل الناس لو اختلف الفلكيون في وقت الولادة أو وقت جواز الرؤية أو مكانها؟ أو لو أنهم جعلوا ولادة القمر بعد فجر التاسع والعشرين من رمضان وقبل غروبه، فيكون اليوم عندهم نصفه في رمضان ونصفه في شوال، فماذا يقولون للناس ؟ هل يقولون لهم: اليوم رمضان أم يقولون لهم هذا اليوم من شوال. وهذا ما يسبب إشكالا لم تعرفه الأمة المحمدية على مدى الدهر لأنه بيّن الفساد.
والقاعدة أن ما دخله الاحتمال سقط به الاستدلال كما نص على ذلك علماء الأصول.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
قال الشيخ أحمد عبد الرزاق المعروف بالمغربي الرشيدي المتوفى سنة 1096هـ في حاشيته على الرملي ج3/150 في رده على من قال: يُعمل بالحساب الدال على وجود الشهر وإن دل على عدم إمكان الرؤية، ما نصه: ” الشارع إنما أوجب علينا الصوم بالرؤية لا بوجود الشهر، ويلزم عليه أنه إذا دخل الشهر في أثناء النهار أنه يجب الإمساك من وقت دخوله ولا أظن الأصحاب يوافقون على ذلك ” اهـ.
وقد حصل في السابق اختلاف الفلكيين على ثلاثة ءاراء في رمضان تلك السنة قال أحدهم: أول رمضان الأربعاء والآخر الخميس والآخر الجمعة. وما زال يحصل الاختلاف بينهم حتى هذا العام اختلفوا، فأين تكون جمع الكلمة بالرجوع إليهم وترك حديث سيد المرسلين الذي يبلغ عن الله تعالى ؟!.
بل من ترك العمل بكلام النبي الذي لا ينطق عن الهوى ولجأ إلى ظنون الفلكيين فقد أخطأ خطا فادحا، ولازم كلامه أن شرع الرسول لا يعمل به في عصرنا هذا، مع أن الله العالم بأحوال عباده وتطوراتهم هو الذي أوحى إلى عبده ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم بهذا الشرع الحنيف للعمل به إلى يوم القيامة.
إنه وإن قيل إن تحديد وقت ولادة القمر ممكن بدقة كبيرة، فقد اتفق الفلكيون ومراكز الرصد الكبيرة على أنه لا يمكن تحديد وقت رؤيته التي قد تكون بعد يوم أو يومين من ولادته كما تقدم، ذلك أن الرؤية مرتبطة بعوامل عدة لا يمكن التحكم بها.
إن أشهر السنة القمرية ليست دائما ثلاثين يوما بل قد تكون تسعا وعشرين يوما بالأيام الصحاح كما هو نص حديث البخاري ومسلم ” الشهر هكذا وهكذا “، ومن المعلوم أن الشهر القمري الفلكي يختلف عن ذلك قليلا ذلك أنه يساوي وسطيا نحو تسع وعشرين يوما ونصف اليوم يزيد أو ينقص قليلا، وهذا يمثل مشكلة، ولذلك لم يربط الشرع الصيام بولادة الشهر فلكيا ولا بإمكان رؤيته نظريا، بل كان واضحا جدا في ربط ذلك بالرؤية العيانية نفسها.
وقال الإمام أحمد بن إدريس بن عبد الرحمن الصنهاجي المشهور بالقرافي المتوفى سنة 684هـ في كتابه الفروق الجزء الثاني من المجلد الأول ص178 طبع عالم الكتب ما نصه: ” فإذا دل حساب تسيير الكواكب على خروج الهلال من الشعاع من جهة علم الهيئة لا يجب الصوم، قال سند ( المتوفى سنة 541 هـ ) من أصحابنا فلو كان الإمام يرى الحساب فأثبت الهلال به لم يتبع لإجماع السـلف على خلافه “.
ثم قال في الصحيفة التي تليها ” وإن كان الحساب منضبطا لكنه لم ينصبه صاحب الشرع سببا فلم يجب به الصوم ” اهـ من كتاب الفروق للقرافي.
من قال إنه يريد توحيد كلمة المسلمين في اعتماد توقيت واحد للصيام قلنا له: هلا اعتمدت لتوحيد كلمتهم توقيتا واحدا للصلاة أو لصلاة الجمعة على الأقل؟ فإن قال: إن ذلك يتعذر لاختلاف مواقع الشمس في السماء نهارا، قلنا: فالصيام كذلك مرتبط بحركة القمر واختلافها ليلا، كما هي السُنة الشريفة التي جعلت مراقبة الأهلة واجبة على الكفاية في مختلف بلاد المسلمين، فيشعر المسلم العادي بذلك أن بإمكانه المساهمة في مجتمعه.
الخلاصة: عُلِم مما تقدم بوضوح أن من خرج عن ذلك بدعوى الاستفادة من تقدم العلم كان كلامه في غير محله لأنه خارج من الموضوع تماما، لأن الشهر القمري أيامٌ صحاح لا كسر فيها، وهذا يتحقق بالرؤية العيانية لا بحساب ولادة القمر ولا باحتمال رؤيته، وهذان الأمران (حساب ولادة القمر واحتمال رؤيته) لم يرد ذكرهما لا في الحديث الشريف ولا في غيره من موارد الشرع الشريف، ولم يجعلهما الشرع مرتبطين بمعرفة أوائل الشهور ونهاياتها.
فظهر وبان لكم إخوة الإيمان أن القول بإمكان معرفة بدايات الأشهر القمرية ونهاياتها من طريق الحساب أمر مباين لمنهجي الشرع والعلم الحديث.
هذا ولا يخفى عدم جواز ذلك شرعا فضلا عن عدم تحققه علما وذلك لمخالفته القرءان والحديث وإجماع الأمة التي استنبط الإمام الشافعي حجيته في كتابه الرسالة من قول الله تعالى: ( وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءتْ مَصِيرًا) سورة النساء . ولا حاجة بنا في هذا المقام إلى نقل ذاكري الإجماع على عدم جواز اعتماد قول المنجم ولا الفلكي في إثبات أوائل الشهور ونهاياتها لكثرتهم من فقهاء المذاهب المختلفة رحم الله الجميع.
والإجماع المنعقد يعمل به إلى يوم القيامة وما يأتي بعده مما يخالفه فهو غي وضلال.
والله الهادي إلى سبيل الرشاد، من هداه الله فلا مضل له، ومن أضل فما له من هاد، وفي الحديث الشريف: “السعيد من وعظ بغيره ” رواه مسلم والبيهقي.
ويقال لهؤلاء المخالفين الذين يعتمدون الحساب الفلكي لإثبات رمضان: لماذا هذه الزوبعة خصوصا بالنسبة لتحديد أول رمضان ولإثبات عيد الفطر، وترفضون الأخذ بالرؤية أو الاستكمال حتى ولو ثبت ذلك بالطريق الشرعي في البلاد الإسلامية، وأما لإثبات عيد الأضحى فتكتفون بمتابعة الدول الإسلامية، ولا تشعلون حربكم على المسلمين لإلزامهم بالأخذ بقول الفلكيين والمنجمين ؟!!!
وهل في دين الله شريعتان، شريعة لإثبات رمضان وعيد الفطر، وشريعة لإثبات عيد الأضحى ؟!!!
إخوة الإيمان: فقد تبين لذي عينين أن هؤلاء حكموا بغير ما أنزل الله تعالى على نبيه المصطفى الصادق المصدوق صلى الله عليه وسلم.
قال الله تعالى: ( وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُّبِينًا ) [سورة الأحزاب].
فنصيحتنا لكل مسلم أن يتمسك بما قاله فقهاء المذاهب الأربعة الذين أجمعت الأمة على علو شأنهم، وأن يدرس أحكام الصيام على إنسان جمع بين المعرفة والعدالة وتلقى هذا العلم عن مثله وهكذا بإسناد متصل إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.