حينما جاء نابليون بونابرت غازيًا ومعه علماؤه ومطبعته إلى مصر، ترك في بلادنا تاريخًا أسود لا يتفق مع زعمه أنه أتى لتحرير مصر من المماليك الذين افتأتوا على سلطة السلطان العثماني، إن الذي يسمع مزاعم بعض المثقفين عن الدور الحضاري للحملة الفرنسية ليحار إذا قرأ مذكرات مؤرخي الحملة الفرنسية، أو ما كتبه عنها المؤرخان المصريان الجبرتي والرافعي. الحق أن ما فعلوه لم يكن يختلف في جوهره عما فعله الهمج الأوروبيون في كل بلد دخلوها عنوة بقصد الاستعمار.
يروي كتاب “ودخلت الخيل الأزهر” لمؤلفه الكاتب المصري محمد جلال كشك، أنه في أكتوبر عام ١٧٩٨ تصاعدت الثورة المصرية في القاهرة ضد الجيش الفرنسي المحتل، بعدما عانى المصريون مما فعله الفرنسيون من سلب ونهب وتسلط على أرزاق الناس، وما أن أقلقت الثورة بونابرت حتى أمر مدفعية القلعة المعززة بمدافع الهاوتزر والمورتار، بأن تسدد المدافع إلى الجامع الأزهر وما حوله من أحياء.
ونصبت بطاريات مدافع أيضًا على قبة مسجد السلطان حسن، فقد كانت أوامر نابليون أن يبيدوا كل من في الجامع، استمر ضرب الجامع من الظهر حتى المساء، دخل الفرنساوية الجامع -كما يصف الجبرتي- راكبين خيولهم، ثم ربطوها بالقبلة، وعاثوا بالأروقة والحارات، وكسروا القناديل والسهارات، وهشموا خزائن الطلبة والمجاورين والكتبة، ونهبوا ما وجدوه من المتاع، والأواني والقصاع، ودشتوا الكتب والمصاحف، وعلى الأرض طرحوها، وبأرجلهم ونعالهم داسوها، وأحدثوا فيه وتغوطوا وبالوا وتمخطوا، وشربوا الشراب وكسروا أوانيه وكل من صادفوه به عرّوه ومن ثيابه أخرجوه. كانت تلك المرة الوحيدة في التاريخ التي يتم فيها اقتحام الأزهر على هذا النحو.
كانت نية نابليون متجهة إلى هدم الجامع الأزهر وكانت أوامره “يهدم الجامع الأكبر ليلًا إذا أمكن”، وحين لم يتحقق ذلك بسبب تدخل الشيخ الجوهري، أصدر بونابرت أمره إلى قومندان القاهرة بقطع رأس كل مسجون ممن أُمسكوا وبيدهم سلاح، ثم تُلقى جثثهم المقطوعة الرؤوس في النهر. كذلك أعدم في القلعة 80 عضوًا من ديوان الدفاع الذين تزعموا الثورة، وممن أعدموا شيخ طائفة العميان بتهمة القيام بعمل مسلح ضد المدفعية الفرنسية، وذكر الجبرتي أن ممن شملتهم أحكام الإعدام ستة من المشايخ. ومما كتبه نابليون لقائده رينيه: “في كل ليلة نقطع 30 رأسًا أكثرها لزعماء الثورة، وفي اعتقادي أن هذا سيعلمهم درسًا نافعًا”.
ينقل الرافعي عن المراجع الفرنسية أن كثيرًا من المتهمين قد أعدموا سرًا بلا محاكمة، ويثبت الرافعي أن هؤلاء المتهمين قد قتلوا بحد السنك. يكتب بوريين سكرتير بونابرت في مذكراته قائلًا إنه كان يكتب مساء كل يوم الأوامر القاضية بإعدام 12 سجينًا كل ليلة، واستمر ذلك ليال عديدة وكان كثير من النساء ممن نفذت فيهن أحكام الإعدام الليلية.
كانت تلك صفحة واحدة من صفحات سوداء كثيرة سطرها نابليون في حملته على المشرق، ولم يكن ذلك في مصر وحدها، فقد تابع نفس الأسلوب الدموي الهمجي في حملته على الشام. فقد أتم فتح يافا بنفس الأسلوب الذي فتح الفرنجة به القدس قبل نابليون بثمانية قرون.
ومذبحة يافا كانت للحامية التركية والمدنيين، ما حدث للمدنيين ذكره مؤرخو الحملة الفرنسية بنفس شاعري! كما قال مالو: “وحالما استولى الجنود البواسل على المدينة أعملوا السيف في نحو ٢٠٠٠ جندي من الحامية كانوا يحاولون التسليم، وراح الفرنسيون يقتلون أعداءهم كالمجانين طوال ذلك المساء كله، والليل كله، وفي صباح الغد، فالرجال والنساء والأطفال والمسيحيون والمسلمون، وكل من له وجه إنسان سقط صريع جنونهم، وفي يافا كان النهب والسلب وشق البطون وهتك أعراض البنات وهن ما زلن في أحضان أمهاتهن المائتات. حدث هذا في السابع والثامن من مارس عام ١٧٨٠.
أما ذبح حامية يافا فتظهر إضافة إلى الخسة والغدر نقض العهود، فقد توجه اثنان من ياوران بونابرت إلى القلعة ليستطلعا أمر حاميتها، فناداهما الجنود الأتراك من نوافذ القلعة وأعلنوا أنهم على استعداد للتسليم إذا وُعدوا بألا يعاملوا كما عومل بقية أهل يافا، أعطى الفرنسيان وعدًا على مسؤوليتهما بأن رجال الحامية لن يُقتلوا، وعلى هذا الوعد خرج الجنود وسلموا سلاحهم، فلما رأى بونابرته ياوريه يعودان مع بضعة آلاف من الأسرى اصفر وجهه، قال ساخطًا: ماذا يريداننى أن أفعل بهم؟ ما هذا الذي صنعاه؟
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
أمر نابليون بذبح الأسرى العزل الذين مُنحوا أمانًا باسم الشرف الفرنسي، ونفذ الإعدام بدقة تامة وهنا يكتب أحد الفرنسيين:
في ٧ مارس مات أثناء الهجوم ٢٠٠٠ تركي
في ٨ مارس رُمي بالرصاص ٨٠٠ تركي
في ٩ مارس رمي بالرصاص ٦٠٠ تركي
في ١٠ مارس رمي بالرصاص ١٠٤١ تركياً
الجملة ٤٤٤١ تركيًا
فعلق نابليون بهدوء: “بلغت ثورة الجند قمتها، فأعملوا السيف في كل إنسان”، وقاست المدينة بعد نهبها جميع الأهوال التي تقاسيها مدينة مُقتَحمة.
كتب المواطن الفرنسي بيروس إلى أمه: “ثلاثة آلاف رجل ألقوا سلاحهم وجاؤوا إلى معسكرنا فأمر القائد بفصلهم إلى مصريين وأتراك ومغاربة، في صباح اليوم التالي أُخذ المغاربة إلى شاطئ البحر وبدأت كتيبتان في رميهم بالرصاص، كان أملهم الوحيد في النجاة أن يلقوا بأنفسهم إلى البحر فلم يترددوا، فضُربوا بالرصاص على مهل، ولم تمضِ لحظة حتى اصطبغ ماء البحر بدمائهم، وأسعد الحظ نفرًا قليلًا فوصلوا إلى بعض الصخور لكن الأوامر صدرت إلى جنودنا باقتفاء أثرهم في قوارب والإجهاز عليهم، أما وقد تم إعدام هؤلاء الرجال فقد رجونا ألا تتكرر الجريمة، ولكن خاب رجاؤنا فقد اقتيد ١٢٠٠ مدفعي تركي في اليوم التالي ليعدموا، وكانوا قد جُوعوا يومين أمام خيمة الجنرال بونابرت، وصدرت التعليمات المشددة للجنود بألا يسرفوا في الذخيرة، فأعملوا فيهم الطعن بالسنكي وقد وجدنا بين الضحايا أطفالًا كثيرين تشبثوا وهم يموتون بآبائهم”، ويتابع وقد أرقه ضميره أن دم هؤلاء الضحايا سيقع على رؤوسنا إن عاجلًا وإن آجلًا.
وفعلًا جزء من العقوبة الإلهية حاق بهم في اليوم التالي، إذ في يوم ٨ مارس أرسل الله عليهم الطاعون بسخاء.
هذا هو تاريخ فرنسا، بلد العلم والنور، البلد الذي علمنا الحرية والمساواة واحترام الاختلاف كما يزعم البعض، ولمن أحب أن يستزيد عن تاريخ حملة نابليون على الشرق، فليعد إلى الكتاب “ودخلت الخيل الأزهر” لمؤلفه الكاتب المصري محمد جلال كشك، وهو كتاب زاخر بالمراجع طبعته الأولى صدرت من الدار العلمية ببيروت عام ١٩٧٢م، والمؤلف يهدي كتابه للبطل سليمان الحلبي رحمه الله. البطل الذي اقتص من كليبر خليفة نابليون بونابرت.