من مقاطعة يونان حيث معقل المسلمين الصينيين، انطلق تشنغ خه إلى كل العالم
لا نعرف كثيراً عن تاريخ الإسلام في الصين، ورغم أنّ الحكومة الصينية الحالية تضطهد أقلية الإيغور المسلمة في السنوات الأخيرة، لكنّ التاريخ الصيني مليء بإسهامات المسلمين في الصين، وليس أدلّ على ذلك من أنّ هناك مساجد في الصين الحالية بُنيَت في القرن الثاني عشر ولا زالت آثارها موجودة وإن تغيّرت وظيفتها، فبعضها أصبح ملحقاً ببناءٍ حكوميّ، كما أنّ بعضها مغلق. لكنّ أثر إسهامات الإسلام في تاريخ الصين لا يزال حياً رغم ذلك.
ففي عام 2005 أحيت الصين الذكرى الـ600 لرحلاته السبع الشهيرة، والتي يعتبر البعض أنّه وصل في إحداها إلى العالم الجديد حينها: أمريكا. فما قصّة تشنغ خه، البحار المستكشف المسلم الذي خدم في البلاط الإمبراطوري الصيني لعدّة عقود؟
إسهامات المسلمين السياسية في الصين
وصل الإسلام إلى الصين عام 651 (29 هـ) مع التجار المسلمين، فقد استقرّ في الصين بعض التجار المسلمين أو ترددوا عليها وأقاموا فيها لفتراتٍ طويلة، ومن خلالهم انتشر الإسلام في المدن الساحلية الصينيّة.
انتشر الإسلام كغيره من الديانات في حركة التجارة المستمرّة. لكنّ العصر الذهبي للإسلام كان مع وصول سلالة يوان المغولية إلى الحكم في الصين.
تأسست هذه السلالة المغولية على يد قوبلاي خان -حفيد جنكيز خان- الذي احتفظ بتسامحٍ كبير، وكان أساس التعيين في حكومته مبنياً على الكفاءة. وهكذا أصبح لمسلمي إمبراطوريته -وأغلبهم من آسيا الوسطى- شأنٌ كبير في الحكومة والإدارة.
تشير بعض التقديرات إلى أنّ أعداد المسلمين في القرن الرابع عشر في الصين وصلت لحوالي 4 ملايين مسلم. كان أغلبهم ينتمي لقوميّة الهوي الصينيّة. وقد كان لهذه القومية مكانة عالية في إدارة البلاد. لكنّ المسلمين تركزوا أكثر في مقاطعة يونان التي تقع في وسط-جنوب الصين.
كان أوّل حاكم لإقليم يونان في الصين قائداً مسلماً اسمه أجل شمس الدين عمر. كانت عائلة أجل شمس الدين من العائلات الكبرى في آسيا الوسطى، خدم والده في الدولة المغولية أيام مونكو خان، وعندما وصل قوبلاي خان للحكم، كان ابنه أجل شمس الدين على موعدٍ مع القدر.
وصل أجل شمس الدين إلى أرفع المناصب في إمبراطورية سلالة يوان، أيام حكم مؤسِّسها قوبلاي خان. عيّن مسؤولاً عن الشؤون المالية في الإمبراطورية كلها، ثمّ بعد ذلك أصبح أوّل حاكم لإقليم يونان الصيني عندما ضمّه قوبلاي خان لسيطرته.
ومن هنا بدأ الإسلام ينتشر في الداخل الصيني بعيداً عن مدن الساحل التي انتشر فيها مبدئياً من خلال التجارة.
كان للصين في عهد قوبلاي خان 12 إقليماً، وكانت تدار من قبل “محافظ ونائب محافظ”. كان 8 من هؤلاء المحافظين مسلمين، وفي المقاطعات الأربع المتبقية كان المسلمون يحتفظون بمنصب نائب محافظ.
وهكذا، لم يكن الإسلام مكوناً رئيسياً في الصين فقط، بل إنّ إسهامات المسلمين الإدارية والسياسية كانت في قمّة الهرم السياسي في الصين. ولاحقاً كان المبشرون المسيحيون الأوربيون والروس متخوفين من أنّ الإسلام قد يصبح “الدين الوطني للصين”.
تقلّبت الظروف السياسية وجاءت أسرة مينغ التي اضطهدت المسلمين بعض الوقت، لكنّها سرعان ما عدّلت موقفها تجاه الإسلام والمسلمين باعتبارهم مكوناً رئيسياً من مكونات الصين.
تشنغ خه.. وُلد على أعتاب انهيار سلالة يوان التي تُقدِّر المسلمين
وُلد تشنغ خه عام 1371، أي بعد ثلاث سنوات فقط من انهيار سلالة يوان. سيطرت سلالة مينغ على الحكم في الصين، وبطبيعة أنّ المسلمين في مقاطعة يونان كانوا من أكبر دعامات حكم سلالة يوان، فقد أصبح وضعهم سيئاً في بدايات حكم سلالة مينغ.
اسم تشنغ خه الحقيقي هو “ما سانباو”، واسمه بالعربيّة “حج محمود شمس” ويعتقد أنّه سليل أسرة أجل شمس الدين عمر أوّل حاكم مسلم لإقليم يونان الذي ذكرنا قصته سابقاً.
في الحادية عشرة من عمره، استطاعت قوّات سلالة مينغ أن تسيطر على إقليم يونان، وفي المعركة أخذوا تشنغ خه أسيراً وكان عمره 11 عاماً فقط.
على عادة الإمبراطوريات في ذلك الزمان كانت القصور الإمبراطورية تقوم بإخصاء بعض من أسراها الأطفال لتأهيلهم للخدمة في القصور، وهكذا تمّ إخصاء تشنغ خه، تلقّى تدريباً عسكرياً وعيّن في خدمة حاكم منطقة يان، ذلك الأمير الطموح الذي أصبح عام 1402 إمبراطوراً في سلالة مينغ وحمل اسم “يونغلي”.
كان للإمبراطور الجديد خطٌّ جديد في الإدارة والحكم، فقد قلّص من وجود الكونفوشيوسية، كما أتاح الفرصة من جديد للمسلمين، فزاد من عدد المساجد وأصدر مرسوماً يحمي بعضها من أي اعتداء.
خلال السنوات الخمس الأولى من حكمه، بنى يونغلي أكبر أسطول في العالم حينها، إذ بلغ 1600 سفينة كبيرة، وسمي بـ”أسطول الكنز”، الذي أصبح تشنغ خه أحد أكبر قادته.
بعد ثلاث سنوات فقط من حكم يونغلي، وفي عام 1405 بدأ تشنغ خه أولى رحلاته الصبع الشهيرة، كانت رحلته الأولى إلى المحيط الهندي. كان أسطول تشنغ خه يضم 317 سفينة ضخمة، بطاقم إبحار يضمّ قرابة 28 ألف بحّار.
ويقال إنّ بعض هذه السفن كانت تحمل ألف رجل وألف طنّ. عادت الرحلة الاولى بعد عامين، وما هي سوى فترة قليلة حتّى تجهّز تشنغ خه برحلته الثانية التي استمرّت سنتين أخريين.
بشكل عام، كانت رحلات تشنغ خه السبع في المحيط الهندي وجنوب شرق آسيا (إندونيسيا وما حولها)، ثمّ إلى شرق إفريقيا والخليج العربي، وفي إحدى رحلاته أدّى تشنغ خه فريضة الحج.
هل اكتشف تشنغ خه أمريكا وأستراليا قبل الأوروبيين؟!
كانت الرحلة الخامسة لتشنغ خه عام 1421، وهي الرحلة التي فُقدت بعض سجلاتها المهمّة. وقد أدّى فقد هذه السجلات لتساؤلات حول ما إذا كان تشنغ خه قد استكشف أمريكا وأستراليا قبل المستكشفين والبحارة الأوروبيين مثل كريستوفر كولومبوس.
الباحث البريطاني جافين منزيس ألّف كتاباً عام 2002 بعنوان “1421.. العام الذي اكتشفت فيه الصين أمريكا”. استغرق تأليف الكتاب 11 عاماً.
في هذا الكتاب يتتبّع منديز الوثائق، ويخرج بنتيجة أنّ تشنغ خه وأسطوله قد وصلا إلى أمريكا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي وأستراليا قبل كلٍّ من ماجلان وكريستوفر كولومبوس.
وفقاً لمنزيس، فلم تقع شهرة تشنغ خه؛ لأنّ الصينيين كانوا مسالمين ولم يتسموا بالاستعمار كما الأوروبيين. فقد وصل تشنغ خه إلى أمريكا ولكنه لم يستعمرها.
يعتقد منزيس في كتابه أيضاً أنّ كلاً من ماجلان وكولومبوس وجيمس كوب كانت لديهم خرائط رسمها تشنغ خه، فهو الذي سبقهم إلى اكتشاف طريق رأس الرجاء الصالح وأمريكا وأستراليا.
توفي الأمير يونغلي عام 1424م، بعد رحلة تشنغ خه التي يُعتقد أنّه وصل فيها إلى أمريكا، وتأجّلت بذلك رحلات تشنغ خه. لكنّ هذا التأجيل استمرّ عاماً واحداً فقط، فقد انطلق تشنغ خه في رحلته السادسة عام 1426 وفي رحلته السابعة عام 1431 زار أكثر من 20 بلداً.
بعد رحلته السابعة تلك، كان تشنغ خه قد بلغ الستين من عمره، فاختار بلدةً هادئة واستقرّ على سفح أحد الجبال وبنى مسجداً، وأقام فيها حتّى وافته المنية عام 1435م. عاش تشنغ خه 64 عاماً، قضى منها قرابة الثلاثين عاماً في البحار.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website