الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، أما بعد؛
إن من أهم الأحداث التاريخية عند عامة النصارى هي زعمهم أحداث صلب المسيح وقتله ودفنه ثم قيامته من الأموات، تلك الأحداث التي بنوا عليها فلسفة العقيدة النصرانية، فإذا دخل الشك في تلك الأحداث انهارت فلسفة الإله المتجسد الذي نزل ليصلب ويقتل فدية وكفارة للبشر وخلاصًا لهم حسب عقيدتهم، كما في قانون الإيمان الكنسي أنه -أي المسيح-: “إله حق من إله حق من جوهر أبيه، مساو للأب في الجوهر، مولود غير مخلوق، الذي من أجل خلاصنا نزل من السماء وتجسد وصلب وقـُبِر وقام من الأموات في اليوم الثالث كما هو مكتوب… “.
وتأمل تعقيبهم على دعوى الصلب والقيامة بقولهم: “كما هو مكتوب”، فكأن هذا اعتراف منهم بأن بقية قانون الإيمان ليس عليه دليل من أناجيلهم، وأنّ أصرح ما في تلك الأناجيل المحرّفة مما يدعم قانون إيمانهم إنما هو مرويات الصلب والقيامة، وهذا أمر معلوم لكل من اطلع على أناجيل النصارى المحرفة أنها ليس بها نص صريح بكون المسيح -عليه السلام- إله حق من إله حق من جوهر أبيه، ومساوٍ لأبيه في الجوهر وغير مخلوق، بل بها من النصوص الصريحة ما تبين أنه عبد رسول ليس إلا.
وتضمنت تلك الكلمة: “كما هو مكتوب” أن العقائد لابد أن تكون مكتوبة منقولة عن المسيح أو غيره من الأنبياء -عليهم السلام-، وعقائد النصارى -الأساسية- ليست منقولة عن المسيح ولا عن غيره من الأنبياء -عليهم السلام-، بل نصوص العهد القديم -“توراة موسى وكتب الأنبياء”- والعهد الجديد -“الإنجيل”- صريحة في نقض فلسفتهم وعقيدتهم وقانون إيمانهم، وقد سبق المسيح -عليه السلام- كثير من الأنبياء وعلم الناس منذ القدم جنس دعوتهم، وعلموا أن من كان من عند الله حقـًا فلابد أن تكون دعوته موافقة لدعوة الأنبياء -عليهم السلام-، وأن من علامات المتنبئ الكذاب أن دعوته مخالفة لدعوة الأنبياء -عليهم السلام-، فإما أن نقول إن دين المسيح هو ما جاء بقانون الإيمان الكنسي المخالف لدين الأنبياء -عليهم السلام-، ففي هذا أعظم دليل على كذبه وافتراءه حاشاه -عليه السلام-، وإما أن نقول إنه بريء مما زعمه هؤلاء بقانون إيمانهم، وأن دعوته موافقة لدعوة من سبقوه من الأنبياء، وهذا هو الحق اللائق به -عليه السلام-.
ونقد قانون الإيمان الكنسي يطول جدًا سواء من ناحية مخالفته لآثار النبوة أو من ناحية مخالفته للعقول والفطر السليمة، ولبيان ذلك مقام آخر، وقد تقدم أن فلسفة ذلك القانون مبنية على تلك الأحداث التي هي من الناحية التاريخية مظنونة ومشكوك فيها وليس لديهم دليل قاطع على إثباتها أو نفيها. والمسلمون وإن كانوا يقطعون بنجاة المسيح -عليه السلام- ورفعه دون صلب أو قتل فدليلهم على ذلك خبر المعصوم -صلى الله عليه وسلم-، لم يقطعوا بذلك لأدلة تاريخية أو غيرها فيبقى النظر هل هو رسول الله -صلى الله عليه وسلم- حقا؟ فهذا دلائله -بفضل الله تبارك وتعالى- من أكثر وأعظم ما يكون. ولما أراد واضعو قانون الإيمان الكنسي أن يحتجوا على ثبوت تلك الأحداث زعموا أن هذا هو “المكتوب”، ولقد كان ينبغي عليهم أن يحققوا أسانيد ذلك المكتوب، ويميزوا بين ما يصح نسبته للمسيح ولتلاميذه وما لا يصح، لا سيما أن الأناجيل “المكتوبة” التي رفضوها ولم يستندوا عليها كانت كثيرة جدًا -كما يذكرون ذلك بتواريخهم-، ولم يبينوا لماذا تركوا تلك الأناجيل وقبلوا غيرها؟! ولكن إن تجاوزنا تلك العقبة أو غضضنا الطرف عنها وذهبنا مباشرة إلى متن “المكتوب” وجدنا به من بصمات الوضع والتحريف أو على اقل تقدير الظن والوهم والغلط ما هو حجة على عدم مصداقية أناجيلهم عمومًا ومرويات الصلب والقيامة خصوصًا.
والمحور الأول والأساس الذي يعتمد عليه النصارى هنا هو نبوءات المسيح -عليه السلام- عما سيقع له، وأنه أخبر بذلك قبل حدوثه فلا يمكن أن يكون إلا ما أخبر به. ونستطيع أن نقسم تلك النبوءات إلى قسمين:
القسم الأول: نبوءات ينقلونها على لسان المسيح -عليه السلام- بأوضح الألفاظ وأصرحها.
القسم الثاني: نبوءات ينقلونها على لسان المسيح -عليه السلام- بألفاظ تحتمل معاني أخرى غير الصلب والقيامة،
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
وبصمات التحريف تظهر للناقد المنصف في كلا القسمين، والقسم الأول أمره أخطر، ولكن -بفضل الله تبارك وتعالى- بصمات التحريف فيه أعظم وأكثر. يتفق متّى ومرقص ولوقا على أن المسيح -عليه السلام- أخبر تلاميذه أكثر من مرة أنه سوف “يصلب ويقتل ويدفن وفي اليوم الثالث يقوم”، مرة وهم بقيصرية “فيلبس”، ومرة وهم “بالجليل” ومرة وهم ذاهبون إلى أورشليم -“القدس”-، ومن الملاحظ أن المسيح -عليه السلام- لما أخبرهم بذلك -على زعمهم- بالمرة الأولى وهم بقيصرية فيلبس كان الكلام واضحًا صريحًا مفهومًا للتلاميذ جميعًا، حتى إن بطرس -رئيس التلاميذ- تعجب من هذا الكلام جدًا، وقال للمسيح -عليه السلام-: “حاشاك” كما في متـَّى، وفي مرقص مثله، وزاد عليه: “وقال القول علانية”. إن هذه النبوءة على زعمهم من أصرح وأوضح ما يكون، فينبغي حينئذ أن يكون ذلك مستقرًا عند التلاميذ، ليس فيه شك ولا غموض، لكن بصمات التحريف تظهر بالجليل بالمرة الثانية لذات النبوءة، يقول مرقص على لسان المسيح -عليه السلام- حسب قولهم: “إن ابن الإنسان -أي المسيح- يُسلم إلى أيدي الناس فيقتلونه، وبعد أن يقتل يقوم في اليوم الثالث”، ويعلق مرقص على ذلك بقوله: “وأما هم فلم يفهموا القول وخافوا أن يسألوه”. إن النتيجة البديهية التي يستنتجها الناقد المنصف من هذا التعليق أن المسيح -عليه السلام- لم يقل لهم القول “علانية” كما يزعمون، ولم يقل لهم أنه سيقتل ويدفن ويقوم في اليوم الثالث كما ينسبون ذلك له؛ إذ هذا الكلام بهذه الألفاظ من أوضح ما يكون، ويفهمه كل أحد، فمقتضى تعليق مرقص على تلك النبوءة الثانية بالجليل أن كلام المسيح -عليه السلام- كان كلامًا مجملاً محتملاً حتى إنهم لم يفهموا مراده بهذا الكلام، ولكن كتبة العهد الجديد لما نقلوا كلامه قلبوه مفسرًا صريحًا حسب فهمهم الذي استفادوه من الأحداث التي حكيت لهم،
ومما يؤكد ذلك أن لوقا لما حكى نبوءة الجليل لم يحكي قتلاً ولا دفنـًا ولا قيامة، وإنما حكى التسليم فقط. قال لوقا على لسان المسيح -عليه السلام-: “ضعوا أنتم هذا الكلام في آذانكم، إن ابن الإنسان سوف يسلم إلى أيدي الناس”، ويعلق لوقا على هذا الكلام بقوله: “أما هم فلم يفهموا هذا القول وكان مخفي عنهم لكي لا يفهموه وخافوا أن يسألوه”، والقدر الذي قد يدخله الإشكال وعدم الفهم هو: “التسليم لأيدي الناس”!! من الذي سيسلمه؟، ولمن؟، ولماذا؟، وماذا يريدون أن يفعلوا به؟، وهل ينجو من أيديهم أم يوقعون به ما أردوا؟ ونحو ذلك، فحينئذ يكون عدم الفهم منطقيًا، أما أن يكون الكلام من الوضوح والصراحة كما يزعمون ويذكرون عن الصلب والقتل والدفن والقيامة فهذا يفضحه تعليق مرقص ولوقا على النبوءة الثانية التي كانت بالجليل. ولسنا بحاجة لتتبع بصمات التحريف بالنبوءة الثالثة التي كانت عند ذهابهم لأورشليم؛ فإن تعليق مرقص ولوقا على النبوءة الثانية بالجليل تبين الطريقة التي يتعاملون بها مع نبوءات المسيح -عليه السلام-، وأنهم قد ينقلون الكلام المحتمل الذي لم يفهموه بألفاظ مفهومة بينة لكل من يسمعها، فكيف نصدقهم بعد ذلك وهم يحكون نفس النبوءة، ولكن بمكان آخر؟! ولكن لوقا يؤكد ظننا، فبعد ما يحكي نبوءة المسيح بأورشليم عن قتله ودفنه وقيامته يعلق لوقا على ذلك بقوله: “وأما هم فلم يفهموا من ذلك شيئًا، وكان هذا الأمر مخفي عنهم، ولم يعلموا ما قيل”.
أما يوحنا كاتب الإنجيل الرابع المحرف فلا يعرف شيئًا عن تلك النبوءات الثلاث، ولا يذكر حرفـًا منها بإنجيله، ولو كان عنده أدنى علم بها لما كتمها أبدًا، ولسجلها بإنجيله؛ إذ تكون حينئذ من أهم نبوءات العهد الجديد على الإطلاق. ومما يزيد الأمر وضوحًا وتأكيدًا أن كتبة العهد الجديد اتفقوا أن المصلوب دفن ليلة الجمعة وطلبوا قبره فجر الأحد فوجدوه فارغـًا، فيكون أقصى تقدير لمكثه بالقبر يومان وليلتان لا ثلاثة أيام بلياليهن كما تزعم النبوءات المحرفة بالعهد الجديد، وهذا الاتفاق منهم على ذلك يفسد كل النبوءات التي ذكر فيها قيامة المسيح -عليه السلام- بعد ثلاثة أيام من دفنه. ومما يزيد الأمر تأكيدًا أيضًا أن لو كانت تلك النبوءات صريحة كما يزعمون لما جاءت النسوة -“مريم المجدلية ومريم أم يعقوب، وغيرهن”- إلى القبر فجر الأحد ليدهنّ جسد المدفون بالطيب؛ ففوجئن بالقبر فارغـًا! فاندهشن وتحيرن لذلك!! فلو كان عندهن أدنى علم بتلك النبوءات لما اندهشن ولا تحيرن عند رؤية القبر الفارغ، بل بالعكس، يمتلئن فرحًا وسرورًا لقيامة المسيح -عليه السلام- وتحقق نبوءاته. وكأن “لوقا” أراد أن يسد تلك الثلمة فزعم أنهن نسين كلام المسيح حتى ذكرهن بذلك الرجل ذو الثياب البيضاء -المـَلَك- عندما قابلنه عند القبر الفارغ متحيرات مندهشات فقال لهن: “لماذا تطلبن الحي بين الأموات ليس هو ههنا، لكنه قام، اذكرن كيف كلمكن وهو بعد في الجليل قائلاً إنه ينبغي أن يسلم لأيدي الخطاة ويصلب، وفي اليوم الثالث يقوم. فتذكرن كلامه”. ودع عنك أمر هؤلاء النسوة وهل حقـًا نسين الكلام أم أنهن لم يسمعن كلامًا أصلاً؟ فإن الأشنع من ذلك أنهن لما ذهبن إلى التلاميذ وأخبرنهم بهذا كله: “تراءى كلامهن لهم كالهذيان ولم يصدقوهن” كما يذكر لوقا. ويقول مرقص: “فلما سمع أولئك أنه حي لم يصدقوا”، ولمّا ظهر -بزعمهم- لبعض التلاميذ وأخبروا الباقين “لم يصدقوا” كما في مرقص أيضًا، ولوقا يذكر أن بطرس كان من جملة التلاميذ الذين لم يصدقوا! وأنه ركض إلى القبر فلما رآه فارغـًا “مضى متعجبًا في نفسه مما كان”. ولا تعليق. أما يوحنا فإنه يقول: “إن بطرس لما رأى القبر فارغـًا آمن؛ لأنهم لم يكونوا بعد يعرفون الكتاب أنه ينبغي أن يقوم من الأموات”!! فيوحنا يشهد هنا عليهم أنهم لم يكن لهم علم من الكتاب بصلبه وقيامته، فما أعظمها من شهادة عليهم بكذب تلك النبوءات المذكورة، ودخول اللعب والوضع والتحريف لألفاظها أو لمعانيها أو لهما معًا. ومن تلك النبوءات التي يدعمون بها عقيدتهم ما رواه متـّى أن اليهود سألوا المسيح -عليه السلام- آية، فقال لهم: “جيل شرير وفاسق يطلب آية ولا تعطي له آية إلا آية يونان النبي -يعني يونس عليه السلام-؛ لأنه كما كان يونان في بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليال هكذا يكون ابن الإنسان في قلب الأرض ثلاثة أيام وثلاث ليال”، ومن الملاحظ أن هذه النبوءة تحتمل معاني عدة فينبغي لمن يستدل بها أن يبين دليل اختياره لإحدى تلك المعاني، لا سيما وقد قدمنا أن المصلوب لم يمكث في القبر ثلاثة أيام وثلاث ليال كما يريدون أن يثبتوا ذلك بتلك النبوءة المزعومة.
والنصارى يزعمون أن المسيح -عليه السلام- بعد قيامته ظهر لبعض المؤمنين به، ولم يظهر لأحد من أعداءه، ولقد كان ينبغي على مقتضى تفسيرهم لنبوءة “يونان” أن يظهر بعد قيامته للجيل الشرير -“اليهود”- الذين سألوه آية فوعدهم بآية كآية يونان، فأي آية للجيل الشرير في ذلك وهم لم يشاهدوا قيامته ولا أبصروه بعدها، ولو كان تفسير تلك النبوءة ما زعموه لما وسع لوقا أن يحذف ذلك التفسير من إنجيله، قال لوقا على لسان المسيح -عليه السلام- بحسب قوله وزعمه: “هذا الجيل الشرير يطلب آية ولا تعطى له آية إلا آية يونان النبي، لأنه كما كان يونان آية لأهل نينوى كذلك، يكون ابن الإنسان أيضًا لهذا الجيل”. فلم يفسر آية يونان بما فسرها بها متى، بل ذكر أن المسيح -عليه السلام- آية لقومه كما أن يونان كان آية لقومه، ولو كان تفسير تلك الآية يمت من قريب أو بعيد للعقائد “الأساسية” لما أهمله لوقا. أما مرقص فقد خالف متى ولوقا مخالفة عظيمة؛ فقال دائمًا بحسب روايتهم وزعمهم: “لماذا يطلب هذا الجيل آية؟! الحق أقول لكم لن يعطى هذا الجيل آية”، فنفى نفيًا عامًا ولم يستثن آية يونان أو غيرها، وهو أولى رد على اليهود في هذا المقام، فقد رأوا آيات كثيرة دالة على أنه المسيح فإذا تعنتوا وطلبوا آية أخرى كان من الحكمة أن لا يجابوا إلى طلبهم، ولو كان ليونان ذكر هنا لما أهمله مرقص، وكذلك يوحنا لا يعلم شيئًا البتة، وإنجيل يوحنا رغم أنه من أكثر الأناجيل التي يستروح لها النصارى ويستدلون به على عقيدتهم إلا أن كاتبه كان أقل خطأ وغلطـًا في نقل ألفاظ المسيح -عليه السلام-، وهو يفصل في كثير من المواطن بين ألفاظ المسيح -عليه السلام- وبين فهمه هو لها، وهو بذلك يساعدنا على تلمس بصمات التحريف ببقية الأناجيل، ويبين لنا الطريقة التي كانوا يدونون بها. يذكر يوحنا أن اليهود طلبوا من المسيح آية فقال لهم: “انقضوا هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه. فقال له اليهود: في ست وأربعين سنة بني هذا الهيكل أفأنت في ثلاثة أيام تقيمه؟!”. ويعلق يوحنا على ذلك بقوله: “وأما فهو كان يقول عن هيكل جسده، فلما قام من الأموات تذكر تلاميذه أنه قال هذا الكلام، فآمنوا بالكتاب وبالكلام الذي قاله يسوع”. إن كلام المسيح هنا ظاهر مفهوم وهو الذي فهمه اليهود، ومن ادعى أنه كان يعني شيئًا آخر فعليه الدليل، ولكن مع بعد تأويل يوحنا وفهمه لكلام المسيح -عليه السلام- فقد أحسن في فصل كلامه عن كلام المسيح -عليه السلام-، ولعل النبوءات الصريحة التي مرت بنا وكشفنا بعض بصمات التحريف بها كانت من ذلك الجنس قبل أن يحرفوها، بل إن بقية تعليق يوحنا يؤكد أنهم لم يكن لديهم نبوءة صريحة عن الصلب والقتل والقيامة، وإنما هو كلام محتمل فسروه حسب الأحداث التي حكيت لهم بعد ذلك، فهذه شهادة يوحنا عليهم باختلاق النبوءات الصريحة على لسان المسيح -عليه السلام-. ويشبه ذلك من بعض الوجوه ما رواه يوحنا أيضًا عن المسيح -عليه السلام- أنه قال لهم في أيامه الأخيرة: ” الآن يطرح رئيس هذا العالم خارجًا وأنا إن ارتفعت أجذب إليَّ الجميع”، وهو كلام صريح في رفعه ليس إلا، ليس فيه إشارة لصلب ولا قيامة ولا نحوهما، بل ظاهره حصول الرفع دون حصول شيء له من ذلك. لكن يوحنا يعلق على ذلك بقوله: “قال هذا مشيرًا إلى أية ميتة كان مزمعًا أن يموت”، لقد ظن يوحنا أن الرفع يستلزم موته فأجابوا المسيح -عليه السلام-: “نحن سمعنا من الناموس أن المسيح يبقى إلى الأبد فكيف تقول أنه ينبغي أن يرتفع ابن الإنسان”، أي فإن كنت أنت المسيح فقد بشرت التوراة والأنبياء أن المسيح -عليه السلام- إذا جاء يبقى أزمنة مديدة حيًا لا يموت، فلم ينكر المسيح -عليه السلام- ذلك الكلام رغم كثرة إنكاره لافتراءات اليهود، وهذا هو معتقد المسلمين أنه -عليه السلام- لم يمت وأنه رفع حيًا إلى السماء، ويبقى حيًا إلى قرب قيام الساعة؛ حيث ينزل ويقتل الدجال ويكسر الصليب ويقتل الخنزير، ويحكم بالشريعة المحمدية ويرد على اقاويل ومعتقدات الذين يشبّهون الله بخلقه بنسبة المكان أو الجسمية لله تعالى، ويموت ويدفن ويكون ذلك من علامات الساعة الكبرى، وهذه النبوءة جارية على معتقد المسلمين لا على معتقد النصارى ولا يوحنا، ولا اليهود.
أما المحور الثاني الذي يعتمد عليه النصارى لإثبات الصلب والقيامة؛ فهو شهادة بعض أتباع المسيح -عليه السلام- على ذلك، وهذا المحور أمره أهون؛ فإن غايته أنهم يشهدون بما رأوه، ووقوع الغلط في الشهادة ممكن شائع بخلاف وقوع الغلط والخلف في كلام المسيح -عليه السلام- ونبوءاته فهذا مما لا يكون، مع أن الأمر ليس كما يزعمون، فإن كتبة العهد الجديد متفقون على أن المسيح لما داهمه أعداءه تركه تلاميذه كلهم وهربوا، وأنه في تلك الساعة إلى ساعة الصلب لم يره أحد من المؤمنين به فضلاً عن تلاميذه المقربين إليه، وهم مع ذلك ينقلون أحداث هذه المدة بتفصيل شديد وساعة بساعة، فمن هذا الذي شاهد ليروي؟! إنهم اليهود أنفسهم المعروفون بالبهت والكذب، فليس للنصارى مستند في حكاية ما حدث للمسيح -عليه السلام- في تلك المدة سوى رواية اليهود الذين طالما طلبوه ليقتلوه فيحفظه الله -عز وجل-، وينجيه مرة بعد مرة من بين أيديهم، ولا يبعد على اليهود أن لو فاتهم الظفر بالمسيح أن يشيعوا بين الناس أنهم ظفروا به وفعلوا به الأفاعيل، وزيادة في التلبيس على الناس يأتون بأحد مكانه ويشبهون على الناس أن ذلك المصلوب هو عيسى -عليه السلام-. ومشهد الصلب نفسه لم يحضره سوى عدد قليل أكثرهم من اليهود، وبعضهم من أتباع المسيح -عليه السلام- ومعارفه، وقد كان أكثرهم -إن لم يكن كلهم- نسوة ينظرن من بعيد، فإذا أضفت إلى ذلك أن المصلوب صفع وجلد وضرب ضربًا شديدًا مبرحًا طمست معالمه بسببه، وأنهم جردوه من ملابسه وصلبوه عريانـًا بعد ما ألبسوه تاجًا من الشوك إلى آخر تلك الآلام التي يحكونها… فمن بعد ذلك يمكن أن يجزم أن المصلوب هو فلان أو غيره؟! ولذلك اخترع النصارى تلك النبوءات المزعومة على لسان المسيح -عليه السلام- لينقلوا الأمر من مجرد الظن والتخمين إلى أعلى درجات القطع واليقين، ولكن بصمات التحريف كشفتهم فازداد الخرق على الراقع. ويختم رواة تلك الأناجيل مروياتهم بظهور شخص للتلاميذ يدعي أنه المسيح ويوبخهم بزعم أنه المسيح -عليه السلام-؛ لأنهم لم يصدقوا الذين أخبروهم بقيامته! قائلا لهم: “هكذا كان ينبغي أن المسيح يتألم ويقوم من الأموات في اليوم الثالث”!! ولو صح ما يذكرونه من ظهور ذلك الشخص لهم فلابد أن يكون ممن قال المسيح فيهم: “انظروا لا يضلكم أحد فإن كثيرين سيأتون باسمي قائلين أنا هو المسيح ويضلون كثيرين…” كما هو مذكور في عدة مواطن بأناجيلهم، وتكرر هذا على لسانه يحذرهم من الأنبياء الكذبة -أي المتنبئين-، والمسحاء الكذبة -أي من يدعي أنه المسيح-، لا سيما وقد قال لهم بعد تلك التنبيهات والتحذيرات: “الحق أقول لكم لا يمضي هذا الجيل حتى يكون هذا”، فليس في مرويات الظهور حجة لأهل الصليب. وقبل أن يسدل متـّى الستار على آخر فصول إنجيله يذكر لنا أمرًا في غاية الأهمية معلقـًا على ظهور المسيح للتلاميذ، وينسف به دعوى النصارى أن سلفهم الأولون قد اتفقوا على أحداث الصلب والقيامة، يقول متى: “ولما رأوه سجدوا له، ولكن بعضهم شكوا… “, ولا تعليق إلا بقوله -عز وجل-: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَمَا تَهْوَى الأَنْفُسُ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدَى} [النجم: 23]، وقال -عز وجل-: {إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلا يَخْرُصُونَ} [الأنعام: 116].
نسأل الله العظيم الكريم الهدى والسداد، والإيمان والرشاد، ونعوذ به من الريب والشك ومضلات الهوى إنه ولي ذلك والقادر عليه.