“كانت الإمبراطورية العثمانية دولة إسلامية، ولكن لماذا لم يذهب سلاطين هذه الدولة إلى الحج؟”.
سؤال طرحه بعض المستشرقين لتشويش عقول الجماهير حول معلوماتهم عن الدولة العثمانية، ووجد فيه بعض الكُتاب العرب ضالتهم للطعن في سلاطين آل عثمان، سواء كانوا مدفوعين بنعرة قومية، أو يفعلون ذلك مسايرة لأنظمة بلادهم التي تناصب تركيا العداء في السنوات الأخيرة، وهو ما صار مادة خصبة للذباب الألكتروني لكي يعمل عليه.
لقد وصل العداء بالبعض حدّ القول بأن السلاطين العثمانيين لم يحج واحد منهم إلى البيت الحرام استهانة بالحج وعدم تقديس وإجلال هذا الركن العظيم من أركان الإسلام، وبعضهم أمعن في التضليل حيث ذكر أن سلاطين الدولة العثمانية لا يعترفون بالحج لأنهم كانوا يحجون إلى القبور بدلا من البيت الحرام.
سنتجاوز الحديث عن مظاهر الاهتمام العظيم من قبل سلاطين الدولة العثمانية بالحج وشؤونه وتأمين طرقه والمعارك التي خاضوها لهذا الغرض وإصلاحاتهم وتجديداتهم في الحرمين، للتدليل على قدسية الحج لديهم، وندخل مباشرة في نطاق الرد على هذه الفرية، وذلك من خلال العناصر التالية:
هل حج أحدٌ من سلاطين الدولة العثمانية؟
الذين يروجون أن سلاطين آل عثمان لم يحج أحد منهم تسرّع في النقل ولم يبحث بنفسه أو يطالب من ينفي بالدليل، فالمراجع التاريخية تثبت أن بعض سلاطين الدولة قام بالحج أو همّ به، أو حج سرًا، أو اعتمر ولم يتمكن من الحج، وليس كما يشاع أن السلاطين العثمانيين كانوا مُعرِضين عن أداء الفريضة.
1- ممن حج من السلاطين العثمانيين، السلطان بايزيد بن محمد بن مراد الثاني، والذي تم تنصيبه بعد وفاة أبيه سلطانا وهو في رحلة الحج، ورفض العودة قبل أن يتم حجته، يقول أحمد بن يوسف القرماني (ت: 1610م” في كتابه “أخبار الدول وآثار الأول في التاريخ”: “فلما أوصى السلطان محمد بالملك لولده بايزيد خان، وهو كان قد توجه في ذلك العام إلى سفر الحج، فقيل له ذلك، فقال: والله ما أنثني عن هذا السفر أبدا، وإن ولدي “قورقود” ينوب عني في السلطنة إلى أن أعود”. فلما عاد بايزيد من الحج جلس مكان ولده على العرش.
إذن، السلطان بايزيد أدى الحج، لكنّ المغرضين قطعا يعرضون عن مثل هذه الكتب التاريخية، وذكر القرماني في نفس الكتاب أن الأمير “جم” الذي نازع السلطان بايزيد على العرش، لما انهزم أمام بايزيد استنصر بالملك الأشرف قايتباي، فلما نزل مصر ذهب منها إلى أداء الحج، ويدل على ذلك الرسالة التي بعث بها إليه بايزيد بعد عودة “جم” من الحج، حيث كتب إليه: “بما أنك اليوم قمت بواجباتك الدينية في الحج، فلماذا تسعى إلى الأمور الدنيوية”.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
وهذا معناه أن السلاطين بل الأمراء كانوا يحرصون على أداء الحج ليسوا معرضين عنه كما يدعي الذباب.
2- ومن هؤلاء السلاطين الذين أرادوا الحج وهموا به، السلطان عثمان بن أحمد (عثمان الثاني) الذي تولى السلطنة بين عامي 1618-1622م، وجاء في المراجع التاريخية مثل كتاب الأساطين في حج السلاطين لمحيي الدين الطبري، وكتاب تاريخ الدولة العثمانية للمؤرخ التركي يلماز أوزتان، أن السلطان عثمان الثاني أعلن خروجه للحج رغم فتاوى شيخ الإسلام أسعد أفندي له بعدم الذهاب للحج منعا لحدوث الفتن، إلا أن السلطان أصر على ذلك، لكنه اغتيل لدى شروعه في السفر.
3- وأما السلطان عبد الحميد الثاني، الذي سجل له التاريخ أعمالا حضارية عظيمة أبرزها مد خط سكة حديد الحجاز لتيسير الحج على المسلمين الذين كانوا يستغرقون في قوافل الحج شهرين أو يزيد، فقد ذكرت المراجع التاريخية أنه قد حج عن نفسه متنكرًا، وهو ما جاء في كتاب “السلطان عبد الحميد الثاني المفترى عليه..دراسة من خلال الوثائق” تأليف عمر فاروق يلماز، ترجمة طارق عبد الجليل السيد صفحة 161، وكتاب ” الشيخ عبد الله عبد الغني خياط الخطيب في المسجد الحرام” لمحمد علي حسن الجفري ص24.
وإضافة إلى ذلك فقد أناب السلطان عبد الحميد كذلك من يحج عنه، كما سيأتي لاحقا.
4- كما أن السلطان محمد وحيد الدين (محمد السادس)، قد نوى أداء الحج، فذهب إلى الأراضي المقدسة بناء على دعوة من شريف مكة، فأدى العمرة وأراد المقام حتى موعد الحج لأداء الفريضة، إلا أن المرض حال بينه وبين ذلك، وقد نشرت صحيفة “القبلة” التي كان أصدرها شريف مكة تفاصيل تلك الزيارة، وذلك في أعداد رقم: 653، 655، 665، 679، 680، 684 من السنة السابعة عام 1341ه.
5- وكان محمد السادس قد سجل نيته لزيارة الأراضي المقدسة في مذكراته، حيث كتب في سياق كلامه عن أحداث خروجه من إسطنبول: “أنا لم أهرب لكني هاجرت، وقد اخترت مالطة باعتبارها الخيار الأقل سوءًا، حيث يمكن منها أن أذهب إلى الأراضي المقدسة” وهو ما ذكره عثمان أوغلو حفيد السلطان مراد الخامس في كتاب “سلاطين الدولة العثمانية”.
الحج بالوكالة، مشروعيته وتأصيله:
ربما يقول القارئ إن هذا العدد من السلاطين العثمانيين الذين حجوا أو هموا بالحج وعزموا عليه قليل بالنسبة لإجمالي العدد البالغ 38 سلطانا، لكنه قد يفاجأ بأن العديد منهم قد أناب عنه من يحج، وهي مسألة فقهية تكلم فيها العلماء قديما وحديثا، ومن هؤلاء الذين تكلموا في هذه المسألة بشروطها الفقيه ابن رشد، فقد جاء في كتاب “مواهب الجليل شرح مختصر الخليل” وهو أحد كتب الفقه المالكي، أن ابن رشد سُئل: “مَا قَوْلُكُمْ فِي سُلْطَانٍ عَلَيْهِ حَجَّةُ الْإِسْلَامِ وَخَافَ أَنَّهُ مَتَى حَجَّ بِنَفْسِهِ اخْتَلَّ أَمْرُ الرَّعِيَّةِ وَفَسَدَ نِظَامُهُمْ وَاسْتَوْلَى الْكُفَّارُ عَلَى بِلَادِهِمْ فَهَلْ يَجُوزُ لَهُ أَنْ يَسْتَأْجِرَ مِنْ يَحُجُّ عَنْهُ أَمْ لَا؟ وَمَا الْحُكْمُ فِي ذَلِكَ؟
فَأَجَاب: “إذَا تَحَقَّقَ مَا ذُكِرَ مِنْ اخْتِلَالِ أَمْرِ الرَّعِيَّةِ وَفَسَادِ نِظَامِهِمْ وَاسْتِيلَاءِ الْكُفَّارِ عَلَى بِلَادِهِمْ بِسَبَبِ حَجِّ هَذَا السُّلْطَانِ فَلَا كَلَامَ فِي سُقُوطِ الْحَجِّ عَنْهُ؛ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُسْتَطِيعٍ وَيَصِيرُ الْحَجُّ فِي حَقِّهِ غَيْرَ وَاجِبٍ”.
كان علماء الفقه الحنفي في الدولة العثمانية يفتون للسلاطين بعدم الحج، تفاديا للأخطار التي تترتب على غياب السلطان، نظرًا للمراحل القاسية التي مرت بها الدولة من الاستهداف من الشرق والغرب، ومر بنا كيف أفتى شيخ الإسلام.
وقد قام فريق المرصد بترجمة لدراسة أكاديمية تاريخية للمؤرخ التركي “محمد مقصود أوغلو” نشرها الموقع التاريخي “بياز تاريخ” الخاص بالمؤرخين الأتراك، تحدث فيها عن أسباب عدم ذهاب كثير من السلاطين العثمانيين إلى الحج، فمن ذلك ما كان يستغرقه الحج من فترة طويلة قد تصل إلى بضعة أشهر، وأنه لم يكن من المحتمل أن يترك السلطان شؤون الدولة هذه الفترة الطويلة، ويعرض البلاد لخطر الفتن، وضرب مثالا على ذلك بثورة القذافي على ملك ليبيا “السنوسي” أثناء تواجد الأخير في بورصة بتركيا، كما تحدث عن الخطرين البرتغالي والإسباني في تهديد الدولة العثمانية، ما جعل مسألة حج السلاطين صعبة، فمن ثم أنابوا من يحج عنهم.
ومن هؤلاء، السلطان مراد ابن السلطان سليم الثاني، حيث ذكر قطب الدين الحنفي في كتابه “الإعلام بأعلام بيت الله الحرام” أن السلطان مراد أناب مائة يحجون عنه ويدعون له مقابل عشرة دنانير ذهبية لكل منهم.
ومنهم السلطان محمود الأول والذي أناب الشيخ محمد بن مراد المرادي، وهو ما ذكره حفيد الأخير، المؤرخ “أبو الفضل محمد خليل أفندي المرادي المفتي بدمشق” في كتابه “سلك الدرر في أعيان القرن الثاني عشر”.
وفي دراسة أعدها الباحث السعودي الدكتور حمد بن عبد الله بن سلطان العنقري بعنوان “النيابة بالحج عن السلاطين العثمانيين”، عرض الباحث وثيقة متضمنة حجة شرعية عن السلطان عبد الحميد صادرة من محكمة مكة المكرمة، قام بها الشيخ أحمد بن محمد زاهد المدني إمام المسجد النبوي، وتضمنت كذلك تكليف السلطان عبد الحميد ابني هذا الشيخ بالحج عنه سنويا بالتناوب، وهي موجودة في أرشيف رئاسة الوزراء في إسطنبول برقم: Y.MTV85/52.
ماذا عن الملوك والسلاطين من غير العثمانيين؟
ولأن الذباب الألكتروني ومن يقف وراءهم يستجهلون المتابعين، فقد وضعوا أيديهم على بعض صفحات التاريخ، حتى لا يعرف القارئ أن عدم ذهاب معظم السلاطين العثمانيين للحج ليس خاصا بسلاطين الدولة العثمانية، فمن يطالع كتاب “الذهب المسبوك فيمن حج من الخلفاء والملوك” للمؤرخ المقريزي، يُفاجأ بالحقائق التالية:
خلفاء بني أمية لم يحج منهم سوى خمسة..
خلفاء بني العباس لم يحج منهم سوى ثلاثة في العصر العباس الأول، ولم يحج أحد في العصر العباسي الثاني…..
ملوك الشام حج منهم ثلاثة..
ملوك اليمن حج منهم ستة…
حكام العبيديين في مصر (الدولة الفاطمية) لم يحج منهم أحد…
حكام الأمويين في الأندلس لم يحج منهم أحد….
الدولة الأيوبية لم يحج من سلاطينها أحد، حتى صلاح الدين الأيوبي لم يحج حيث أشغله قتال الصليبيين المستمر، وبعد معركة حطين هَمّ بالحج لولا أن وافته المنية.
إذن، نحن أمام عدة حقائق بشأن هذه القضية:
أولا: ليس صحيحا أن سلاطين العثمانيين لم يحجوا جميعًا، فبعضهم حج، وبعضهم هَمّ بذلك، وبعضهم أناب غيره.
ثانيًا: إقدام السلاطين على رحلة الحج الطويلة والغياب عن السلطنة أشهرًا كان يعرضها للخطر، كما أنهم انشغلوا بالصراعات مع العدو الخارجي، فمن ثم أفتى لهم علماؤهم بعدم الذهاب للحج وإجزاء النيابة.
ثالثا: لم ينفرد سلاطين العثمانيين بذلك، فمعظم ملوك وسلاطين الدول الإسلامية في الحقب المختلفة لم يحجوا للأسباب ذاتها.
المصدر: الأناضول