مع حلول عام 1492 سقطت غرناطة، معلنةً بذلك سقوط آخر حصون المسلمين في الأندلس، وزوال الحكم الإسلامي الذي استمر طيلة 8 قرون لإسبانيا. ومع سقوط البلاد في يد الملك فرناندو والملكة إيزابيلا أُجبر المسلمون على تغيير دينهم عنوة إلى المسيحية، وأُقيمت محاكم التفتيش، ما جعل الكثير يهاجرون من بلادهم فارّين إلى العديد من البلاد، وبالأخص إلى المغرب، حيث مملكة فاس، وأحد هؤلاء كان ليون الإفريقي.
وبينما كل تلك الأحداث الجسام والتغيرات الكبرى تحدث، وفي القلب منها غرناطة، وُلد الحسن الوزّان في 1496 لأبٍ هو عالم نحوٍ وفقيه، وصاحب شأنٍ في غرناطة، كما كان عمّهُ مقرباً من حكّام مدينة فاس.
سرعان ما انتقلت عائلة الوزّان إلى فاس كالكثير من أهل الأندلس الفارين من قمع فرديناند وإيزابيلا، وهناك في فاس ترعرع ونشأ. ومع مقدم أبيه إلى مدينة فاس أُوكلت إليه بعض المهمات والسفارات لجمع الضرائب من النواحي والمدن، ورغم حداثة سن الحسن الوزان آنذاك فإن والده كان يصطحبه في تلك الأسفار، وهو ما جعله عارفاً ببلاد فاس، وشغوفاً بعلم الجغرافيا والترحال منذ صغره.
الحسن الوزان رحالة وجغرافياً
بجانب أسفاره مع أبيه، وشغفه بالترحال وعلم الجغرافيا، تلقَّى الحسن العلم في جامعة القرويين، ومع بلوغه 11 سنة، حصل الحسن على أول وظيفة في المستشفى الكبير بفاس، وفي عمر 14 سنة خاض غمار السياسة، وذلك عندما أوفده سلطان فاس محمد الوطاسي لخصمه، قائد الدولة السعدية محمد القائم بأمر الله السعدي، ودخل كلاهما في حربٍ ضد الآخر.
ومنذ ذلك الحين أصبح الحسن قائماً بمهماتٍ مختلفة باسم سلطان فاس، وكذلك كوَّن العديد من الصداقات مع أمراء وملوك إفريقيا، ونزل عليهم ضيفاً، حتى أصبح عالماً ببلاد إفريقيا، مألوفاً لأهم حواضرها وسلوك أهلها، ولم يقف شغفه في الترحال عند زيارة الحواضر والمدن الإفريقية المختلفة، بل تشكّل لديه حلمٌ بتأليفِ كتابٍ يضاهي كتاب ابن بطوطة، يسجل فيه رحلاته، ويصف فيه جغرافيا إفريقيا، والذي شكل نقطة تحول في حياة الحسن. .
يقول محمد المهدي الحجوي، في كتابه عن حياة الحسن الوزان “حياة الوزان الفاسي وآثاره”، إنَّه عندما اكتملت عند الحسن صورة لجغرافيا إفريقيا، لم يكتفِ الحسن بما حققه، بل تعداه لاستكمال باقي رحلاته خارج القارة، فذهب إلى العاصمة العثمانية الأستانة (إسطنبول)، وكان ذلك حوالي عام 1518، أي عندما كان في سنّ 22 عاماً تقريباً.
ثم عاد حسن الوزان إلى مصر، حيث كان السلطان العثماني سليم الأول قد ضمّها مؤخراً للدولة العثمانية، ثم توجه بعد ذلك إلى السودان، ومنه أبحر إلى جدّة في الحجاز، ثم قفل راجعاً إلى تونس، التي ختم بها رحلته مارّاً بطرابلس الغرب (ليبيا)، وتُعدُّ هذه هي رحلة الحسن الثانية، إذ كانت الأولى وهو بعمر 12 عاماً، أي في عام 1508، ولا يُعرف عنها الكثير؛ إذ لم يحكِ الحسنُ عنها إلا القليل، والتي يُعتقد أنه قام فيها بأداء فريضة الحج وزيارة جزيرة العرب، طبقاً لما أورده الحجوي في بحثه.
كما يذكر الدكتور علي بن عبدالله الدفاع في كتابه “رواد علم الجغرافيا في الحضارة العربية والإسلامية”، أن الحسن الوزان زار بلاد فارس والشام وأرمينيا، وذلك في رحلته الأولى.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
الأسر.. الحسن الوزان يصبح ليون الإفريقي
بانتهاء رحلة الحسن الثانية ووصوله إلى تونس، قرَّر الحسن الإبحار إلى المغرب حيث موطنه وأهله، وبينما هو راجع إلى وطنه، وبالقرب من جزيرة جربة أُسر الحسن الوزان من قبل قرصان إيطالي، الذي ذهب به إلى نابولي في إيطاليا.
علم القرصان أنّ الحسن الوزان ذو شأن علمي وصاحب جاه، فقدّمه هديةً إلى بابا روما ليون العاشر، الذي كان يولي اهتماماً خاصاً لعلوم العرب والمسلمين، رغبةً منه في الحصول عليها وتوطينها في بلاده، وهو ما كان أحد أسباب النهضة الأوروبية الحديثة، وتغيرت حياة الحسن الوزان في الوقت نفسه منذ تلك اللحظة.
بالنسبة لبابا روما، فقد مَثَّلَ الحسن الوزان الشخص الذي سيهدي إليه ضالته المنشودة ورغبته الكبيرة، فكان للحسن أهمية كبيرة عند البابا، ولذلك تلقّاه البابا بحفاوةٍ كبيرة، وقرَّبه إليه، وجعله من خاصته، وأجبره على الإقامة في روما، بل غيَّر اسمه ليعطي له اسماً جديداً، هو اسم البابا نفسه، ليصبح بذلك الحسن الوزّان “ليون الإفريقي”، أو “يوحنا الأسد”.
ويقول الدكتور الدفاع إن البابا أكره الوزان على اعتناق النصرانية، فهو في النهاية أسيرٌ لدى البابا، حيث بقي عنده في روما طول مدة حياة البابا إلى أن توفى في سنة 1521.
كان ليون الإفريقي متعدد اللغات، فصيحاً في اللغة الإسبانية، وعارفاً باللغة العبرية، هذا إلى جانب لغته الأم العربية بالطبع.
أمر البابا بتعليمه اللغة الإيطالية واللاتينية، وبدأ الحسن في خطّ كتابه الأهم والأشهر “وصف إفريقيا”، وترجمه إلى الإيطالية، كما أنه درّس اللغة العربية في كلية بولونيا، التي كان يُدرَّس فيها العلوم الحديثة، التي تُعتبر من أهم دعائم النهضة الأوروبية الحديثة وفقاً لما أورده الحجوي.
كتاب “وصف إفريقيا” وأهميّته في أوروبا
بدأ ليون الإفريقي تأليف الكتاب باللغة العربية، ثم بدأ بترجمة ما ألّفه إلى الإيطالية، إلا أن الترجمة الإيطالية كانت تحوي بعض المشاهدات الإضافية الزائدة عن النسخة العربية، كما لم يكتفِ الحسن بذكر جغرافيا إفريقيا فقط في كتابه، بل تعدّاه لما رأه في أوروبا وآسيا كذلك، وانتهى الحسن من تأليف الكتاب وترجمته عام 1526.
وفي عام 1550 طُبِعَت الترجمة في إيطاليا، وتُرجِم الكتاب إلى اللاتينية، وانتقل إلى فرنسا باللغة الفرنسية في نفس العام، كما أُعيدت طباعة الكتاب عدة مرات في المدن الأوروبية المختلفة، وذلك حتى عام 1896، ما يدل على قيمة الكتاب لدى الأوروبيين وقدر الاهتمام به، إذ يُعد كتاب الحسن أول كتاب جغرافي عن إفريقيا ظهر في أوروبا، كما أنه كان أول الكتب التي ابتدأت بها المطبعة الفرنسية، وهو ما يعكس أهمية وتأثير الكتاب على فترة النهضة الأوروبية.
وينقل الحسن في كتابه عن العديد من المؤرخين والجغرافيين العرب مقابل عددٍ ضئيل من الغربيين، وقد قسَّم الحسن الكتاب إلى 3 أجزاء تقع في 9 كتب.
وصف الحسن في هذا الكتاب جغرافيا إفريقيا العامة الطبيعية والطقسية، وكذلك الأنهار ومجاري المياه ومحاصيل كل قُطر، ثمّ عَمَدَ إلى كلّ ناحيةٍ من القارة فتحدَّث عن مدنها أولاً، ثم تطرَّق إلى بواديها، كما فصَّل الحسن مسافات الطرق بالأميال، مع بيان الأحوال الاجتماعية والسياسية لكل بلد وتحرِّى الدقة في أوصافه وبياناته.
انتهى ليون الإفريقي من كتابه وترجمته إلى الإيطالية عام 1526، وذلك بعد موت البابا بخمس سنوات.
تحدّث ليون الإفريقي في كتابه بالترتيب عن مراكش ومدنها وسكانها وظواهرها الطبيعية، ثم أفرد الحديث بعد ذلك عن فاس وذكر تفاصيلها، ثم مدينة تلمسان، ومدينتي بجاية وتونس، ثم طرابلس الغرب، ثم السودان، وأخيراً تحدّث عن مصر.
ليون الإفريقي يعود من جديد إلى حسن الوزان
دخل ليون الإفريقي بعد وفاة البابا تحت حماية الكردينال جيل دو فيترب، وكان محل تبجيلٍ واحترام، إذ لم يُعامل المعاملة التي كانت سائدة حينها للأسرى، بل معاملة العالِم الذي ينشر العلم تأليفاً وتدريساً.
تختلف الروايات حول عودة الحسن إلى بلاده مرةً أخرى، إذ إن الروايات المسيحية لا تذكر عودة الحسن مرة أخرى إلى بلاده، إلا أن الحجوي يرجّح في كتابه أن ليون الإفريقي ترك إيطاليا وعاد إلى وطنه، وذلك في عام 1528.
كما يؤيد تلك الرواية الدكتور علي بن عبدالله الدفاع في كتابه أيضاً، والذي يذكر أن ليون قد بقي في إيطاليا 32 عاماً مكرهاً، إلا أنه استطاع الإفلات من قبضة الإيطاليين أخيراً، واتجه إلى تونس وأنكر النصرانية التي أكره عليها وأعلن أنه من المسلمين.
ولا يُعرف بالضبط كيف ومتى مات الحسن الوزان، فقد انقطع خبره عند وصوله إلى تونس، وحاول الإيطاليون العثور عليه مرة أخرى، لكن دون نتيجة، إلا أن الدكتور الدفاع يعتقد أن الحسن توفي حوالي سنة 1552 بتونس.
ومن الجدير بالذكر، أن الحسن الوزان لم يكن عالماً فذاً في الجغرافيا ومؤرخاً ومترجماً فقط، بل كان فقيهاً أيضاً، إذ أشار في كتابه “وصف إفريقيا” لمؤلف له يبحث في المذاهب الأربعة، ويفرد للمذهب المالكي جزءاً خاصاً، حيث كان المذهب المالكي مذهب أهل المغرب.
كما لم تقتصر جهود الحسن الوزان على علم الجغرافيا والفقه، إذ إنه صنَّف قاموساً طبياً يُفسر فيه الألفاظ العربية باللاتينية والعبرية، وله أيضاً كتاب جامع لتراجم الأطباء والفلاسفة في الإسلام، ويعتبر بعض المؤرخين أن هذا الكتاب هو أول كتاب يصل إلى أوروبا يُبرز تطور العلوم عند العرب والمسلمين.
ورغم أنّه لا يُعرف مصيره النهائي، فإنّ ليون الإفريقي صار أيقونةً في أوروبا، وأحد أسباب النهضة الأوروبية الحديثة، ولكنّ المهم أنّه عاد في النهاية واعتنق اسمه الأوّل: الحسن الوزان.