في أواخر القرن التاسع عشر كثرت الجمعيات والتنظيمات السرية والتي أسسها مواطنون عثمانيون ينتمي أغلبهم للأقليات اليهودية والمسيحية، وحتى المسلمين منهم فقد تلقوا تعليمهم في الغرب فتشبعوا بالأفكار الغربية وعادوا إلى بلادهم مصممين على إحداث تغيير سياسي واجتماعي في أرجاء الإمبراطورية العثمانية، فانتظموا مع غيرهم في محافل وجمعيات ماسونية كان أبرزها جمعية الاتحاد والترقي، وقد عارضت هذه الجماعة وبشدة السلطان عبد الحميد الثاني وعملت على عزله وكان السبب الرئيسي وراء ذلك هو رفض السلطان عبد الحميد مطلب هرتزل بإقامة وطن قومي لليهود في فلسطين رغم العروض المغرية التي قدمها اليهود للدولة العثمانية.
كان السُّلطان عبد الحميد الثَّاني شديد الحذر من جمعيَّة الاتِّحاد والتَّرقِّي المدعومة باليهود، والمحافل الماسونيَّة، والدُّول الغربيَّة، واستطاع جهاز مخابرات السُّلطان عبد الحميد أن يتعرَّف على هذه الحركة، ويجمع المعلومات عنها؛ إِلا أنَّ هذه الحركة كانت قويَّةً، وقد جاءت مراقبةُ عبد الحميد لأعضاء هذه الحركة في وقتٍ متأخِّرٍ، حيث دفعوا الأهالي إِلى مظاهراتٍ صاخبةٍ في سلانيك، ومناستر، وأسكوب، وسوسن مطالبين بإِعادة الدَّستور، بالإِضافة إِلى أنَّ المتظاهرين هدَّدوا بالزَّحف على القسطنطينيَّة. الأمر الَّذي أدَّى بالسُّلطان إِلى الخضوع لمطالب المتظاهرين؛ حيث قام بإِعلان الدُّستور، وإِحياء البرلمان، وذلك في 24 تمُّوز 1908م، وكانت هناك عدَّة أسباب جعلت من جمعيَّة الاتِّحاد والتَّرقِّي تبقي السُّلطان عبد الحميد الثَّاني في تلك الفترة على العرش منها:
1ـ لم تكن في حوزة الاتِّحاد والتَّرقِّي القوَّة الكافية لعزله في عام 1908م.
2ـ اتِّخاذ عبد الحميد الثَّاني سياسة المرونة معهم، وذلك بتنفيذ رغباتهم بإِعادة الدُّستور.
3ـ ولاء العثمانيِّين لشخص السُّلطان عبد الحميد. وهذه النُّقطة واضحةٌ؛ حيث إِن لجنة الاتِّحاد والتَّرقِّي لم تكن لها الجرأة الكافية على نشر دعايتها ضدَّ السُّلطان عبد الحميد الثَّاني بين الجنود؛ لأنَّ هؤلاء كانوا يبجِّلون السُّلطان.
إِنَّ الصَّهيونيَّة العالميَّة لم تقتصر على الانقلاب الدُّستوري لعام 1908م، بل تعاونت مع جمعيَّة الاتِّحاد والتَّرقِّي لتحقيق مكاسب أخرى في فلسطين، وعليه كان لا بدَّ من التَّخلُّص من السُّلطان عبد الحميد الثَّاني نهائيًّا، ولذلك دبَّرت أحداث 31 أبريل 1909 م في إِستانبول، وترتَّب على أثرها اضطرابٌ كبيرٌ، قُتل فيه بعض عسكر جمعيَّة الاتِّحاد والتَّرقِّي، عرف الحادث في التَّاريخ باسم حادث 31 مارت.
وقد حدث هذا الاضطراب الكبير في العاصمة بتخطيطٍ أوربيٍّ يهوديٍّ مع رجال الاتِّحاد والتَّرقِّي، وتحرَّك على أثره عسكر الاتِّحاد والتَّرقِّي من سلانيك، ودخل إِستانبول، وبهذا تمَّ عزل خليفة المسلمين السُّلطان عبد الحميد الثَّاني من كلِّ سلطاته المدنيَّة والدِّينيَّة، ثمَّ وجَّهت إِليه جمعيَّة الاتِّحاد والتَّرقِّي التُّهم التَّالية:
1ـ تدبير حادث 31 مارت.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
2ـ إِحراق المصاحف.
3ـ الإسراف.
4ـ الظُّلم، وسفك الدِّماء.
مع أنَّ جمعيَّة الاتِّحاد والتَّرقِّي العثمانيَّة تبنَّت الأفكار الغربيَّة المضادَّة للإِسلام، وللفكر الإِسلامي؛ لكنَّها استغلَّت الدِّين عند مخاطبتها للنَّاس للتَّأثير فيهم، وكسب أنصارٍ لهم في معركتهم ضدَّ السُّلطان عبد الحميد الثَّاني، وقد نجحوا في ذلك.
تقول الجمعيَّة في بياناتها إِلى العثمانيِّين: (أيُّها العثمانيُّون: إِنَّ مقصدنا هو سلامة الدَّولة، والخلافة، ولم يعد أحدٌ يجهل هذا)، (وبعون الباري وهمَّة الإِخوان) و (أيُّها المسلمون: كفانا أن نقوم بدور المتفرِّج على سلطان جبَّارٍ، عديم الإِيمان، يسحق القرآن تحت أقدامه، وكذلك يسحق الضَّمير والإِيمان) و (استيقظوا يا أمَّة محمَّد!) و (الشَّجاعة الشَّجاعة يا مسلمون! الشَّجاعة منَّا والعون من الله، نصرٌ من الله وفتحٌ قريبٌ) و (أيُّها المسلم الموحِّد! اقرأ باسم ربِّك) و (انهض أيُّها المسلم الموحِّد! وأنقذ دينك، وإِيمانك من يد الظَّالمين. وأنقذ بذلك نفسك! فهنا شيطانٌ جبَّارٌ يحمل فوق رأسه تاجاً، وفي يده دينك، وإِيمانك. فأنقذ دينك منه، وإِيمانك أيُّها الموحِّد) و (يا أيُّها المسلمون! إِنَّ السُّلطان عبد الحميد شرعاً ليس بسلطانٍ، ولا خليفة! ومن لا يصدِّق قولنا هذا: فلينظر في الكتَّاب، والسُّنَّة، لقد أبرزت جمعيَّتنا بالآيات القرآنيَّة، والأحاديث النَّبويَّة، وأوامر الله، وأوامر الرَّسول الموجَّهة إِلى الحكومة والأهالي، لكنَّ السُّلطان عبد الحميد أشاح بوجهه بعيداً عن أوامر الله، وأوامر الرَّسول، وبالتَّالي: أثبت ظلمه، ولم يخجل من الاعتراض على الله؛ لذلك ينبغي على شعبنا أن يلجأ إِلى السِّلاح ضدَّه، وإِذا لم يفعل الشَّعب هذا؛ فليتحمَّل إِذاً وزر ما عليه السُّلطان عبد الحميد من ظلم).
لقد كان الفكر الحاكم في اتِّجاهات جمعيَّة (الاتِّحاد والتَّرقِّي)، هو: الماسونيَّة، وهي لا تعترف بالأديان، وتتبنى الفلسفة الوضعيَّة (العقلانيَّة، وهي تنفي الدِّين) والعلمانيَّة (وهي تبعد الدِّين عن الحياة)، ومع ذلك استخدم الثُّوَّار الاتِّحاديُّون الدِّين لمحاربة السُّلطان عبد الحميد الثَّاني، وافتروا عليه باسم الدِّين.
إنَّ التُّهم الَّتي وجِّهت للسُّلطان عبد الحميد الثَّاني لا تثبت أمام البحث العلميِّ، ولا أمام الحجج، والبراهين الدَّالَّة على براءته الكلِّيَّة ممَّا ينسب إِليه، فقد أثبتت الأدلَّة عدم علم السُّلطان عبد الحميد بحادث 31 مارت، كما أنَّه (من المحال إِحراق السُّلطان عبد الحميد للمصاحف، فهو سلطانٌ معروفٌ بتقواه، ولم يعرف عنه تركه للصَّلاة، وإِهماله للتَّعبُّد، كما أنَّه معروفٌ بعدم إِسرافه، ولأنَّه لا يعرف الإِسراف؛ فقد كان المال يتوفَّر معه دائماً، ولذلك فقد أزاح عن كاهل الدَّولة أعباءً كثيرةً من ماله الخاصِّ).
وأمَّا عن ظلمه، وسفكه للدِّماء فلم يعرف عن السُّلطان عبد الحميد هذا، وسفك الدِّماء لم يكن أبداً ضمن سياسته.
ولم يغبْ عن بال الانقلابيِّين الضَّغط على مفتي الإِسلام محمَّد ضياء الدِّين بإِصدار فتوى الخلع، ففي يوم الثُّلاثاء السَّابع والعشرين من شهر نيسان عام 1909م اجتمع 240 عضواً من مجلس الأعيان في جلسةٍ مشتركةٍ قرَّروا بالاتِّفاق خلع السُّلطان عبد الحميد الثَّاني، وكتب مسودَّة الفتوى الشَّيخ نائب حمدي أفندي المالي، لكنَّ أمين الفتوى نوري أفندي الَّذي دعي للاجتماع رفض هذه المسوَّدة، وهدَّد بالاستقالة من منصبه إِن لم يجر تعديلٌ عليها، وأيَّده في التَّعديل عددٌ من أنصاره من النُّوَّاب، فعدَّل القسم الأخير على أن يقرِّر مجلس «المبعوثان» عرض التَّنازل عن العرش، أو خلعه.
وإِليكم نصُّ الفتوى:
(الموقع عليها من شيخ الإِسلام محمَّد ضياء الدِّين أفندي، ووافق عليها مجلس «المبعوثان» بالإِجماع «إِذا قام إِمام المسلمين زيد فجعل ديدنه طيُّ وإِخراج المسائل الشَّرعيَّة المهمَّة من الكتب الشَّرعيَّة، وجمع الكتب المذكورة والتَّبذير، والإِسراف من بيت المال، واتِّفاقيَّة خلاف المسوِّغات الشَّرعيَّة، وقتل، وحبس، وتغريب الرَّعيَّة بلا سببٍ شرعيٍّ وسائر المظالم الأخرى، ثمَّ أقسم على الرُّجوع عن غيِّه، ثمَّ عاد، فحنث، وأصرَّ على إِحداث فتنةٍ ليخلَّ بها وضع المسلمين كافَّة، فورد من المسلمين من كلِّ الأقطار الإِسلاميَّة بالتَّكرار ما يشعر باعتبار زيدٍ هذا مخلوعاً، فلوحظ أنَّ في بقائه ضرراً محقَّقاً، وفي زواله صلاحاً، فهل يجب على أهل الحلِّ، والعقد، وأولياء الأمور أن يعرضوا على زيدٍ المذكور التَّنازل عن الخلافة، والسَّلطنة، أو خلعه من قبلهم. الجواب: نعم يجب).
قُرئت هذه الفتوى في الاجتماع المشترك للمجلس الملِّي، فصرخ النُّوَّاب الاتِّحاديُّون: نريد خلعه، وبعد مداولاتٍ تمَّت الموافقة على خلع السُّلطان عبد الحميد الثَّاني.
وبتكليفٍ من جمعيَّة الاتِّحاد والتَّرقِّي تمَّ تكوين لجنة لإِبلاغ خليفة المسلمين، وسلطان الدَّولة العثمانيَّة عبد الحميد الثَّاني بقرار خلعه، وكانت هذه اللِّجنة تتألَّف من:
1 ـ إِيمانويل قراصو: وهو يهوديٌّ إِسبانيٌّ، كان من أوائل المشتركين في حركة تركيَّا الفتاة، وكان مسؤولاً أمام جمعيَّة الاتِّحاد والتَّرقِّي عن إِثارة الشَّغب، وتحريضه ضدَّ السُّلطان عبد الحميد الثَّاني، وتأمين التَّخابر بين سلانيك، وإِستانبول فيما يتعلَّق باتِّصالات الحركة. وقراصو هذا محامٍ، عملت جمعيَّة الاتِّحاد والتَّرقِّي بنجاحٍ على تعيينه في المجلس النِّيابيِّ العثماني نائباً عن سلانيك مرَّةً، وعن إِستانبول مرَّتين. وصفته المصادر الإِنجليزيَّة بأنَّه من قادة الاتِّحاد والتَّرقِّي. عمل أثناء الحرب مفتِّشاً للإِعاشة، واستطاع أثناء وجوده في هذا المنصب أن يجمع أموالاً كثيرةً لحسابه الخاصِّ، ولعب دوراً هامَّاً في احتلال إِيطاليا لليبيا نظير مبلغ من المال دفعته إِليه إِيطاليا. واضطرَّ نتيجةً لخيانته للدَّولة أن يهرب إِلى إِيطاليا ويحصل على حقِّ المواطنة الإِيطاليَّة، واستقرَّ في تريسنا حيث مات عام 1934م. وكان أثناء وجوده في الدَّولة العثمانيَّة الأستاذ الأعظم لمحفل مقدونيا يزولتا الماسوني.
2 ـ آرام: وهو أرمني عضو في مجلس الأعيان العثماني.
3ـ أسعد طوبطاني: وهو ألباني، نائب في مجلس المبعوثان عن منطقة دراج.
4 ـ عارف حكمت: وهو فريق بحري عضو مجلس الأعيان، وهو كرجي العراق.
يروي السُّلطان عبد الحميد في مذكَّراته تفاصيل هذه الحادثة، فيقول: (إِنَّ ما يحزنني ليس الإِبعاد عن السُّلطة، ولكنَّها المعاملة غير المحترمة الَّتي ألقاها بعد كلمات أسعد باشا هذه، والَّتي خرجت عن كلِّ حدود الأدب، حيث قلت لهم: إِنَّني أنحني للشَّرعيَّة، ولقرار مجلس المبعوثان، وذلك تقدير العزيز العليم، سوى أنِّي أوكِّد بأنَّه لم يكن لي أدنى علاقةٍ لا من بعيدٍ، ولا من قريبٍ بالأحداث الَّتي تفجَّرت في 31 مارت، ثمَّ أردف قائلاً: (إِنَّ المسؤوليَّة الَّتي تحملتموها ثقيلةٌ جدَّاً). ثمَّ أشار عبد الحميد إِلى قراصو قائلاً: (ما هو عمل هذا اليهودي في مقام الخلافة؟ وبأيِّ قصدٍ جئتم بهذا الرَّجل أمامي؟).
لقد اعتبر اليهود، والماسونيُّون هذا اليوم عيداً لهم، وابتهجوا به، وساروا بمظاهرةٍ كبيرةٍ في مدينة سلانيك، ولم يكتفِ الماسونيُّون بذلك، بل طبعوا صورة هذه المظاهرات في بطاقاتٍ بريديَّةٍ، لتباع في أسواق تركيَّا العثمانيَّة، ولمدَّة طويلةٍ. لقد كان الاتِّحاديُّون يفتخرون دائماً بأنَّهم ماسونيُّون. وقد أدلى رفيق مانياسي زادة بتصريحاتٍ إِلى صحيفة تمبس الفرنسيَّة في باريس عقب نجاح انقلاب حركة الاتِّحاد والتَّرقِّي، حيث جاء فيها: (… لقد كانت للمساعدات الماليَّة، والمعنويَّة الَّتي تلقَّيناها من الجمعيَّة الماسونيَّة الإِيطاليَّة الَّتي أمدَّتنا بالعون العظيم نظراً لارتباطنا الوثيق بها).
إِنَّ هذه العلاقة بين الصَّهيونيَّة، والماسونيَّة وضَّحها السُّلطان عبد الحميد الثَّاني في الرِّسالة الَّتي وجَّهها إِلى الشَّيخ محمود أبي الشَّامات شيخه في الطَّريقة الشَّاذليَّة بعد خلعه، وذلك في سنة 1329هـ وقد جاء في هذه الرِّسالة:
(إِنَّ هؤلاء الاتِّحاديِّين قد أصرُّوا عليَّ بأن أصادق على تأسيس وطنٍ قوميٍّ لليهود في الأرض المقدَّسة (فلسطين) ورغم إِصرارهم، لم أقبل بصورةٍ قطعيَّةٍ هذا التَّكليف، وأخيراً وعدوا بتقديم مئةٍ وخمسين مليون ليرة إِنكليزيَّة ذهباً، فرفضت هذا التَّكليف بصورةٍ قطعيَّةٍ أيضاً، وأجبتهم بهذا الجواب القطعي: (إِنَّكم لو دفعتم ملء الدُّنيا ذهباً، فلن أقبل بتكليفكم هذا بوجهٍ قطعيٍّ، لقد خدمت الملَّة الإِسلاميَّة، والأمَّة المحمَّديَّة ما يزيد على ثلاثين سنة فلن أسوِّد صحائف المسلمين). وبعد جوابي هذا اتَّفقوا على خلعي، وأبلغوني: أنَّهم سيبعدونني إِلى سلانيك، فقبلت بهذا التَّكليف الأخير. هذا وحمدت المولى، وأحمده أنَّني لم أقبل بأن ألطِّخ العالم الإِسلامي بهذا العار الأبدي النَّاشئ عن تكليفهم بإِقامة دولةٍ يهوديَّةٍ في الأراضي المقدَّسة فلسطين).
وفي مقالٍ نشر في جريدة (بويوك ضوغو) التُّركيَّة في 2 مايو عام 1947 م العدد 61 يقول (محرم فوزي طوغاي) تحت عنوان (فلسطين والمسألة اليهوديَّة) الآتي:
(منع السُّلطان عبد الحميد تحقيق هدف إِنشاء دولةٍ يهوديَّةٍ في فلسطين، وكلَّف هذا المنع السُّلطان عبد الحميد غالياً، وأودى بعرشه، وأدَّى هذا فيما بعد إِلى انهيار الدَّولة العثمانيَّة كلِّها). رغم: أنَّه كان يدرك ـ كما قال نظام الدِّين لبه دنخلي أوغلو ـ في دراسته عن دور اليهود في هدم الدَّولة العثمانيَّة: أنَّ (اليهود يمتلكون قوىً كثيرةً تستطيع النَّجاح في العمل المنظَّم، فالمال كان عندهم، والعلاقات التِّجاريَّة الدَّوليَّة كانت في أيديهم، كما كانوا يمتلكون الصَّحافة الأوربيَّة، والمحافل الماسونيَّة).
إِنَّ بعض أقطاب حركة الاتِّحاد والتَّرقِّي اكتشفوا فيما بعد: أنَّهم قد وقعوا تحت تأثير الماسونيَّة، والصَّهيونيَّة، فهذا أنور باشا الَّذي لعب دوراً مهمَّاً في انقلاب عام 1908م، يقول في حديثٍ له مع جمال باشا أحد أركان جمعيَّة الاتِّحاد والتَّرقِّي: (أتعرف يا جمال ما هو ذنبنا؟) وبعد تحسُّرٍ عميقٍ قال: (نحن لم نعرف السُّلطان عبد الحميد، فأصبحنا آلةً بيد الصَّهيونيَّة، واستثمرتنا الماسونيَّة العالميَّة، نحن بذلنا جهودنا للصَّهيونيَّة، فهذا ذنبنا الحقيقي).
وفي هذا المعنى، يقول أيُّوب صبري قائد الاتِّحاديِّين العسكريِّين: (لقد وقعنا في شَرَك اليهود، عندما نفَّذنا رغبات اليهود عن طريق الماسونيِّين لقاء صفيحتين من اللَّيرات الذَّهبيَّة، في الوقت الَّذي عرض فيه اليهود ثلاثين مليون ليرةً ذهبيَّةً على السُّلطان عبد الحميد لتنفيذ مطالبهم، إِلا إِنَّه لم يقبل بذلك).
ويقول في هذا الصَّدد برنارد لويس: (لقد تعاون الأخوة الماسونيُّون، واليهود بصورةٍ سرِّيَّةٍ على إِزالة السُّلطان عبد الحميد؛ لأنَّه كان معارضاً قويّاً لليهود؛ إِذ رفض بشدَّةٍ إِعطاء أيِّ شبر أرضٍ لليهود في فلسطين).
بعد إِبعاد عبد الحميد الثَّاني من السُّلطة، عبرت الصُّحف اليهوديَّة في سلانيك عن غبطتها في الخلاص من (مضطَّهد إِسرائيل) كما وصفته هذه الصُّحف. وفي هذا الصَّدد يقول لوثر: (وبعد إِبعاد عبد الحميد من السُّلطة، عبَّرت الصُّحف اليهوديَّة في سلانيك عن غبطتها، وأخذت تزفُّ البشائر بالخلاص من (مضطَّهد إِسرائيل) الَّذي رفض استجابة طلب هرتزل لمرَّتين، والَّذي وضع جواز السَّفر الأحمر الَّذي يقابل عندنا قانون الأجانب).
واستمرَّت الحملات الإِعلاميَّة المنظَّمة تشهر تشهيرًا عنيفًا بالسُّلطان عبد الحميد الثَّاني. استهدف أعداء الإِسلام من تلك الحملات:
1ـ الدِّفاع عن أعضاء الاتِّحاد والتَّرقِّي، مبرِّرين تصرُّفهم في إِنهاء حكم السُّلطان عبد الحميد كي تستردَّ الدَّولة مكانتها.
2ـ تغطية فشل الاتِّحاد والتَّرقِّي في حكم الدَّولة، فقد لجأ رجال الاتِّحاد والتَّرقِّي إِلى القوَّة والاستبداد، وأثاروا الفرقة بين سكَّان البلاد.
3ـ إِبراز صورةٍ مشرقةٍ لعهد الطَّاغية الملحد مصطفى كمال أتاتورك، وأعوانه، وتبرير تصرُّفات عملاء اليهود، والإِنجليز، والدُّول الغربيَّة في إِلغاء الخلافة والسَّلطنة، وإِعلان الجمهوريَّة التُّركيَّة.
4ـ رغبة الصَّهاينة في تدمير سيرة السُّلطان عبد الحميد الثَّاني انتقامًا منه لسياسته المعادية لأهدافهم في فلسطين.
وحقيقـة الأمر: أنَّـه لولا أصالـة الدَّولة العثمانيَّـة، وعراقتها، وشموخها؛ لأصبحت هباء منبثًّا، وطويت صفحاتها في القرن الثَّامن عشر، أو القرن التَّاسع عشر، ولكنَّها ظلَّت تقاوم عوادي الزَّمن أكثر من قرنين نتيجةً للزَّحف الاستعماري، والكيد اليهودي، والنَّخر الماسوني، والضَّعف الشَّديد الَّذي انتاب الدَّولة، وهو ضعفٌ لم يكن السُّلطان عبد الحميد مسؤولاً عنه، وغدت ممتلكات الدَّولة نهبًا بين الدُّول الأوربيَّة الاستعماريَّة، الَّتي كانت تخطِّط منذ زمنٍ بعيدٍ للقضاء على الدَّولة.
وهكذا فقد تمكن أعداء الدولة العثمانية وبالتعاون مع عملائهم داخل الجيش العثماني وأجهزة الدولة الأخرى من تحقيق مسعاهم والإطاحة بحكم السلطان عبدالحميد وبذلك أزالوا أكبر عقبة تقف أمام تحقيق أطماعهم الاستعمارية في البلاد الإسلامية عمومًا ومخططاتهم الاستيطانية في فلسطين خصوصًا.
المصدر: ترك بلس