Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
التصوف الأخذ بالأصول، والترك للفضول، والتشمير للوصول
قال الله تعالى: {وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى (40) فإن الجنة هي المأوى (41)} [سورة النازعات]، وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: [أحب العباد إلى الله الأتقياء الأخفياء، الذين إذا غابوا لم يفتقدوا، وإذا شهدوا لم يُعرفوا، أولئك هم أئمة الهدى ومصابيح العلم] رواه أبو نعيم.
إعلم اخي أن اسم الصوفي لم يكن في الصدر الأول، لكن المعنى كان موجودا، فقد ثبت عن سيدنا عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: “اخشوشنوا وتمعدنوا” ومعنى “اخشوشنوا”، أي الزموا خشونة العيش أي لا تتنعموا، وأما قوله “تمعدنوا” فهو التشبه بمعدّ بن عدنان أحد أجداد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذين كانوا على الإسلام، وكان ذا شهامة وملازمة لخشونة العيش.
يقول الإمام الجنيد سيد الطائفة الصوفية عن التصوف: “الخروج عن كل خُلُقٍ دني، والدخول في كل خُلُقٍ سني“.
ويقول الإمام القشيري في وصف الطائفة الصوفية: “فقد جعل الله هذه الطائفة صفوة أوليائه“.
وعن أبي الحسن الفرغاني قال: سألت أبا بكر الشبلي ما علامة العارف؟ فقال: “صدره مشروح، وقلبه مجروح، وجسمه مطروح”، قال: هذه علامة العارف، فمن العارف؟ قال: “العارف الذي عرف الله عزوجل على ما ورد في كتاب الله، وعمل بما أمر الله، وأعرض عما نهى الله، ودعا عباد الله إلى الله عزوجل”. فقلتُ: هذا العارف، فمن الصوفي؟ فقال: “من صفا قلبه فصفى، وسلك طريق المصطفىصلى الله عليه وسلم، ورمى الدنيا خلف القفا، وأذاق الهوى طعم الجفا”. قلت له: هذا الصوفي، ما التصوف؟ قال: “تعظيم أمر الله، والشفقة على عباد الله”. قلت له: أحسن من هذا من الصوفي؟ قال: “من جفا عن الكدر، وخلص من العكر، وامتلأ من الفكر، وتساوى عنده الذهب والمدر (أي التراب).
وقيل: التصوف الجد في السلوك إلى ملك الملوك.
وقال الحافظ أبو نعيم: “التصوف أحوال قاهرة، وأخلاق طاهرة تقهرهم الأحوال فتأسرهم، ويستعملون الأخلاق فتطهرهم، تحلوا بخالص الخدمة، فكفوا عن طوارق الحيرة، وعصموا عن الانقطاع والفترة، لا يأنسون إلا بالله، ولا يستريحون إلا بحبه، فهم أرباب القلوب المراقبون للمحبوب، والتاركون للمسلوب، سلكوا مسلك الصحابة والتابعين ومن نحى نحوهم من المتقشفين والمتحققين، والمميزين بين الإخلاص والرياء، والعارفين بالخطرة والهمة والعزيمة والنية، والمحاسبين للضمائر، والمحافظين للسرائر، والمخالفين للنفوس، والمحاذرين من الخنوس [(5)] بدائم التفكر، وقائم التذكر، طلبا للتداني، وهربا من التواني، لا يستهين بحرمتهم إلا مارق، ولا يدعي أحوالهم إلا مائق، ولا يعتقد عقيدتهم إلا فائق، ولا يحسن إلى موالاتهم إلا تائق، فهم سرج الآفاق، والممدود إلى رؤيتهم بالأعناق، بهم نقتدي، وإياهم نوالي إلى يوم التلاق“.
وقال معروف الكرخي: “التصوف هو الأخذ بالحقائق، واليأس مما في أيدي الخلائق“.
وقال الشيخ زكريا الأنصاري: “التصوف علمٌ تعرف به أحوال تزكية النفوس، وتصفية الاخلاق، وتعمير الظاهر والباطن لنيل السعادة الأبدية“.
وقيل: “التصوف الموافقة للحق، والمفارقة للخلق“.
وقال سيد الطائفة الإمام الجنيد البغدادي: “التصوف صفاء المعاملة“.
وقيل: “التصوف الانكباب على العمل تطرقا إلى بلوغ الأمل“.
وقال أبو بكر الطمستاني: “الطريق واضح، والكتاب والسنة قائمان بين أظهرنا، فمن صحب منا الكتاب والسنة، وتغرب عن نفسه والخلق، وهاجر بقلبه إلى الله تعالى، فهو الصادق والمصيب“.
وقيل: “التصوف تصفية القلب عن موافقة البرية، ومجانبة الدواعي النفسانية، والتعلق بالعلوم الحقيقية، واتباع الرسول في الشريعة النقية“.
وقيل: “التصوف الأخذ بالأصول، والترك للفضول، والتشمير للوصول“.
وسئل الجنيد بن محمد البغدادي رحمه الله عن التصوف فقال: “اسم جامع لعشرة معان، الأول: التقلل من كل شيء من الدنيا عن التكاثر فيها، والثاني: اعتماد القلب على الله عزوجل من السكون إلى الأسباب، والثالث: الرغبة في الطاعات من التطوع في وجود العوافي، والرابع: الصبر على فقد الدنيا عن الخروج إلى المسئلة والشكوى، والخامس: التمييز في الأخذ عند وجود الشيء، والسادس: الشغل بالله عزوجل عن سائر الأشياء، والسابع: الذكر الخفي عن جميع الأذكار، والثامن: تحقيق الإخلاص في دخول الوسوسة، والتاسع: اليقين في دخول الشك، والعاشر: السكون إلى الله عزوجل من الاضطراب والوحشة، فإذا استجمع هذه الخصال استحق بها الاسم وإلا فهو كاذب“.
ويقول رويم بن أحمد: “التصوف مبني على ثلاث خصال: التمسك بالفقر والافتقار، والتحقق بالبذل والإيثار، وترك التعرض والاختيار“.
وقيل: “التصوف المنافسة في نفائس الأخلاق، وفض النفس عن أنفس الأعلاق“.
وسئل أبو همام عبدالرحمن بن مجيب الصوفي عن الصوفي فقال: “فالصوفي لنفسه ذابح، ولهواه فاضح، ولعدوه جارح، وللخلق ناصح، دائم الوجل، يحكم العمل، ويبعد الأمل، ويسد الخلل، عَذَرُهُ بضاعة، (أي يتهم نفسه أنه من أهل التقصير) وحزنه صناعة، وعيشه قناعة، بالحق عارف، وعلى الباب عاكف، وعن الكل عازف“.
وقيل: “التصوف ابتغاء الوسيلة، إلى منتهى الفضيلة“.
وسُئل ذو النون المصري عن الصوفي فقال: “مَن إذا نطق أبان نطقه عن الحقائق، وإن سكت نطقت عنه الجوارح بقطع العلائق“.
وقال بعضهم في وصفهم: “لهم الأحوال الشريفة، والأخلاق اللطيفة، مقامهم منيف، وسؤالهم ظريف، هم المنبسطون جهرا، المنقبضون سرا، يبسطهم رَوْحُ الارتياح والاشتياق، ويقلقهم خوف القطيعة والفراق، والحاكمون بالعدل، هم مصابيح الدجى وينابيع الرشد والحجى، خصوا بخفيّ الاختصاص، ونقوا من التصنع بالإخلاص، هم الشغفون به وبوده، والمكلفون بخطابه ووعهده، هم المصونون عن مرافقة حقارة الدنيا بعين الاغترار، المبصرون صنع محبوبهم بالفكر والاعتبار، إنهم سُباق الأمم والقرون، وبإخلاصهم يمطرون وينصرون، وإن ليقينهم تنفلق الصخور، وبيمينهم تتفتق البحور، إنهم المضرورون في الأطعمة واللباس، المبرورة أقسامهم عند النازلة والباس، نظروا إلى باطن العاجلة فرفضوها، وإلى بهجتها وزينتها فوضعوها“.
وقيل: “التصوف قطع العلائق والأخذ بالوثائق“.
فالصوفي من كان عاملا بشريعة الله تبارك وتعالى وخالف هواه، من لا يتبع نفسه الهوى في المأكل والمشرب والملبس وغير ذلك، بل يقتصر على القدر الذي يحفظ صحة جسده من المأكل والمشرب والملبس، مع بذل الجهد في عبادة الله تبارك وتعالى في أداء الفرائض، والإكثار من النوافل.
وأنشدوا: (الخفيف)
عمدة الدين عندنا كلماتٌ … أربع قالهن خير البرية
اتق الشبهات وازهد ودع ما …. ليس يعنيك واعملنَّ بنية
يقول الجنيد: “طريقنا هذا مضبوط بالكتاب والسنة، إذ الطريق مسدود إلا على المقتفين ءاثار رسول الله صلى الله عليه وسلم“.
ويقول سهل التستري: “أصول مذهبنا (يعني الصوفية) ثلاثة: اقتداء بالنبي في الأخلاق والأفعال، والأكل من الحلال، وإخلاص النية في جميع الأفعال“.
وفي هذا بيان أن التصوف الحقيقي ليس فقط لبس الصوف دون اتباع للشرع الشريف بل الصوفي الحقيقي هو الذي يتبع الحق ويؤدي حقوق الله عليه، وفي ذلك انشدوا: (البسيط)
ليس التصوف لبس الصوف ترقعهُ … ولا بكاؤك إن غنى المغنونا
بل التصوف أن تصفو بلا كدر … وتتبع ِ الحق والإسلام والدينا
وكان سيدنا أحمد الرفاعي رضي الله عنه إذا رأى على فقير جبة صوف يقول له: “يا ولدي انْظر بزيّ من تزييت، وإلى من انتسبت، قد لبستَ لبسة الأنبياء وتحليت بحلية الأتقياء، هذا زيّ العارفين فاسلُك فيه مسالك المقربين وإلا فانزعه“.
ويروى عن السري السقطي أنه قال: “المتصوف اسم لثلاث معان: هو الذي لا يطفئ نور معرفته نور ورعه، ولا يتكلم بباطن في علم ينقضه عليه الكتاب أو السنة، ولا تحمله الكرامات على هتك أستار محارم الله“.
ويقول الإمام الرفاعي: “الصوفي هو الفقيه العامل بعلمه، وعلى هذا قالوا ما اشتهر في وصفهم: الصوفي من لبس الصوف على الصفا، وسلك طريق المصطفى، وأذاق النفس طعم الجفا، وكانت الدنيا منه على القفا“.
وقال الجنيد: “ما أخذنا التصوف بالقال والقيل، ولكن أخذناه بالجوع والسهر وترك المألوفات والمستحسنات“.
فالتصوف حاصله اتصاف بالمحامد، وترك الأوصاف المذمومة مع الزهد في المأكل والملبس وقبل ذلك كله الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم بأداء الفرائض واجتناب المحرمات. فالصوفية موصوفون بأنهم تركوا الدنيا فخرجوا عن الأوطان، وهجروا الأخدان [(6)]، وساحوا في البلاد، وأجاعوا الأكباد، وأعرَوا الأجساد، وإنما ينالون من الطعام قدر ما يقيم الصلب للضرورة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: [بحسب ابن آدم أكلات يقمن صلبه] رواه الترمذي.
وأنشدوا: (الطويل)
فلو كانت الدنيا جزاء لمحسنٍ … إذاً لم يكن فيها معيشٌ لظالمِ
لقد جاع فيها الأولياء كرامةً … وقد شبعت فيها بطون البهائمِ
ويقول الكلاباذي: “وعلى هذا سماهم قومٌ جوعية لأن الجوع من صفات القوم وهو من أهم أمور المجاهدة، ومخالفة النفس وغلبتها، فإن أرباب السلوك قد تدرجوا إلى اعتياد الجوع والإمساك عن الأكل إلا عند الضرورة وخشية الضرر، ووجدوا ينابيع الحكمة في الجوع، لأن الشبع يحرك شهوات الإنسان ويستثيرها، والجوع يحرك الإنسان إلى الطاعة، وكثرت الحكايات عنهم في ذلك.
قال الله تعالى: {ولنبونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين(155)} [سورة البقرة]. فبشرهم بجميل الثواب في الصبر على مقاساة الجوع.
قال يحيى بن معاذ: “لو أن الجوع يباع في السوق لما كان ينبغي لطلاب الآخرة إذا دخلوا السوق أن يشتروا غيره“.
وقال أبو سليمان الداراني: “جوع قليل وسهر قليل يقطع عنك الدنيا“.
واعلم أن هذا كله لمن لا يخشى على نفسه الضرر والهلاك فالمطلوب أن يأكل القدر الضروري الذي ينجيه من أن يضر نفسه ويهلكها.
وقال بشر بن الحارث: “الصوفي من صفا قلبه“.
وقال رجل لسهل بن عبدالله التستري: “مَنْ أصحبُ طوائف الناس؟ فقال: “عليك بالصوفية، فإنهم لا يستكبرون، ولا يستكثرون“.
وأما تسميتهم بالصوفية فقالت طائفة: “إنما سموا صوفية لصفاء أسرارهم، ونقاء ءاثارهم“.
وقال آخرون: “إنما سموا صوفية لقرب أوصافهم من أوصاف أهل الصفة الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، لانهم لم يلبسوا لحظوظ النفس ما لانَ ملمسه وحسن منظره، وإنما لبسوا لستر العورة، فاكتفوا بالخشن من الشعر والغليظ من الصوف“.
ثم هذه كلها صفة أهل الصفة الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم كانوا غرباء فقراء مهاجرين، أُخرجوا من ديارهم وأموالهم ووصفهم أبو هريرة وفضالة بن عبيد فقالا: “يـخرّون من الجوع حتى تـحسبهم الأعراب مجانين”، وكان لباسهم الصوف فلما كانت هذه صفة أهل الصفة في حالهم وزيهم سموا صوفية وصُفّية، وسماهم قوم فقراء، لأن أحدهم لا يملك شيئا وإن ملكَه بذله وذلك لتخليهم من الأملاك.
وقال السهروردي: “بعد عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم وبعد عهد الصحابة مَن أخذ منهم العلم سمي تابعيا، ثم لما تقادم زمان الرسالة وبَعُدَ عهدُ النبوة وانقطع الوحي السماوي، اختلفت الآراء وتنوعت الأنحاء وتفرد كل ذي رأي برأيه وكدّر شرب العلوم شوب الأهوية، وتزعزعت أبنية المتقين، واضطربت عزائم الزاهدين، وغلبت الجهالات وكثف حجابها، وكثرت العادات، وتزخرفت الدنيا وكثر خطابها، تفردت طائفة بأعمال صالحة وأحوال سنية، وصدق في العزيمة وقوة في الدين، وزهدوا في زوايا يجتمعون فيها تارة وينفردون أخرى أسوة بأهل الصفة تاركين للأسباب متبتلين إلى رب الأرباب، فأثمر لهم صالح الأعمال سنيَّ الأحوال، وتهيأ لهم صفاء الفهوم لقبول العلوم، وصار لهم بعد اللسان لسان، وبعد العرفان عرفان… فصار لهم يمقتضى ذلك علوم يعرفونها وإشارات يتعاهدونها، فحرروا لنفوسهم اصطلاحات تشير إلى معانٍ يعرفونها، وتُعرِبُ عن أحوال يجدونها، فأخذ ذلك الخلف عن السلف حتى صار ذلك رسما مستمرا، وخبرا مستقرا في كل عصر وزمان، فظهر هذا الاسم بينهم وتسموا به وسُموا به“.
ويقول الإمام الرفاعي الكبير رضي الله عنه: “قيل لهذه الطائفة الصوفية، واختلف الناس في سبب التسمية وسببها غريب لا يعرفه كثير من الفقراء، وهو أن جماعة من مضر يقال لهم بنو الصوفة، وهو الغوث بن مر بن أد بن طابخة الربيط كانت أمه لا يعيش لها ولد، فنذرت إن عاش لها ولد لتربطن برأسه صوفة وتجعله ربيط الكعبة، وكانوا يجيزون الحاج، إلى أن منَّ الله بظهور الإسلام فأسلموا وكانوا عبَّادا، ونقل عن بعضهم حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمن صحبهم سمي بالصوفي، وكذلك من صحب مَن صحبهم، أو تعبد ولبس الصوف مثلهم ينسبونه إليهم فيقال: صوفي، ونوَّع الفقراء الأسباب فمنهم من قال التصوف الصفاء، ومنهم من قال المصافاة، وغير ذلك، وكله صحيح من حيث معناه”. إ.هـ
ويقول السهروردي في تسميتهم صوفية للبسهم الصوف: “وهذا الاختيار يلائم ويناسب من حيث الاشتقاق لأنه يقال: [تصوَّف] إذا لبس الصوف“، وقال: “ولما كان حالهم بين سير وطير لتقلبهم في الأحوال وارتقائهم من عالٍ إلى أعلى منه… وأبواب المزيد علما عليهم مفتوحة وبواطنهم معدن الحقائق ومجمع العلوم، فلما تعذر تقيدهم بحال تقيدهم، لتنوع وجدانهم وتجنس مزيدهم، نسبوا إلى ظاهر اللبسة، وكان ذلك أبين في الإشارة إليهم، وأدعى إلى حصر وصفهم، لأن الصوف غالبا على المتقدمين من سلفهم، وأيضا لأن حالهم حال المقربين ولما كان الاعتزاء إلى القرب أمر صعب يعز كشفه والإشارة إليه، وقعت الإشارة إلى زيهم سترا لحالهم، وغيرة على عزيز مقامهم، أن تكثر الإشارة إليه وتتداوله الألسنة، فكان هذا أقرب إلى الأدب، والادب في الظاهر والباطن والقول والفعل عماد أهل الصوفة”. وفيه معنى آخر: “وهو أن نسبتهم إلى اللبسة تنبئ عن تقللهم من الدنيا، وزهدهم فيما تدعو النفس غليه بالهوى من الملبوس الناعم، حتى إن المبتدئ المريد الذي يؤثر طريقهم ويحب الدخول في أمرهم، يوطن نفسه على التقشف والتقلل، ويعلم أن المأكول أيضا من جنس الملبوس، فيدخل في طريقتهم على بصيرة، والإشارة إلى شيء من حالهم في تسميتهم أولى“.
وقيل: “إنهم لما ءاثروا الذبول والخمول والتواضع والإنكسار والتخفي والتواري كانوا كالخرقة الملقاة والصدفة المرمية التي لا يُرغب فيها ولا يلتفت إليها، فيقال صوفي نسبة إلى الصوفة، كما يقال كوفي نسبة إلى الكوفة، وهذا ما ذكره بعض أهل العلم والمعنى المقصود به قريب ويلائم الاشتقاق، ولم يزل لبس الصوف اختيار الصالحين والزهاد والمتقشفين والعباد” انتهى كلام السهروردي.
وعلى هذا فإن طرق الصوفية طرق سنية، موافقة للشريعة المحمدية، وفي ذلك يقول الإمام الشعراني في كتاب لواقح الأنوار القدسية: “إياك أن تقول إن طرق الصوفية لم يأتِ بها كتاب ولا سنة فإنها أخلاق محمدية“.
فهاك ما ذكرناه عن أعيانهم وساداتهم ما يُظهر لك حقيقة أمرهم، ظاهرة وباطنه مما يقوي عندك اليقين انهم صفوة القوم، وما ذاك على إلا باقتدائهم بالنبي صلى الله عليه وسلم.
التصوف علم وعمل
قال الله تعالى: {انّما يخشى الله من عباده العلماؤا انّ الله عزيز غفور (28)]، [سورة فاطر] وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “ومن سلك طريقا يلتمس فيه علما سهّل الله له به طريقا إلى الجنة” الحديث رواه مسلم.
اعلم أرشدك الله أنّ مذهب القوم وطريقهم، هو طريق أهل السنة والجماعة، فقد صحت عقيدتهم وصح اتباعهم، غرضهم الالتزام بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم والسلف الصالح، مع الإكثار من النوافل، والخروج عن الدنيا والملذات، ويدل على حسن اتباعهم وصدق يقينهم وصحة معتقدهم، أنهم رفعوا لواء العلم، فكان منهم العلماء والقراء والمحدثون، وما ينقل عنهم من عبارات خالصة في التوحيد والتنزيه دال على حسن اتباعهم وصدق انتمائهم وما سنذكره لك في سياق كلامنا عن علومهم واقتدائهم بسنة سيد المرسلين صلى الله عليه وسلم.
قال القوم: “تعلموا علم عقيدة أهل السنة والجماعة، والطهارة والصلاة والصوم والحج والزكاة، والعقود من البيوع والحلال والحرام، والمكروه والواجب والمندوب، والمباح والصحيح والباطل“.
واعلم أن العلم يورث الخوف من الله، وطول الصمت، وكثرة التفكر والاعتبار، واذا اعتبرت علماء السلف رأيت الخوف غالبا عليهم، والدعاوى بعيدة عنهم، قال عائشة: “ليتني كنت نسيّا منسيّا” وانما صدر هذا عن مثل هؤلاء السادة لقوة علمهم بالله، وقوة العلم به تورث الخوف والخشية، قال الله عز وجل: {إنّما يخشى الله َمن عباده العلماؤا} [28 سورة فاطر] أي العلماء الأتقياء يخشون الله يخافونه أكثر من غيرهم وقال عليه الصلاة والسلام: “أنا أعلمكم بالله وأخشاكم له” [(7)] فقدم صلى الله عليه وسلم العلم بالله على الخشية منه.
قال سهل بن عبد الله التستري: “علامة حب الله حب القرءان حب النبي، وعلامة حبه حب السنة، وعلامة حب السنة حب الآخرة، وعلامة حب الآخرة بغض الدنيا، والمقصود بالسنة هنا الشريعة وهي العقيدة والأحكام التي جاء بها الرسول صلى الله عليه وسلم.
وأنشدوا: (الطويل)
فما لك يوم الحشر شيء سوى الذي … تزودته قبل الممات الى الحشر
اذا أنت لم تزرع وأبصرت حاصدا … ندمت على التفريط في زمن البذر
ويقول السيد أحمد الرفاعي الكبير رضي الله عنه: “الطريق واضح صلاة وصوم وحج وزكاة، فالتوحيد والشهادة برسالة الرسول عليه الصلاة والسلام أول الأركان واجتناب المحرمات هذا هو الطريق“.
وأنشد بعضهم: (الطويل)
لكل بني الدنيا مراد ومقصد … وان مرادي صحة وفراغ
لأبلغ في علم الشريعة مبلغا … يكون به لي في الجنان بلاغ
ويقول الفضيل بن عياض: “اتبع طرق الهدى ولا تغتر بقلة السالكين، وإياك وطرق الضلالة ولا تغتر بكثرة الهالكين“.
ويقول الجنيد: “من لم يحفظ القرءان ولم يكتب الحديث لا يقتدى به في هذا الأمر، لأن علمنا هذا مقيد بأصول السنة“.
واعلم أن كثيرا من المتصوفة الجاهلين قد فرقوا بين الشريعة والطريقة وبين الشريعة والحقيقة، وتوهموا أن الحقيقة تخالف الشريعة وأن الباطن يخالف الظاهر وهذا خطر محدق وجهل مطبق، لأن الشريعة كلها حقائق، وقد أنكر السادة الصوفية الحقيقيون الإعراض عن ظواهر الشرع، وقال السيد أحمد الرفاعي رضي الله عنه: “كل باطن خالف الظاهر فهو مردود”، وقال أيضا: “شيدوا أركان هذه الطريقة المحمدية بإحياء السنة وإماتة البدعة”. فكل من رام الحقيقة في غير الشريعة فمغرور مخدوع.
ولا عبرة ولا اعتبار بقول من قال: دع علم الورق وخذ علم الخرق، بل قل كما قال الامام أحمد بن حنبل رضي الله عنه لما رؤي وهو يحمل المحبرة على كبر سنه فقال له رجل: الى متى يا أبا عبد الله فقال: “المحبرة الى المقبرة“.
وكان الامام أحمد رضي الله عنه يرى المحابر بأيدي طلبة العلم فيقول: “هذه سرج الإسلام“.
وأنشد سيدي الرواس فقال في هذه القصيدة القدسية: (الطويل)
تمسك بذي علم منير على هدى … فأهل علوم كالنجوم الزواهر
وان أخا علم به الزيغ كامن … أضر على الإسلام من ألف كافر
هذا شأنهم وهذا مشربهم علم وعمل واتباع للسنة واقتداء واتباع لسيد الأنبياء.
واليك ما يقول العالم العلم البحر الحبر السيد الشريف الشيخ أحمد الرفاعي الكبير في تعظيم العلم والعلماء: “أيْ سادة عظموا شأن الفقهاء والعلماء كتعظيمكم شأن الأولياء والعرفاء، فانّ الطريق واحد، وهؤلاء ورّاث ظاهر الشريعة ومحلة أحكامها الذين يعلمونها الناس وبها يصل الواصلون الى الله، اذ لا فائدة بالسعي والعمل على الطريق المغاير للشرع، ولو عَبَدَ الله العابدُ خمسمائة عام بطريقة غير شرعية فعبادته راجعة اليه، ووزره عليه، ولا يقيم الله له يوم القيامة وزنا، فإياكم وإهمال حقوق العلماء وعليكم بحسن الظن فيهم جميعا -أي بالعلماء العُلماء- وأما أهل التقوى منهم، العاملون بما علمهم الله فهم الأولياء على الحقيقة فلتكن حرمتهم عندكم محفوظة“.
ويقول أيضا: “العلماء سادات الناس وأشراف الخلق والدالون على طريق الحق، لا تقولوا كما يقول المتصوفة نحن أهل الباطن وهم أهل الظاهر، فانّه لولا الظاهر لما بطن، ولولا الظاهر لما كان الباطن ولما صح، القلب لا يقوم بلا جسد، بل لولا الجسد لفسد“.
ويقول الصوفي سهل بن عبد الله التستري: “الدنيا كلها جهل الا ما كان علما وعملا، والعمل كله موقوف الا ما كان على الكتاب والسنة وتقوم السنة على التقوى“.
وقال أيضا: “احفظوا السواد على البياض (أي كتابة العلم) فما أحد ترك الظاهر الا تزندق“.
وأنشد بعضهم: (الطويل)
رضيت من الدنيا بقوت يقيمني … ولا أبتغي من بعده أبدا فضلا
فما هذه الدنيا بطيب نعيمها … لأيسر ما في العلم من لذة عدلا
وقال بعضهم: “ما من طريق الى الله أفضل من العلم فان عدلت عن طريق العلم خطوة تهت في الظلام“.
وقال أبو سعيد الخراز: “كل باطن خالف الظاهر فهو باطل“.
وسئل الامام أحمد بن حنبل في قوله عليه الصلاة والسلام: “لا تزال طائفة من أمتي منصورين لا يضرهم من خذلهم حتى تقوم الساعة” رواه الخطيب البغدادي في شرح أصحاب الحديث، فقال: “إن لم يكونوا أصحاب الحديث فلا أدري من هم“.
وقال الصوفي عبد الله بن خفيف الشيرازي: “إشتغِلوا بتعلم العلم ولا يغرّنكم كلام الصوفية”. أي جهلة المتصوفة.
ويقول سيدنا أحمد الرفاعي رضي الله عنه: “أي حالة باطنة لقوم لم يأمر ظاهر الشرع بعملها، وأي حالة ظاهرة لم يأمر ظاهر الشرع بإصلاح الباطن لهما، لا تعملوا بالفرق والتفريق بين الظاهر والباطن فان ذلك زيغ وبدعة“.
وعنه أيضا: “لا تهملوا حقوق العلم والفقهاء، أي سادة تقولون قال الحارث قال أبو يزيد ما هذا الحال قبل هذه الكلمات، قولوا قال الشافعي قال مالك قال أحمد قال نعمان. قال الحارث وأبو يزيد لا ينقص ولا يزيد، قال الشافعي وقال مالك أنجح الطرق وأقرب المسالك“.
وقال السيد الرفاعي أيضا: “شيدوا دعائم الشريعة بالعلم والعمل، وبعدها ارفعوا الهمة للغوامض من أحكام العلم وأحكام العمل. أشياخ الطريقة وفرسان ميادين الحقيقة يقولون لكم خذوا بأذيال العلماء تفقهوا“.
وكتب الشيخ الغجدواني (وهو واضع أصول الطريقة النقشبندية) إلى أحد تلاميذه: “يا بني أوصيك بتحصيل العلم والأدب وتقوى الله تعالى، واتبع ءاثار السلف الصالح ولازم السنة والجماعة، واقرأ الفقه والحديث والتفسير، واجتنب الصوفية الجاهلين -أي مدعي التصوف، ولازم صلاة الجماعة، واياك والشهرة فانّها ءافة وكن واحدا من الناس“.
ويقول الصالح أحمد بن الحواري: “كل عمل بغير اتباع السنة باطل“.
ويقول الإمام الجنيد رحمه الله: “ما يصل أحد الى الله الا بالله والسبيل الى الوصول متابعة المصطفى“.
ويقول السيد الرفاعي الكبير رضي الله عنه: “الصوفي تدل ءادابه على مقامه، زنوا أقواله وأفعاله وأخلاقه بميزان الشرع“.
وقال الإمام علي رضي الله عنه: “لا يعرف الحق بالرجال وانما الرجال يعرفون بالحق“.
وقال الامام أحمد الرفاعي رضي الله عنه: “لا تعجب للمرء طار في الهواء أو سار على وجه الماء، ولكن اعرض كلامه على الشرع، فان وافقه فخذ به وإلا اضرب به عُرض الحائط“.
فهذا الكلام الذي سبق يدل على أن من ادعى من جهلة المتصوفة أن الأولياء والخواص لا حاجة لهم إلى علم الدين ولا إلى النصوص الشرعية، بل يكفيهم الإلهام والفيوضات كلام مردود، قائله ليس صوفيا ولا يعرف طريقهم، لأن كلامه يخالف نصوص السادة الصوفية.
وقد ذكر الشيخ الفقيه يوسف الأردبيلي في كتابه “الأنوار لأعمال الأبرار” ما نصّه: “ولو قال: الله يلهمني ما أحتاج اليه من أمر الدين فلا أحتاج الى العلم والعلماء فمبتدع كذاب يلعب به الشيطان” اهـ.
أما ما ذهب اليه بعض مدعي التصوف الذين رفعوا للجهل لواء، ولبسوا للشيطان رداء، في معرض تحريضهم الناس على ترك تعلم علم الدين، وإيهام أتباعهم أن الوصول إلى الولاية والمقامات العالية يحصل لهم من غير تعلّم علم الدين الذي أوجبه الله تعالى على المكلفين مستدلين بزعمهم بقوله تعالى: {واتقوا الله ويعلّمكم الله (181)} [سورة البقرة]. فيقال لهم: انّ هذه الآية ليس معناها ما ذهبتم اليه لأن قوله تعالى، {واتّقوا الله (282)} دلالة على لزوم أداء الواجب، لأن التقوى لا تحصل بترك الواجب، وطلب الدين الضروري واجب، فكيف يكون من ترك هذا العلم الضروري تقيّا، ألم يقل النبي صلى الله عليه وسلم في بيان فرضية علم الدين: “طلب العلم فريضة على كل مسلم” رواه البيهقي.
والمعلوم أن التقي هو الذي أدى جميع ما افترضه الله عليه واجتنب جميع ما حرّمه الله عليه، فمن ترك هذا العلم الضروري الذي فرضه الله على المكلف لا يكون مندرجا تحت قوله تعالى: {ويعلمكم الله (282)} لأن الوارد في الآية {واتقوا الله ويعلمكم الله (282)} معناه اتقوا الله بأداء الواجبات واجتناب المحرمات، {ويعلمكم الله (282)} يعني بعد أن تتموا ما أورده الله في أول الآية من أمر التقوى يفيض الله على قلوب بعض الصالحين منكم علما لدنيّا أي علما غير مكتسب لا يؤخذ من الكتب ولا من ألسنة المشايخ، انّما هو إفاضة من الله عز وجل على قلب من شاء من عباده الأتقياء، وهذا العلم اللدني لا يكون من أبواب علوم العقيدة الضرورية ولا من علوم الطهارة والصلاة والصيام الضرورية للمكلف، والعلم اللدني كما قال العلماء هو كعلم تفسير المنام. وأما ما ذهب اليه هؤلاء الجهّال واستساغوه وعلموه لأتباعهم فهو مخالف لتعاليم الاسلام، ومخالف لما نصّه رسوا الله صلى الله عليه وسلم وهو أعلم الناس بالقرءان وتفسيره وقد رُوي عنه عليه الصلاة والسلام: “مَن عمل بما علم ورَّثه الله علم ما لم يعلم” رواه أبو نعيم في الحلية.
والقاعدة أنّه لا يصير العبد وليا وهو جاهل، فقد قال الامام الشافعي رضي الله عنه: “ما اتخذ الله وليا جاهلا“.
واعلم أنّ مشايخ القوم هم علماء عاملون فقهاء مشهورون نذكر بعض علمائهم لا على سبيل الحصر انما على سبيل المثال منهم:
الحافظ الأصبهاني، والمحدث والمؤرخ الروذباري، والغزالي، والقاضي بكار بن قتيبة، والقاضي رويم البغدادي، وأبو القاسم القشيري، والفقيه ابن خفيف الشيرازي، والحافظ أبو الفضل المقدسي، والعز بن عبد السلام المالكي، والحافظ ابن الصلاح، والحافظ النووي، والإمام تقي الدين السبكي، والفقيه تاج الدين السبكي، والمفسر النحوي أبو حيان الأندلسي، والحافظ قطب الدين القسطلاني، والحافظ السيوطي، وأبو الحسين محمد النوري، وأبو سعيد أحمد بن عيسى الخزار، وأبو العباس أحمد ابن عطاء البغدادي، وأبو عبد الله عمرو بن عثمان المكي، وأبو يعقوب اسحاق بن محمد بن أيوب النهرجوري، وأبو محمد الحسن بن محمد الجريري، وأبو عبد الله محمد بن علي الكناني، وأبو اسحاق ابراهيم بن أحمد الخواص، وأبو بكر محمد بن موسى الواسطي، وأبو بكر الشبلي وغيرهم.
فلا يغرّنك أيها المحب ما تعرض له بعض الأسلاف وتشبث به من أولي الجهل بعض الأخلاف، من الكلام على طرق الصوفية ورجالها، أرباب أشرف المزايا السنية، فحطوا على التصوف وساداته كالحسن البصري والجنيد والسري والكرخي والامام الرفاعي والجيلاني والدسوقي والبدوي وأبو الحسن الشاذلي رضي الله عنهم وأمثالهم فانهم سادة الطريق، واعلم أنه لم يثبت عنهم مخالفة السنة، وأن ما يُنقل عنهم مما يخاف الشرع فهو محض افتراء، فالطعن فيهم غير محقق، وكيف يكون وقد شهروا بخلافه، فإن عاداتهم ومجالسهم وأورادهم ومشاربهم الشريفة واضحة ظاهرة، والحق يُعرف به أهله.