——————————————————————————–
رسالة في بطلان دعوى أولية النورالمحمدي
بسم الله الرحمنالرحيم
مقدمة الناشر
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلامعلى النبي محمد المبعوث رحمة للعالمين.
وبعد فقد جرت عادة العلماء العاملينالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عملاً بالقرءان الكريم وبحديث رسول الله الأمين صلى الله عليه وسلم، ومن هذا قام الشيخ بهذا الواجب فألف هذه الرسالة أبطل فيها دعوى بعض الناس أن نور محمد صلى الله عليه وسلم هو أولخلق الله على الإطلاق، وذلك بالأدلة النقلية والعقلية، فجزاه الله خيرًا، فأحببنا نشرها تعميمًا للفائدة، والله المستعان
اسمه ومولده:
بسمالله الرحمن الرحيم
طريق سهل لكسر الوهابية
الحمد لله ربالعالمين، والصلاة والسلام على سيد المرسلين محمد، وعلى ءاله الطاهرين، وصحابتهالطيبين.
يقال لهم: أنتم دينكم جديد أنشأه محمد بن عبد الوهاب بدليل أنالمسلمين ما كان أحد منهم يحرّم قول: “يا محمد” قبل ابن عبد الوهاب، حتى الذي محمدبن عبد الوهاب يسميه شيخ الإسلام وهو ابن تيمية يُقرُّ قول “يا محمد” عند الضيق لمنأصابه في رجله خدر، فهو يقول مطلوب أن يقول الذي أصابه خدرٌ في رجله –أي مرض فيرجله تتعطل حركتها وليس هذا المسمى بالتنميل- “يا محمد” ويستدل بعبد الله بن عمررضي الله عنه فإنه كان أصابه خدر في رجله فقيل له: اذكر أحب الناس إليك فقال: “يامحمد” فتعافى.
ويقال للوهابية: ابن تيمية الذي تسمونه شيخ الإسلام أجاز هذاوأنتم تسمونه كفرًا؟! حتى ابن تيمية برئ منكم في هذه المسئلة، فكيف تدَّعون أنكمعلى دين الإسلام ولستم على دين الإسلام، وأنتم كفّرتم الامة، والأمة لم يكن فيهمخلاف في جواز قول “يا محمد” فأنتم أول من حرّم هذا، ومن كفر الأمة فهو الكافر لأنالأمة لا تزال على الإسلام فقد روى البخاري [1] أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لن يزال أمر هذه الأمة مستقيمًا حتى تقوم الساعة أو حتى يأتي أمرالله“.
فإن قالوا: ابن تيمية ما قال هذا، يقال لهم: يشهدُ عليكم كتابه “الكلم الطيب” والعلماء الذين ترجموا لابن تيمية ذكروا هذا الكتاب في أسماء كتبهومنهم صلاح الدين الصفدي وكان معاصرًا لابن تيمية ويتردد عليه فقد ذكر أن هذاالكتاب من تأليف ابن تيمية.
ثم زعيمكم الأخير الألباني اعترف وقال: هذاالكتاب ثابت لابن تيمية وعمل عليه تعليقًا لكنه قال: إن إسناد قول ابن عمر “يامحمد” لمّا خَدِرَت رجله ضعيف، وهذا لا يعكر علينا لأنه ثبت أن ابن تيمية أورده،وقال: “فصل في الرجل إذا خدرت” وسمى الكتاب “الكلم الطيب” [2]، ولو فُرض أن إسنادهضعيف لكن ثبت أن ابن تيمية أجاز هذا، فمن الذي يكفُرُ أهوَ الذي تسمونه شيخ الإسلامأم أنتم؟! لأنكم كفرتموه حُكمًا وإن لم تشعروا، هنا لا يتجرأون أن يقولوا ابن تيميةكافر ولا يقولون عن أنفسهم نحن كفار، نقول: إذن أنتم دينكم جديد، كفَّرتم المسلمينمن أيام الرسول صلى الله عليه وسلم إلى أيامنا، ومن حيث المعنى كفَّرتم زعيمكم ابنتيمية لأنه استحسن قول “يا محمد” عند خدر الرجل ومن استحسن الكفر فهو كافر، فهل لكممن جواب؟ هذه تكسر ظهورهم.
على أن قول الألباني ليس حجة لأنه ليس أهلاًللتضعيف والتصحيح لأنه محروم من الحفظ فهو ليس حافظًا باعترافه فلا يحفظ عشرةأحاديث بأسانيدها، فإنه قال عن نفسه: “أنا محدّث كتاب لست محدّث حفظ“.
ولوقال أحدهم: ابن تيمية رواه من طريق راو مختلف فيه يقال لهم: مجرد إيراده لهذا فيهذا الكتاب دليل على أنه استحسنه إن فُرِض أنه يراه صحيحاً وإن فُرِض أنه يراه غيرصحيح، لأن الذي يورد الباطل في كتابه ولا يُحّذّرُ منه فهو داع إلى ذلكالشيء.
وهذه القصة رواها الحافظ ابن السُّني والبخاري في كتاب “الأدبالمفرد” [3] بإسناد ءاخر غير إسناد ابن السني، ورواها الحافظ الكبير إبراهيم الحربيالذي كان يُشبَّه بالإمام أحمد بن حنبل في العلم والورع في كتابه “غريب الحديث” [4] بغير إسناد ابن السني أيضًا، ورواها الحافظ النووي [5]، والحافظ ابن الجزري فيكتابه “الحصن الحصين” وكتابه “عِدة الحصن الحصين” [6]، ورواها الشوكاني [7] الذي هويوافقكم في بعض الأشياء وهو غير مطعون فيه عندكم، فيا وهابية أين المفر، ويا لها منفضيحة عليكم وابن تيمية هو إمامكم الذي أخذ ابن عبد الوهاب بعض أفكاره التي خالففيها المسلمين من كتبه.
فإن قلتم: نحن على صواب وابن تيمية استحل الشركوالكفر، قلنا: قد كفَّرتم ركنكم في عقيدة التشبيه وفي غيرِه من ضلالاته، وتكونوناعترفتم بأنكم متبعون لرجل كافر تحتجون بكلامه في كثير من عقائدكم، فقد اتبعتموه فيقوله الذي كفر بسببه وهو قوله: إن كلام الله ومشيئته حادث الأفراد قديم النوع أيالجنس، وقوله: إن جنس العالم أزلي مع الله ليس مخلوقًا، في هذا الكفر هو ركنكم فقدتبعتموه وجعلتموه قدوة لكم فيما خالف فيه الحق وخالفتموه فيما وافق فيه الصواب وهوجواز الاستغاثة بالرسول عند الضيق بقول: “يا محمد“.
ثم إنكم كاذبون في دعوىالسلفية، أيّ سلفي أنكر قول “يا محمد” عند الضيق؟ فتسميتكم أنفسكم بهذا الاسم حراملأنها توهم أنكم على عقيدة السلف وأنتم لستم على عقيدة السلف ولا الخلف، أنتمتدينون دينًا جديدًا، لأن قول “يا محمد” للاستغاثة جائز عند السلف والخلف في حياةالرسول وبعده بالاتفاق، وإنما حُرّم نداؤه صلى الله عليه وسلم “يا محمد” في وجهه فيحياته بعد نزول الآية {لا تجعلوا دعاءَ الرسول بينكم كدعاءِ بعضكم بعضًا} [سورةالنور]، وكان سبب تحريم ذلك أن قومًا جفاة نادَوه من وراء حُجُراته: “يا محمد اخرجإلينا” فحرِّم الله تعالى ذلك في وجهه تشريفًا له.
وكان توسل الأعمى الذيطلب من الرسول أن يدعو له بالشفاء فعلَّمه الرسول أن يقول: “اللهم إني أسألك وأتوجهإليك بنبينا محمد نبي الرحمة يا محمد إني أتوجه بك إلى ربي عز وجل في حاجتي” خارجَحضرة الرسول لأنه قال له: “ائت الميضأة فتوضأ ثم صل ركعتين ثم ادع بهذه الدعوات” [8] فذهب الرجل فتوضأ وصلى ركعتين ودعا بهذا التوسل ثم رجع إلى الرسول صلى اللهعليه وسلم وقد أبصر، وهذا دعاء في غير حضرة الرسول في حياته عليه السلام، وأنتم قدتبعتم ابن تيمية فيما قاله في كتابه “التوسل والوسلية” إنه لا يجوز التوسل إلابالحي الحاضر، لكن بهذه الاستغاثة التي استحسنها ابن تيمية والتي هي استغاثة به صلىالله عليه وسلم بعد وفاته خالفتموه وجعلتم ذلك شركًا وكفرًا فما أتوَهَكم عنالحق.
ويقال أيضًا في الرد عليهم في قولهم بإثبات التحيز لله في العرش: الرجل إذا كان قائمًا المسافة من رأسه إلى العرش أقرب أم لو كان ساجدًا؟ فيقولون: أقرب إذا كان قائمًا فيقال لهم: أنتم جعلتم العرش حيزًا لله وحديث الرسول صلى اللهعليه وسلم ينقُضُ عليكم ما زعمتموه فقد روى مسلم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال [9]: “أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد فأكثروا الدعاء” وأنتم تقولون: “التأويلتعطيل” أي نفي لوجود الله وصفاته فعلى قولكم مِن مَنعِ التأويل انتقض عليكممعتقدكم، أما نحن أهل السنة نؤول قولَ الله تعالى: {الرحمن على العرش استوى} [سورةطه] ونؤول كل ءاية أو حديث ظاهره أن الله متحيز في الجهة والمكان أو أن له أعضاء أوحدًا أو حركة وانتقالاً أو أي صفة من صفات الخلق تأويلاً إجماليًا أو تأويلاًتفصيليًا كما ثبت ذلك عن السلف وتبعهم الخلف، ونقول: ليس المراد ظواهرها بل المرادبها معان تليق بالله تعالى كما قال بعضهم: “بلا كيف ولا تشبيه”. ويعني أهلُ السنةبقولهم: “بلا كيف” أن هذه الآيات والأحاديث ليس المراد بها الجسمية ولوازمها، هذامراد السلف والخلف من أهل السنة بقوله: “بلا كيف” ليس مرادهم كما تموّهون على الناسفتقولون لفظًا “بلا كيف” وتعتقدون الكيف.
وأما التأويل التفصيلي فقد ثبت عنالسلف وإن كانوا لم يكثروا منه فقد ثبت عن الإمام أحمد بن حنبل تأويل المجيء الذيذُكر في هذه الآية: {وجاءَ ربُّكَ} [سورة الفجر] أنه قال [10]: “جاء ثوابه”، ورويعنه أنه قال: “جاء أمره” وأنتم قلتم: إن مجيء الله بالنزول الحسي بالانتقال منالعرش إلى الأرض كما أن الملائكة ينزلون نزولاً حسيًا بالانتقال من أماكنهم العلويةإلى الأرض يوم القيامة، ولو كان الإمام أحمد يعتقد اعتقادكم ما أوَّل الآية بلأقرها على الظاهر كما أنتم تفسرون. وهذا التأويل من الإمام أحمد ثابت صححه البيهقيفي كتابه مناقب الإمام أحمد.
وكذلك ثبت عن السلف تفسير الساق المذكور فيءاية: {يومَ يُكْشَفُ عَنْ سَاقٍ} [سورة القلم] بأن الساق هي الشدة الشديدة [11]،وأنتم جعلتم الساق عضوًا كما أن للإنسان عضو الساق، فأين أنتم من تنزيه الله عنمشابهة الخلق، فظهر أن انتسابكم إلى الإمام أحمد انتساب كاذب.
والبخاري ذكرفي جامعه تأويلين لآيتين، أوَّل ءاية: {كلُّ شيءٍ هالكٌ إلاَّ وَجْهَهُ} [سورةالقصص] أوَّل الوجه بالمُلك [12]، وكذلك ذكر سفيان الثوري في تفسيره [13]، والموضعالثاني الذي أوَّل البخاري فيه ءاية: {ءاخِذٌ بناصِيَتِها} أوَّلها بالمُلكوالسلطان [14]، ما أوَّل كما أنتم تعتقدون بمعنى المس، وظاهر الآية أن الله يقبضبناصية كل دابة وهذا تشبيه لأنه لا يجوز على الله أن يَمَسَّ أو يُمَسَّ لأن المسمن صفات الخلق.
أما حديث مسلم هذا فنؤوّله ونقول: القُرب في هذا الحديث لايراد به القرب المسافي، وكذلك في كل حديث وءاية ظاهرُهُ أن الله متحيز في جهة فوقيؤول ولا يُحمل على الظاهر، فأين أنتم من قولكم: “التأويل تعطيل”، ومن قولكم: “التأويل إلحاد“.
ويقال لهم: حديث مسلم هذا إن لم تحملوه على الظاهر بلأوِّلتموه فقد ناقضتم أنفسكم فإنكم تقولون: “التأويل تعطيل” ثم تفعلونهفتؤولون
——————————————————————————-
بسم الله الرحمن الرحيم
إبطال دعوى أولية النور المحمدي
من المفاسد التي انتشرت بينبعض العوام ما درج عليه بعض قُرَّاء المولد النبوي الشريف وبعض المؤذنين وغيرهم منقولهم: “إن محمدًا أوّل المخلوقات”، وما ذاك إلا لانتشار حديث جابر الموضوع بينهموهو: “أوَّل ما خلق الله نور نبيك يا جابر” وفيما يلي نورد ردَّنا بالأدلة العقليةوالنقلية الشافية:
نقول: هذا الحديث موضوع لا أصل له وهو مخالف للقرءان الكريم،وللحديث الصحيح الثابت.
أما مخالفته للقرءان قالالله تعالى: {وجعلنا منَ الماءِكلَّ شيءٍ حيٍّ} [سورة الأنبياء].
وأما مخالفته للحديث فقد روى البخاري [15] والبيهقي [16] من حديث عمران بن حصين أن أناسًا من أهل اليمن أتوا إلى رسول اللهصلى الله عليه وسلم فقالوا: جئناك يا رسول الله لنتفقه في الدين فأنبئنا عن أول هذاالأمر ما كان؟ قال: “كان الله ولم يكن شيء غيره، وكان عرشه على الماء، وكتب فيالذكر كل شيء ثم خلق السموات والأرض”، فهذا نص صريح في أنّ أول خلق الله الماءوالعرش لأن أهل اليمن سألوه عن بدء العالم.
فقوله عليه الصلاة والسلام: “كانالله ولم يكن شيء غيره” إثبات الأزلية لله أي أنه تعالى لا ابتداء لوجوده، وقوله: “وكان عرشه على الماء” معناه أن هذين أول المخلوقات، أما الماء فعلى وجه الإطلاقوأما العرش فبالنسبة لما بعده كما أفاد ذلك قوله عليه السلام: “على الماء” وذلك يدلعلى تأخر العرش عن هذا الأصل.
وروى ابن حبان [17] وصححه من حديث أبي هريرةقال: قلت: يا رسول الله إني إذا رأيتك طابت نفسي وقرّت عيني فأنبئني عن كل شيء،قال: “كل شيء خلق من الماء”، وفي لفظ: “أن الله تعالى خلق كل شيء منالماء“.
وروى السُّدي [18] في تفسيره بأسانيد متعددة عن جماعة من أبناءالصحابة: “إنّ الله لم يخلق شيئًا مما خلق قبل الماء“.
ففي الحديث الأول،نصّ على أن الماء والعرش هما أوّل خلق الله، وأما أنّ الماء قبل العرش فهو مأخوذ منالحديثين التاليين.
قال الحافظ ابن حجر في شرح البخاري [19] ما نصه: “قالالطيبي: هو فصل مستقل لأن القديم من لم يسبقه شىء، ولم يعارضه في الأولية، لكن أشاربقوله: “وكان عرشه على الماء” إلى أن الماء والعرش كانا مبدأ هذا العالم لكونهماخلقا قبل خلق السموات والأرض ولم يكن تحت العرش إذ ذاك إلا الماء” ا.هـ.
وفيتفسير عبد الرزاق [20] عن قَتادة في شرح قوله تعالى: {وكانَ عَرْشُهُ عَلَى الماء} [سورة هود] ما نصه: “هذا بدء خلقه قبل أن يخلق السموات والأرض“.
وأخرج ابنجرير [21] عن مجاهد رضي الله عنه في قوله: {وكانَ عرشُهُ على الماء} [سورة هود] قال: “قبل أن يخلق شيئًا“.
فإن قيل: أليس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أوّل ما خلق الله تعالى نور نبيك يا جابر، خلقه الله من نوره قبل الأشياء”؟،فالجواب: أنه يكفي في رد هذا الحديث كونه مخالفًا للأحاديث الثلاثة الصحيحةالسابقة، وأما عزو هذا الحديث للبيهقي فغير صحيح إنما ينسب إلى مصنّف عبد الرزاقعكس هذا، فقد ذكر فيه أنّ أول الأشياء وجودًا الماء كما تقدم.
وقال الحافظالسيوطي [22] في الحاوي: “ليس له -أي حديث جابر- إسناد يُعتمد عليه” ا.هـ.
قلت: وهو حديث موضوع جزمًا، وقد صرّح الحافظ السيوطي في شرحه على الترمذي أن حديث أوليةالنور المحمدي لم يثبت.
وقد ذكر عصريّنا الشيخ عبد الله الغماري محدّثالمغرب [23] أن عزو هذا الحديث الموضوع إلى مصنّف عبد الرزّاق خطأ لأنه لا يوجد فيمصنّفه، ولا جامعه ولا تفسيره، والأمر كما قال.
كما أن محدّث عصره الحافظ أحمدبن الصدّيق الغماري [24] حكم عليه بالوضع محتجًا بأنّ هذا الحديث ركيك ومعانيهمنكرة.
قلت: والأمر كما قال، ولو لم يكن فيه إلا هذه العبارة: “خلقه الله مننوره قبل الأشياء” لكفى ذلك ركاكة، لأنه مشكل غاية الإشكال، لأنه إن حُمل ضمير مننوره على معنى نور مخلوق لله كان ذلك نقيض المدعى لأنه على هذا الوجه يكون ذلكالنور هو الأول ليس نور محمّد بل نور محمّد ثاني المخلوقات، وإن حُمِلَ على إضافةالجزء للكل كان الأمر أفظعَ وأقبحَ لأنه يكون إثبات نور هو جزء لله تعالى، فيؤديذلك إلى أن الله مركب والقول بالتركيب في ذات الله من أبشع الكفر لأن فيه نسبةالحدوث إلى الله تعالى. وبعد هذه الجملة من هذا الحديث المكذوب ركاكات بشعة يردهاالذوق السليم ولا يقبلها.
ثم هناك علّة أخرى وهي الاضطراب في ألفاظه، لأن بعضالذين أوردوه في مؤلفاتهم رووه بشكل وءاخرون رووه بشكل ءاخر، فإذا نُظِرَ إلى لفظالزرقاني ثم لفظ الصاوي لوجد فرق كبير.
فالحديثان الأولان لا حاجة إلىتأويلهما لأجل حديث غير ثابت بل حديث موضوع لركاكته وهو حديث أوليةالنور.
فلا حاجة لما ذكره بعض من حمل حديث أول ما خلق الله نور نبيك يا جابرعلى الأولية المطلقة لغرض إثبات أولية النور المحمدي.
وأما حديث: “أوّل ماخلق الله العقل” فليس له طريق يثبت كما قال الحافظ ابن حجر [25]، ففي كتاب إتحافالسادة المتقين بشرح إحياء علوم الدين للحافظ محمد مرتضى الزبيدي [26] ما نصّه: “ثمقال العراقي: أما حديث عائشة فرواه أبو نعيم في الحلية [27] قال: أخبرنا أبو بكرعبد الله بن يحيى بن معاوية الطلحي بإفادة الدارقطني، عن سهل بن المرزبان بن محمدالتميمي، عن عبد الله بن الزبير الحُميدي، عن ابن عُيينة، عن منصور، عن الزهري، عنعروة، عن عائشة رضي الله عنها قالت: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: “أول ما خلقالله العقل” فذكر الحديث، هكذا أورده في ترجمة سفيان بن عيينة ولم أجد في إسنادهأحدًا مذكورًا بالضعف، ولا شكّ أنّ هذا مركب على هذا الإسناد ولا أدري ممّن وقعذلك، والحديث مُنكر. قلت: ولفظ حديث عائشة على ما في الحِلية قالت عائشة: حدثنيرسول الله صلى الله عليه وسلم أن أوّل ما خلق الله العقل، قال: أقبل فأقبل، ثم قالله: أدبر فأدبر ثم قال: ما خلقت شيئًا أحسن منك، بك ءاخذ وبك أعطي. قال أبو نعيم: غريب من حديث سفيان ومنصور والزهري لا أعلم له راويًا عن الحميدي إلا سهلاً، وأراهواهيًا فيه”. انتهت عبارة مرتضى الزبيدي.
وقال الحافظ العراقي في تخريجالإحياء [28] بعد إيراده هذا الحديث ما نصه: “رواه الطبراني في الأوسط من حديث أبيأمامة، وأبو نعيم من حديث عائشة بإسنادين ضعيفين” انتهى كلام العراقي.
أما حديثأولية القلم قال الحافظ ابن حجر [29] في الجواب عنه ما نصه: “فيجمع بينه وبين ماقبله بأن أولية القلم بالنسبة إلى ما عدا الماء والعرش، أو بالنسبة إلى ما منه صدرمن الكتابة، أي أنه قيل له اكتب أول ما خلق، وأما حديث: “أول ما خلق الله العقل“،فليس له طريق يثبت وعلى تقدير ثبوته فهذا التقدير الأخير هو تأويله والله أعلم” ا.هـ.
وأمّا قول ابن حجر الهيتمي في شرح الأربعين النووية ونصه: “أما أوليةالقلم نسبية وأما أولية النور المحمدي فهي مطلقة”. ا.هـ، فهذا التأويل مخالف للحديثالصحيح، ومخالف للقاعدة الحديثية أن الضعيف إذا خالف الحديث الثابت فلا حاجة إلىالتأويل، بل يعمل بالثابت ويترك الضعيف، وذلك مقرر في كتب المصطلح وفي كتبالأصول.
فإن قيل: أليس قال الرسولُ: “كنتُ أوّل النبيين في الخلق وءاخرهم فيالبعث”، وقال أيضًا: “كنت نبيًا وءادم بين الماء والطين”، و: “كنت نبيًا ولا ماءولا طين“.
فالجواب: أن الحديث الأول ضعيف [30] كما نقل ذلك العلماء، وفيهبقية بن الوليد وهو مدلّس، وسعيد بن بشير وهو ضعيف، ثم لو صح لم يكن فيه أنّه أوّلخلقِ الله وإنما فيه أنه أول الأنبياء، ومعلوم أن البشر أولهم ءادم الذي هو ءاخرالخلق باعتبار أجناس المخلوقات.
وأما الثاني والثالث فلا أصل لهما [31]، ولاحاجة لتأويل قول الله تعالى: {وجَعلنا من الماء كل شىءٍ حي} [سورة الأنبياء] والحديث الصحيح لخبر واهٍ ضعيف أو موضوع لا أصل له كما فعل ذلك بعض المتصوفة حيثأوَّل الآية بحديث جابر السابق الذكر وقال: إنّ للآية معنًى مجازيًا.
أماحديث ميسرة الفجر أنه قال: يا رسولَ الله متى كنت نبيًا، قال: “كنت نبيًا وءادم بينالروح والجسد”، فهو حديث صحيح رواه أحمد في مسنده [32]، وقال الحافظ الهيثمي [33] بعد عزوه لأحمد وللطبراني [34] أيضًا ما نصه: “ورجاله رجال الصحيح” ا.هـ.
وأمّا معناه فلا يدلّ على أوّليّته صلى الله عليه وسلم بالنسبة لجميعالخلق، وإنما يدل على أن الرسول كان مشهورًا بوصف الرسالة بين الملائكة في الوقتِالذي لم يتم تكوُّنُ جسدِ ءادم بدخولِ الروح فيه.
وقد أخرج أحمد [35] والحاكم [36] والبيهقي [37] في الدلائل عن العِرباض بن سارية رضي الله عنه قال: سمعتُ رسولالله صلى الله عليه وسلم يقول: “إني عند الله في أمّ الكتاب لخاتمُ النبيين، وإنءادم لمنجدل في طينته”. قال البيهقي [38]: “قوله صلى الله عليه وسلم: “إني عبد اللهوخاتم النبيّين وإن ءادم لمنجدل في طينته”، يريد به أنه كان كذلك في قضاء اللهوتقديره قبل أن يكون أبو البشر وأول الأنبياء صلوات الله عليهم” ا.هـ.
ثم إنالأفضلية ليست الأسبقية في الوجود بل الأفضلية بتفضيل الله، فالله تعالى يفضّل ماشاء من خلقه على ما شاء، فالله تعالى جعل سيدنا محمدًا أفضل خلقه على الإطلاقوأكثرهم بركة
فائدة مهمة
سؤال موجه إلى هؤلاء القائلين بأنالرسولَ هو أول خلق الله، يقال لهم: ألستم تعتقدون أن إبليس خُلق قبل ءادم؟فيقولون: بلى للنص الوارد في القرءان وهو قوله تعالى: {والجانَّ خلقناهُ من قبلُ مننارِ السَّمُوم} فيقال لهم: وهل سَبْقُ إبليس ءادم عليه السلام بالخلق يقتضيأفضليته؟ فلا شك أنهم لا يقولون إن ذلك يقتضي أفضلية إبليس فيقال لهم: لماذاتتشبثون بقولكم: “الرسول أول خلق الله” وأي طائل تحت قولكم هذا؟!.
أيضًا لامعنى لقول هؤلاء: إن الحديث الضعيف الإسناد إذا تلقته الأمة بالقبول فيكون صحيحًالغيره كما ادعاه بعض من كتب في هذه المسألة من الهند وحديث أولية النور كذلك، فيقاللهم: هذا لا ينطبق على هذا الحديث الموضوع لأن مرادهم بالأمة المجتهدون، فاذكروالنا أيّ إمام من الأئمة المجتهدين الأربعة وغيرهم قال بذلك، فإن كان عندكم نصفأظهروه، وهل تستطيعون أن تثبتوا ذلك عن أحد من أصحاب الأئمة الأربعة الذين تلقواعن هؤلاء كل ما في الأمر أنكم وجدتم هذا الكلام الذي تقولونه من كلام بعض المتأخرينمثل الزرقاني وابن حجر الهيتمي والقسطلاني الذي هو من أهل القرن العاشر وأشباههمومن جاء بعد هؤلاء مثل يوسف النبهاني الذي هو من أهل القرن الرابع عشر والعجلونيوأبي بكر الأشخر وأمثالهم، فكيف تدّعون أن هذا مما تلقته الأمةبالقبول؟!.
ومن سواهم ممن تحتجون بكلامهم متأخر عن ابن حجر الهيتمي.
إنماالذي ذكره العلماء في كتب الحديث أن الحديث الضعيف إذا تلقته الأمة بالقبول يكونصحيحًا لغيره مثل حديث [39]: “البحر هو الطهور ماؤه الحل وميتته”، وحديث [40] النهيعن بيع الكالئ بالكالئ، هذان الحديثان أئمة السلف من الفقهاء والمحدثين ومن تبعهممن الحفاظ والفقهاء الذين جاءوا بعدهم قالوا بصحة هذين الحديثين لان الأمة تلقتهمابالقبول، أي أنّ جميع المجتهدين عملوا بهما مع ضعف إسناديهما فأين ما تدعون منهذا؟!.
أما الحافظ ابن حجر العسقلاني فإنه لم يتعرض لما تقولونه بل صرح بمايُفهم من حديث: “كان الله ولم يكن شيء غيره وكان عرشه على الماء” بما دل عليهالحديث.
وأما عبد الرزاق الصنعاني صاحب المصنف فهو متقدم، فالثابت عنه ما فيتفسيره من أولية الماء والعرش، ثم من شأن عبد الرزاق في مؤلفاته أن يورد الحديث منغير أن يصححه، فكتابه المصنف والجامع لا يتعرض فيهما للحكم على الأحاديث التييذكرها بقول “صحيح أو حسن أو ضعيف”، فلو ثبت أنّ حديث جابر ذكره في مصنفه فلم يصححهولم يحسنه، فهل يقول ذو إلمام بعلم الحديث بأن مجرد ذكر المحدث لحديث في تأليفه أنهصحيح، لا يقول هذا من مارس علم الحديث دراية.
وقد ادعى بعض المتعصبين لحديثأولية النور أنه وجد نسخة من المصنف فيها ذكر هذا الحديث ولم يُعرف لها أثرٌ منذنحو خمس عشرة سنة منذ قالها هذا الرجل.
فكيف ساغ لهم أن يحتجوا بحديث “أولما خلق الله تعالى نور نبيك يا جابر” الذي لم يصححه أحد من الحفاظ.
على أنابن حجر الهيتمي لما أورده في كتابه “شرح الأربعين النووية” لم ينقل أنّ احدًا منالحفاظ صحح حديث أولية النور المحمدي إنما قال عن نفسه أنّ ما ارتضاه من قِبَلِنفسه وحاول تقوية رأيه بتأويل حديث الترمذي: “إن أول ما خلق الله تعالى القلم“،وهذا الحديث صححه الترمذي، لكن ابن حجر الهيتمي أوّل هذا الحديث فقال: “أولية القلمنسبية وأولية النور المحمدي حقيقية”، وكان الذي يليق به أن لا يتكلف هذا التأويللأن تأويل النصوص الثابتة لا يصار إليه إلا لدليل عقلي أو نقلي ثابت وهنا لا يوجدواحد منهما.
وأما دعوى بعض الذين كتبوا في تأييد هذا الحديث أن السيوطي ماضعفه إنما ضعف إسناده فلا ينافي ذلك ثبوته في نفسه من جهة أخرى، فالجواب: أن عبارتهفي قوت المغتذي تأبى ذلك لأن عبارته فيه وهذا نصها: “وأما حديثُ أولية النورالمحمدي فلا يثبت” ا.هـ، فهذا حكم على الحديث بالضعف ولم يذكرالإسناد
قاعدة أصولية تؤيد ما ذكرنا
اتفق الأصوليون على أنَّالنص لا يُؤول إلا لدليل سمعي ثابت أو دليل عقلي قاطع فقالوا: لا يجوز تأويل النصلغير ذلك وإن ذلك عبث والنصوص تُصان عن العبث، ذكر ذلك كثير منهم كصاحبالمحصول.
فبعد هذا يبطل تأويل المؤولين لحديث أولية الماء بأن أوليته نسبيةلتأييد قولهم: إن أول ما خلق الله نور محمد.
أما تأويل حديث أولية القلمللتوفيق بينه وبين حديث أولية الماء فذلك حق وصواب لأن كلا الحديثين ثابت، وفي هذامقنع للمتدبر المنصف.
ثم إن أحدهما أقوى من الآخر إسنادًا وهو حديث أوليةالماء، فإن حديث أولية القلم دونه في القوة فسلكنا مسلك التأويل لحديث أولية القلمبأنها أولية نسبية وأن أولية الماء مطلقة جريًا على القاعدة: “إذا تعارض مقبولان أيصحيحان جُمع بينهما إن أمكن الجمع” وهنا وجدنا الجمع ممكنًا بالتأويل، فإن قلنا: أولية القلم فهي بالنسبة للكتابة أي أن القلم أول ما خُلق للكتابة، فصح الجمعبينهما وزال التعارض
قاعدة في التصحيح والتضعيف
العبرة فيالتصحيح والتضعيف أن يكون من حافظ أي أن يَنُصَّ حافظ على أن هذا الحديث صحيح أو أنيذكر حافظ في كتابه أنه يقتصر فيه على الصحيح كالحافظ سعيد بن السَّكن فإنه ألَّفكتابًا اشترط فيه الاقتصار على الصحيح سمّاه “السنن الصحاح“.
ويؤيد هذا ما ذكرهالحافظ السيوطي في ألفيته في مصطلح الحديث
وخذه حيث حافظ عليه نصّْ *** أو منمصنف بجمعه يُخَصّْ
يعني أنّ الحديث الصحيح يُعرف أنه صحيحٌ بنص حافظعلى صحته، أو بأن يُذكر في كتاب ألفَّه حافظٌ واشترط فيه أنه لا يذكر في كتابه هذاإلا الصحيح.
وأما غير الحفاظ فلا عبرة بتصحيحهم ولا بتضعيفهم، فحديث أوليةالنور المحمدي لم يصححه حافظٌ من الحفاظ لا من المتقدمين ولا من المتأخرين، ولميُذكر في كتاب اشترط فيه مؤلفه الحافظ أنه يقتصر فيه على الصحيح.
وأما غيرالحفّاظ فلاعبرة بتصحيحهم ولا بتضعيفهم, فحديث أولية النور المحمدي لم يصححه حافظٌمن الحفاظ لا من المتقدمين ولا من المتأخرين, ولم يُذكر في كتابٍ اشترط فيه مؤلفهالحافظ أنه يقتصر فيه على الصحيح.
وأما مجرد ذكر حديث في كتابٍ مؤلفُه حافظفليس دليلاً على صحته، فهذا الإمام أحمد بن حنبل شيخ الحفاظ مع جلالة قدره وهو أحدالأئمة الأربعة المجتهدين ذكر في كتابه المسند ءالافًا من الأحاديث الثابتة الصحيحةوءالافًا من الضعاف، بل تكلم الحافظ زين الدين العراقي شيخ الحافظ ابن حجرالعسقلاني على أربعة عشر حديثًا مما في المسند بأنها موضوعة، فإذا كان هذا حال مسندالإمام شيخ الحفاظ أحمد بن حنبل فماذا يكون مؤلفات مَنْ هو دونه كالحافظ عبد الرزاقالذي صنف كتابه المعروف بالمصنف وكتاب التفسير وكتاب الجامع.
فالذين ذكرواحديث: “أولُ ما خلق الله نورُ نبيك يا جابر” من المتأخرين كثيرٌ لكنّ كثرتهم لاتفيدهم شيئًا لأنهم لم يبلغوا درجة الحافظ، إنما بعضهم محدثون لهم إلمامٌ بالحديثوبعضهم ليسوا من المحدثين بالمرة مثل الشيخ يوسف النبهاني فإنه ذكر في بعض مؤلفاتهأنه ليس عالمًا فضلاً عن المحدثيّةِ وأدخل في كتابه “أربعين الأربعين” لضعفه في هذاالعلم “الأربعين الودعانية” المحكوم عليها عند الحفاظ بأنها موضوعة، وهذا ناتج عنقلة اطلاعه في هذا العلم فلذلك خَفيَ عليه ذلك ولم يعرف أنها موضوعة.
والشيخيوسف النبهاني قد جازف في هذا الباب مجازفة كبيرة لقوله في ألفيته
نورك الكلوالورى أجزاءُ *** يا نبيًا من جنده الأنبياءُ
وفي كتاب “مولد أبيالوفا” أيضًا ما نصه
خلق الله من النور القديم *** نور مصطفى التهاميالأصيل
أتطلق هذه العبارة على ما يرويه مثل هؤلاء؟! وما الذي يدعو إلىهذا التعصب؟ وهل الفضل بالتقدم في الوجود؟
إنما الفضل بتفضيل الله تعالى لمنيشاء، فلو كان الفضل بتقدم الوجود لكان الماء أفضل كل شىء مع أنه من النعم التيامتن الله بها على عباده وذكره في القرءان بقوله: {وجعلنا من الماء كل شىءٍ حي} [سورة الأنبياء]، ولكان القلم أيضًا أفضل خلق الله مع ثبوت لفظ “إنه أول ما خلقالله” رواية.
يكفي سيدنا محمدًا بأفضليته على جميع خلق الله ما ذكره الله فيالقرءان الكريم من أخذ الميثاق على كل نبي أن يؤمن به إذا بُعث محمد وهو حي وذلك مافي قوله تعالى: {وإذ أخذَ اللهُ ميثاقَ النَّبِيِّينَ لَمَا ءاتيتُكم مِن كتابٍوحكمةٍ ثمَّ جاءكُم رسولٌ مصدِّقٌ لِما معكم لَتُؤمِنُنَّ بهِ ولَتَنْصُرنَّهُ} [سورة ءال عمران] الآية
دليل وضع حديث جابر
هذا الحديث فيهثلاث علل على أنه موضوع:
الأولى: أن أوّله وهو نص في أن النور المحمدي أولالمخلوقات على الإطلاق، ثم الجملة التي بعده وهي “خلقه الله تعالى من نوره قبلالأشياء”، فإن قُدّرت هذه الإضافة التي في كلمة نوره إضافة المِلْك إلى المالك كانالمعنى أنّ أول المخلوقات نورٌ خلقه الله تعالى ثم خلق منه نورَ محمدٍ فيكون هذانقضًا لأوله فلا يصحُّ على هذا قولُ “نورُ محمدٍ أول المخلوقات علىالإطلاق“.
وأما إن قُدّرت هذه الإضافة إضافةَ الصفة إلى الموصوف فالبليَّةأشدُّ وأكبرُ لأنه يكون المعنى على هذا التقدير أنَّ نور محمد جزءٌ من الله وهذا هوالشرك الأكبر والكفر الأشنع، لأن من عقيدة أهل السنة أن الله تعالى لم ينحلَّ منهشىء ولا ينحلُّ هو من شىءٍ غيره وأنه ليس مركبًا وأنه ليس شيئًا له أجزاء وإنماالجزء للمخلوقات، وقد ذكر الشيخ عبد الغني النابلسي رضي الله عنه أن من اعتقد أنالله انحلَّ منه شىء أو انحلّ هو من شىء فهو كافر وإن زعم أنه مسلم وأن من اعتقدأنه نور يتصوره العقل فهو كافر، فاعتقاد أن الرسول جزءٌ من نور هو من ذات اللهكاعتقاد النصارى أنّ المسيح روحٌ هو جزءٌ من الله.
ومن المعلوم أن كلام الرسوللا ينقضُ بعضه بعضًا، وهذا الحديث الجملة الثانية منه تنقض الأولى، فالرسول منزهٌعن أن ينطق بمثله، فبهذا سقط الاحتجاج بهذا الحديث على دعوى أن أول المخلوقات علىالإطلاق نور محمد.
الثانية: قد حكم المحدث الحافظ أبو الفضل أحمد الغماريالمغربي على هذا الحديث بأنه موضوع كما قدمنا، واستدل بما قرره علماء الحديث أنالركاكة في الحديث دليل كونه موضوعًا وذلك ظاهر لمن تأمل فيألفاظه.
الثالثة: من جملة ألفاظه ما نقله سليمان الجمل في شرحه على الشمائلعن سعد الدين التفتازاني في شرح بردة المديح عند قوله
وكل ءاي أتى الرسلالكرام بها *** فإنما اتصلتْ من نوره بهمِ
وهذا نص عبارته [41]: “عنجابر بن عبد الله الأنصاري قال: سألت رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أول شيء خلقهالله فقال: هو نور نبيك يا جابر خلقه الله ثمخلق منه كل خير وخلق بعده كل شر، فحينخلقه أقامه قدامه في مقام القرب اثني عشر ألف سنة ثم جعله أربعة أقسام، فخلق العرشمن قسم والكرسي من قسم وحملة العرش وخزنة الكرسي من قسم، وأقام القسم الرابع فيمقام الحب اثني عشر ألف سنة ثم جعله أربعة أقسام، فخلق القلم من قسم والروح من قسموالجنة من قسم وأقام القسم الرابع في مقام الخوف اثني عشر ألف سنة، ثم جعله أربعةأجزاء فخلق الملائكة من جزء وخلق الشمس من جزء وخلق القمر والكواكب من جزء وأقامالجزء الرابع في مقام الرجاء اثني عشر ألف سنة، ثم جعله أربعة أجزاء فخلق العقل منجزء والحلم والعلم من جزء والعصمة والتوفيق من جزء وأقام الجزء الرابع في مقامالحياء اثني عشر ألف سنة، ثم نظر إليه فترشح ذلك النور عرقًا فقطرت منه مائة ألفوعشرون ألفًا وأربعة ءالاف قطرة فخلق الله تعالى من كل قطرة روح نبي أو رسول، ثمتنفست أرواح الأنبياء فخلق الله من أنفاسهم نور أرواح الأولياء والسعداء والشهداءوالمطيعين من المؤمنين إلى يوم القيامة، فالعرش والكرسي من نوري، والكروبيونوالروحانيون من الملائكة من نوري، وملائكة السموات السبع من نوري، والجنة وما فيهامن النعيم من نوري، والشمس والقمر والكواكب من نوري، والعقل والعلم والتوفيق مننوري، وأرواح الأنبياء والرسل من نوري، والشهداء والسعداء والصالحون من نتائج نوري،ثم خلق الله اثني عشر حجابًا فأقام النور وهو الجزء الرابع في حجاب ألف سنة وهيمقامات العبودية وهي حجاب الكرامة والسعادة والرؤية والرحمة والرأفة والحلم والعلموالوقار والسكينة والصبر والصدق واليقين فعبد الله ذلك النور في كل حجاب ألف سنة،فلما خرج النور من الحجب ركّبه الله في الأرض فكان يضيء، وركب فيه النور في جيبه ثمانتقل منه إلى شيث ولده، وكان ينتقل من طاهر إلى طيب إلى أن وصل إلى صلب عبد اللهبن عبد المطلب ومنه إلى زوجه أمي ءامنة، ثم أخرجني إلى الدنيا فجعلني سيد المرسلينوخاتم النبيين ورحمة للعالمين وقائد الغر المحجلين هكذا كان بدء خلق نبيك يا جابر” ا.هـ.
واللفظ الذي ساقه العجلوني ونسبه إلى مصنف عبد الرزاق وهذا نصه: “عنجابر بن عبد الله قال: قلت: يا رسول الله بأبي أنت وأمي أخبرني عن أول شىء خلقهالله قبل الأشياء قال: يا جابر إن الله تعالى قد خلق قبل الأنبياء نور نبيك من نورهفجعل ذلك النور يدور بالقدرة حيث شاء الله ولم يكن في ذلك الوقت لوحٌ ولا قلمٌ ولاجنةٌ ولا نارٌ ولا ملكٌ ولا سماءٌ ولا أرضٌ ولا شمسٌ ولا قمرٌ ولا جنٌّ ولا إنسٌ،فلما أراد الله تعالى أن يخلق الخلق قسم ذلك النور أربعة أجزاء فخلق من الجزء الأولالقلم ومن الثاني اللوح ومن الثالث العرش، ثم قسم الجزء الرابع أربعة أجزاء فخلق منالأول حملة العرش ومن الثاني الكرسي ومن الثالث باقي الملائكة، ثم قسم الجزء الرابعأربعة أجزاء فخلق من الأول السموات ومن الثاني الأرضين ومن الثالث الجنة والنار، ثمقسم الجزء الرابع أربعة أجزاء فخلق من الأول نور أبصار المؤمنين ومن الثاني نورقلوبهم وهي المعرفة بالله تعالى ومن الثالث نور أنفسهم وهو التوحيد لا إله إلا اللهمحمد رسول الله صلى الله عليه وسلم”. ا.هـ.
وبين الروايتين المنقولتيناختلاف كبير فظاهر هذا اضطراب والاضطراب من موجبات الضعف.
ثم إن الإسناد الذيذكر لهذا الحديث منقطع بين إسحاق بن إبراهيم الدَّبَري وعبد الرزاق، فقد ظهر بذلكأن فيه ثلاث علل: الاضطراب، وانقطاع الإسناد، والركاكة، والركاكة من علامات الوضعكما قرره علماء الحديث في كتب المصطلح
نصيحة
قال عصريناالشيخ عبد الله الغماري في رسالته “مرشد الحائر” [42]: “وما يوجد في بعض كتب المولدالنبوي من أحاديث لا خطام لها ولا زمام هي من الغلو الذي نهى الله ورسوله عنه، فلايعتمد على تلك الكتب ولا يقبل الاعتذار عنها بأنها من الفضائل، لأن الفضائل يتساهلفيها برواية الضعيف، أما الحديث المكذوب فلا يقبل في الفضائل إجماعًا، والنبي يقول: “من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين..” [43]، ويقول: “من كذب عليّمتعمدًا فليتبوأ مقعده من النار” [44]، وفضل النبيّ صلى الله عليه وسلم ثابت فيالقرءان الكريم والأحاديث الصحيحة وهي في غنى عما يقال فيه من الكذب والغلو…” ا.هـ.
ثم إن التشبث بقول إن نور محمد أولُ المخلوقات على الإطلاق نوعٌ منالغلو وقد نهى الله ورسوله عن الغلو.
ومن الغلو أيضًا اعتقاد كثير من الناسأن الولي لا يخطئ في شيء من أمر الدين، وهذا خلاف حديث رسول الله صلى الله عليهوسلم الذي رواه الطبراني في الأوسط من حديث عبد الله بن عباس عن النبي صلى اللهعليه وسلم: “ما من أحد منكم إلا يؤخذ من قوله ويترك غير رسول الله”، وفي رواية: “غير النبي”، وحسَّنه الحافظ العراقي.
فالولي مهما علت مرتبته يخطئ في بعضالمسائل الفرعية إلا في أصول العقيدة ونحو ذلك، وعلى هذا كبار القوم، قال الشيخ عبدالقادر الجيلاني رضي الله عنه: “إذا علم المريد من الشيخ الخطأ فينبهه فإن رجع وإلافليكن مع الشرع“.
وقال الشيخ أحمد الرفاعي رضي الله عنه: “سلّم للقومأحوالهم ما لم يخالفوا الشريعة فإذا خالفوا الشرع فكن مع الشرع”، يعني رضي الله عنهالأولياء.
وهذا الحديث صريح في أنّ كل فرد من أفراد الأمة خواصها وعوامها لابد أن يكون بعضُ قوله صحيحًا وبعض غيَر صحيح أي أنه لا يستثنى منهمأحد.
فيجب تحذير هؤلاء المتشبثين بكل ما ينسب إلى الأولياء مما صح عنهم مماهو خطأ ومما لم يصح عنهم وذلك أكثر، ويحتجون لهذا الفهم الفاسد بقولالقائل
وكن عنده كالميتِ عند مُغسِّلٍ *** يقلّبُهُ كَيْمَا يشاءُويفعلُ
ويظنون أنّ معناه أنه يجب اتباع الشيخ الكامل في كل شىء وأنهمنزه عن الخطإ فهؤلاء الجهلة سَاوَوا الوليَّ بالنبي.
ويكفي شاهدًا لما ذُكرأنه ثبت عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه اعترف بالخطإ على نفسه وذلك أنه قالمرةً: “أيها الناس لا تغالوا في مهور النساء فأي إنسان بلغني أنه جعل مهر امرأتهأكثر من أربعمائة درهم أخذته ووضعته في بيت المال”، فقالت امرأة: ليس لك ذلك ياأمير المؤمنين إن الله تعالى يقول: {وءاتَيْتُم إحداهُنَّ قِنطارًا فلا تأخُذُوامنهُ شيئًا} [سورة النساء] فصعد عمر رضي الله عنه المنبر وقال: “أيها الناس أنتموشأنكم في مهور نسائكم أصابت امرأة وأخطأ عمر”، وعمر أفضل أولياء أمة محمد بعد أبيبكر رضي الله عنهما وشهد رسول الله صلى الله عليه وسلم له بأنه مُلهَمٌ، فقد روىالبخاري [45] أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “إنه قد كان فيما مضى قبلكم منالأمم مُحَّدثُون وإنه إن يكن في أمتي هذه منهم فإنه عمر بن الخطاب”، وكشف عمر رضيالله عنه ثابت وهو الذي قال: “وافقتُ ربي في أربع” أي وافق إلهامهالقرءان.
فليعلم هذا هؤلاء الأغرار الذين يعتقدون أن ما يقوله شيخ طريقتهملا يخطئ أبدًا فيتشبثون بما يُنسب إلى مشايخهم مما يخالف الشريعة لاعتقادهم أنه لايصدر منهم إلا ما يوافق الواقع، وهذا نوع من الغلو الذي نهى عنه الله ورسوله قالالله تعالى: {يا أهلَ الكتابِ لا تَغْلوا في دينكم} [سورة المائدة]، وقال رسول اللهصلى الله عليه وسلم: “وإياكم والغلو في الدين، فإنما أهلك مَنْ كان قبلكم الغلو فيالدين” رواه النسائي [46].
ومن أشد الناس غلوًا في هذا الزمن بعض المنتسبينللطرق فإنهم يَقبلون إذا قيل لهم المؤلف الفلاني أخطأ في كذا ولو كان من أشهر فقهاءالمسلمين ولا يقبلون إذا قيل لهم شيخكم الذي تنتسبون إلى طريقته أخطأ ولو بُيِّنلهم الدليل، فليعلم هؤلاء أنهم خالفوا القرءان والحديث وكلام سيد الطائفةالصوف
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website