تأنّق المسلمون في ملابسهم وأغطية رؤوسهم منذ قديم الزمان، في عصور الجاهلية وما قبلها، وإذا كان الإسلام قد جاء بتشريعات الطهارة ظاهرة وباطنة، ويدعو إلى النظافة والجمال ويحضُّ عليه؛ لأن “الله جميل يُحبُّ الجمال” ويكره الخيلاء والكبر، فإن العِمامة كانت جزءا من هذه الظاهرة الثقافية والفكرية التي كانت تنعكسُ في الملبس والشكل الخارجي.
فالعمامة أحد أغطية الرأس الشهيرة عند العرب والمسلمين طوال قرون من تاريخهم، وهي قطعة من القماش كان يترك لكل جماعة ما يناسبهم فيها، مراعين في ذلك الأجواء والظروف المختلفة، ولا يُلتزم لون ولا شكل معين فيها وإن غلب عليها طريقة التكوير واللفّ، وكانت العمامة عادة العرب لوقايتهم من الحر أو البرد، فقد ذكر أبو الأسود الدؤلي (ت 69هـ) التابعي الشهير وواضع علم النحو أن العمامة “جِنّة في الحرب، ومُكنة من الحرّ، ومدفأة من القرّ (البرد)، ووقار في الندى، وواقية من الأحداث، وزيادة في القامة”[1]. فكيف كانت عمائم النبي -صلى الله عليه وسلم- وصحابته؟ وما أبرز ألوانها ودلائل هذه الألوان؟ وكيف كانت تُلبس؟ وما أسباب خلعها وإلقائها أو لبسها بصورة غير صحيحة؟ ذلك ما سنراه في سطورنا
كانت العمامة عند العرب من لوازم مروءة الرجل، بها يبرزُ جماله، ويحسُن بين القوم وضعه، ويرتفع مقامه، حتى أُثِر عن الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- أنه قال: “العمائم تيجانُ العرب”[2]. ولقد لبسها النبي -صلى الله عليه وسلم- كما اعتاد قومه، وأكثر ما ورد عنه فيها من أحاديث ومرويات هي حِكاية لأحواله وسيرته، أما ما ورد من الأقوال في التزامها كشريعة ودين فأكثره لا يصلح حجة في ثبوت الأحكام، ومنه ما رُوي عن عبد الله بن عمر مرفوعا: “عليكم بالعمائم، فإنها سيما الملائكة، وأرخوها خلف ظهوركم”، كما يذكر الشيخ عطية صقر -رحمه الله- في سؤال جاءه حول وجوب لبس العمائم استنانا بفعل النبي -صلى الله عليه وسلم-[3].
ومن هنا، جعل ابن الحاج العبدري (ت 737هـ) في كتابه “المدخل” لبس العمامة مِن المباحات؛ لأنها فعل للنبي -صلى الله عليه وسلم- لم يظهر فيه معنى القُربة أو التشريع، بل يظهر معنى العادة والطبيعة كالأكل والشرب والملبس. ونفهم من هذا أن العمامة كانت من عادة النبي -صلى الله عليه وسلم- المحببة إليه ومن عادات العرب والمسلمين طوال قرون بعده، وكان إذا جاءه القميص (الثوب) أو العِمامة الجديدة يقول: “اللهم لك الحمدُ أنت كسوتنيه، أسألُكَ من خيره وخير ما صُنع له، وأعوذُ بك مِن شرّه وشرِّ ما صُنعَ له”[4].
كما كانت له عمامة مخصصة تُسمى “السحاب”، يُقال: “إن النبي صلى الله عليه وسلم كان له عمامة تسمى السحاب، كساها علي بن أبي طالب رضي الله عنه، وكان يلبسها ويلبس تحتها القلنسوة (ما يشبه طاقية الرأس)، وكان يلبس القلنسوة بغير عمامة، ويلبس العمامة بغير قلنسوة، وكان إذا اعتمَّ أرخى عمامته بين كتفيه كما رواه مسلم في صحيحه عن عمرو بن حريث”
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
ولم يكُن النبي -صلى الله عليه وسلم- يُخصص لعمامته لونا محددا، فقد ثبت أنه -صلى الله عليه وسلم- دخل مكة عام الفتح سنة 8 من الهجرة وعليه عمامة سوداء. وكان عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- “يستحِبُّ الصُّفْرة حتى في العِمامة، وزعم أن النبي -صلى الله عليه وسلم- كان يستحبّ الصُّفرة” منها[6]. كما كان يحرص على سدْل طرفها بين كتفيه استنانا به، ويُروى أن “عبد الله بن بُسْر المازني صاحب رسول الله -صلى الله عليه وسلم- [كان يُرى] وعليه عمامةٌ صفراء أو رداءٌ أصفر”[7].
وثبت أن خالد بن الوليد -رضي الله عنه- كان يلبس العمامة الحمراء في جل حروبه ومعاركه منذ بدر وحتى في أزمنة الفتوحات الإسلامية، ففي عام 15هـ وأثناء استعداده لفتح مدينة بعلبك في جنوب لبنان، “كان خالد بن الوليد -رضي الله عنه- قد عمّمَ نفسه بعمامة حمراء، وكانت تلك العمامة عمامته في الحرب” كما يخبرنا الواقدي (ت 207هـ) في كتابه “فتوح الشام”.
وحين أعيَتِ العراقُ الأمويين في زمن عبد الملك بن مروان (65-85هـ)، قرَّر عليها الحجاج بن يوسف الثقفي (ت 95هـ)، وكانت الكوفةُ عاصمة العراق آنذاك، وكان أهلها في عزّة وقوة ورفاهة ملبس، في حين دخل الحجاجُ مسجدَ الكوفة الكبير “عليه عِمامة حمراء قد تلثَّم بها، وهو متنكِّبٌ قوسا له عربية وهو يؤم المنبر”[8]، حتى ظنه هؤلاء واليا ضعيفا فقيرا من غريب شكله وعمامته وتلثّمه للوهلة الأولى، لكن ظهر لهم ما لم يكن في الحسبان!
ويبدو أن العمائم السود كانت ألزم وأشهر للنبي -صلى الله عليه وسلم- وللصحابة والعلماء والمحدثين والفقهاء آنذاك، قبل أن تصبح شعار العباسيين فيما بعد، فقد كتب الخليفة الأموي عُمر بن عبد العزيز (ت 101هـ) إلى عديّ بن أرطأة وكان قد عيّنه واليا على البصرة يُقرعه ويتوعّده قائلا: “أما بعدُ، فإنّك غررتني بعمامتك السوداء، ومُجالستك القُرّاء، وإرسالك العمامة من ورائك، فإنّك أظهرتَ لي الخير فأحسنتَ، فقد أظهرَنَا الله على ما كُنتم تكتُمون، والسلام”[9].
وكان إسدالُ العلماء والفقهاء والمحدّثين لأطراف العمامة التي كانت تُسمى بالذؤابة مِن الخلف بين الكتفين والحرص على اختيار الأسود منها استنانا بفعل النبي -صلى الله عليه وسلم- والصحابة، ففي خبر ذكره الإمام أبو يوسف يعقوب بن إبراهيم الأنصاري (ت 182هـ) تلميذ الإمام أبي حنيفة النعمان (ت 150هـ) في كتابه “الآثار” أن “جبريل أتى النبي -صلى الله عليه وسلم- فعمَّمَه بعمامة سوداء، وأسدل لها مِن خلفه”[10]. أما أبو هريرة الصحابي الكبير وأشهر رواة الحديث النبوي فيقول عنه أحد التابعين: “رأيتُ أبا هريرة عليه عِمامة سوداء”[11]، وكذلك حبر الأمة عبد الله بن عباس الذي يقول عنه أحد تلاميذه: “رأيتُ ابن عبّاس يعتمُّ بعمامة سوداء خُرقانية (أي مكوّرة) ويُرخيها شبرا”[12]. وقد رُوي أن الزبير بن العوام -رضي الله عنه- كان “يسدلُ عمامته بين كتفيه ذراعا أو عظْم الذراع”[13].
وحين طعن أبو لؤلؤة المجوسي الفاروق عمر بن الخطاب -رضي الله عنه- في المسجد النبوي، وحُمل إلى بيته في نزع الموت الأخير، “دخل عليه قوم أثنوا عليه وبكَوا، قال [أحدهم]: فلما دخلنا عليه، قال: وقد عصَّب بطنه بعِمامة سوداء والدم يسيلُ”[14]، كما يُخبر ابن أبي شبّة في “تاريخ المدينة”، ولربما كانت هذه العمامة السوداء التي عصب بها الفاروق بطنه كان يضعها على رأسه وقت الصلاة.
واشتهر عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- أيضا بلبس العمائم السُّود، فحين قَتل الحجاجُ بن يوسف الثقفي (ت 95هـ) عبدَ الله بن الزبير بن العوام (ت 73هـ) -رضي الله عنهما- في مكة، بعد صراع استمر عشر سنوات بين الزُّبيريين والأمويين على الخلافة، ثم لم يكتفِ بذلك فصلبه، “أقبلَ عبد الله بن عمر -رضي الله عنهما- على بغلة صفراء وعليه عِمامة سوداء، وطلبَ إلى الحجاج أن يأذنَ له في دَفْنه، فأمرَه فذهبَ فدفَنه”[15]. ومثله الصحابي الجليل واثلة بن الأسقع الذي كان يروي شاهد عيان أنه كان “يُصفّر لحيته (بالحناء)، ورأيتُ عليه عِمامة سوداء قد أرخى لها عَذَبَة (طرفها) مِن خَلفه”[16].
وقد لاحظ عدد من رواة الحديث ارتباط العمائم السُّود بالنبي -صلى الله عليه وسلم- وكبار الصحابة والتابعين من بعدهم، وترجيحهم لها، ومنهم الإمام الترمذي (ت 279هـ) الذي أفرد بابا في سُننه باسم “باب ما جاء في العمامة السوداء”، ذكر فيه خبر فتح مكة والعمامة السوداء التي كان يلبسها النبي -صلى الله عليه وسلم- في ذلك اليوم، وهيئة لبسه لها، ثم أفرد بابا تاليا بعنوان “بابٌ في سدْل العِمامة بين الكتفين”، مبينا فيه طريقة إسدال النبي -صلى الله عليه وسلم- طرف العمامة أو الذؤابة من حديث ابن عمر -رضي الله عنهما- قال: “كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اعتمَّ سدَلَ عِمامته بين كتفيه”. قال نافع (تلميذ ابن عمر): “وكان ابن عمر يسدل عمامته بين كتفيه”[17].
وفي فترة متأخرة في عصور العباسيين والمماليك لزم الأشراف من آل بيت النبي -صلى الله عليه وسلم- وحفدة الحسن والحسين -رضي الله عنهما- العِمامة الخضراء، وكانوا قديما يُعلقون قطعة خضراء من القُماش في العمامة، فأضحى اللون الأخضر شعارا للعلويين، بل أضحت العمامة الخضراء في فترات متأخرة مخصصة لعلماء الأزهر في الحقبة العثمانية كما يخبرنا الجبرتي في تاريخه[18].
كانت العمامة إذن عادة متوارثة مقدّرة بين الناس آنذاك، ويبدو أنها أضحت شرطا من شروط المروءة والأدب والزي الرسمي لمجالس العِلم باختلاف ألوانها بين البياض والسواد والصفرة، فقد “كان [الإمام] مالك بن أنس رحمه الله إذا عُرض عليه الموطَّأ تهيأ ولبس ثيابه وعِمامته، ثم أطرقَ ولا يتنحنح، ولا يعبث بشيء من لحيته حتى يفرغ من القراءة إعظاما لحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم”[19]، وبسبب ذلك “مات مالك رحمه الله تعالى عن مئة عمامة فضلا عن سواها” كما يخبر القاضي عياض أحد علماء المالكية المشاهير[20]. ولقد تخلّق تلاميذ الإمام مالك بأخلاق أستاذهم، وعلى رأسهم راوي الموطأ الشهير يحيى بن يحيى الليثي الذي يقول عنه أحد معاصريه: “رأيتُ يحيى بن يحيى نازلا عن دابته، ماشيا إلى الجامع يوم جمعة، وعليه عِمامة ورداء متين، وأنا أحبس دابة أبي”[21].
أما لبس العمامة فكان يتم وفق أشكال مختلفة؛ إذ اعتادَ فرسان العرب في المواسم والجموع التقنّع بالعمامة وكانوا يكرهون أن يُعرفوا، وهذا التقنع لا بد أن يجعل العِمامة تدور من تحت الحنك، وقد استمرّ الأعراب على التقنّع أو التلثُّم بالعمامة حتى العهود المتأخرة[22]، وهو ما لا نزال نراه عند الطوارق وبدو الصحاري في كثير من بقاع العالم الإسلامي إلى يومنا هذا.
وكان نزع العِمامة أو حسر لثامها يحمل مضامين مختلفة لسياقات المواقف التي تتم فيها، يغلب عليها الانصياع أو الغضب، ففي حضرة الخليفة أو السلطان دليل على الإذعان والانصياع التام لأوامر الدولة، ويبدو أن هذه العادة كانت قديمة منذ عصر النبوة والصحابة، فقد أُثر عن الصحابي الجليل أبي ذر -رضي الله عنه- أنه خرج إلى منطقة الربذة في أطراف المدينة المنورة ليسكن فيها وحده، وقد اتخذ بعض الجهال هذا الأمر مسوّغا للنيل من عثمان -رضي الله عنه- الخليفة الثالث، زاعمين أن أبا ذر ما خرج إلا لأنه ناقم على سياسته في الحكم والخلافة، ومن ثم استدعاه عثمان، فلما مثل أبو ذرّ بين يديه “وعلى أبي ذرّ عمامةٌ، فرفعَ العمامة عن رأسه وقال: إني والله يا أمير المؤمنين ما أنا منهم [يعني من الخوارج]… قال [عثمان]: صدقت يا أبا ذرّ، إنّا إنما أرسلنا إليك لخير، لتُجاوزنا بالمدينة”[23].
وقد يكون نزع العمامة من على الرأس وإلقاؤها نوعا من التذمر والضيق أو التبرؤ من فعل ما، فحين حاصر أهل الفتنة القادمون من مصر والعراق بيت عثمان -رضي الله عنه- يريدون الفتك به وقتله، وجاء عليّ -رضي الله عنه- مهرولا لنجدته، “لم يستطع أن يدخل والتحم القتلُ، فنزع عمامة له سوداء كانت على رأسه فألقاها في الدار، وقال: اللهم اشهد أني لم أقتُله ولم أُمالئ”[24].
كما كان نزع العمامة أو لثامها للترهيب والتخويف، مثلما فعل الحجاج بن يوسف الثقفي حين دخل العراق واليا من قِبل الأمويين لتنظيم شؤونها، ووأد ثوراتها، يقول المطهر بن طاهر في “البدء والتاريخ”: “ولما دخل الحجاج العراق دخل المسجد معتما بعمامة قد غطى أكثر وجهه متقلدا سيفا ومتوكّئا قوسا فصعد المنبر وسكت ساعة حتى قال بعض الناس: قبَّح الله بني أمية حين يستعملون مثل هذا على العراق… فلما رأى عيون الناس إليه حسر اللثام ونهض قائما:
والله يا أهل العراق إنّي أرى رؤوسا قد أينعت وحان قطافها، وإني لصاحبها، فكأني أنظرُ إلى دماء مِن فوق العمائم واللحى”[25]، فانقاد له العراق طوال سنوات، وخافوا بطشه وهيبته وقتله للناس دون وجَل منهم.
ويبدو أن تكوير العمامة وإتقانها كان ينمّ عن احترام الشخص للمجتمع والعكس بالعكس، فقد سُئل التابعي طاووس بن كيسان (ت 106هـ) في “الذي يلوي العمامة على رأسه ولا يجعلُها تحت ذقنه؟ قال: تلك عِمّة الشيطان”[26].
تلك بعض من ملامح تاريخ لبس العمامة في التاريخ الإسلامي، وقد رأينا الرمزيات والمضامين الاجتماعية والأخلاقية والوظيفية التي ارتبطت بأشكال العمامة وألوانها، وسياقاتها المختلفة، ولا شك أن مثل هذا البحث الطريف يحتاج إلى مَن يسبر أغواره، ويكشف عن معانيه الواسعة بين الفرح والحزن والشجاعة والإقدام أو الغضب أو حتى التظرُّف والدعابة.
____________________________________
المصادر
- الجاحظ: البيان والتبيين 3/93.
- الجاحظ: السابق. 3/92.
- عطية صقر، موقع دار الإفتاء المصرية.
- مسند الإمام أحمد 17/348.
- المنتخب من مسند عبد بن حُميد ص265.
- مسند الحارث 2/610.
- ابن الجوزي: المنتظم 6/158.
- السابق 11/462.
- أبو يوسف: الآثار ص128.
- الذهبي: تاريخ الإسلام 4/352.
- الذهبي: السابق 5/158.
- مسند ابن الجعد ص310.
- ابن شبة: تاريخ المدينة 3/937.
- الفاكهي: أخبار مكة 2/351.
- ابن أبي عاصم: الآحاد والمثاني 2/175.
- سنن الترمذي ح 1735، 1736.
- الجبرتي: عجائب الآثار 3/428.
- موطأ الإمام مالك، المقدمة 1/42.
- السابق 1/71.
- السابق 1/250.
- الملابس العربية وتطورها عبر العصور ص37.
- ابن شبة: تاريخ المدينة 3/1036.
- ابن شبة: السابق 4/1219.
- البدء والتاريخ 6/29.
- جامع معمر بن راشد 11/80.