يقول خصوم الرجل إنّه كان شخصية غامضة ومجهولة، ويستندون في ذلك إلى اختلاف أهل العلم بعد عصره حول اسمه. والعجيب أنّه الرجل معروف باسم علَم اشتُهر به، هو أبو هريرة، وبانتسابه القبلي، الدوسي، فكيف يُقال إن اسمه مجهول؟ أما اسمه الشخصي واسم والده فالراجح عند العلماء أنه عبد الرحمن بن صخر، وقد حصل الاختلاف بعد عصر الرجل، ولم يكن مجهولا في عصره، وهذا لا يطعن في شخصيته ومعرفتها، إذا كان اسم أبي هريرة قد بات اسم العلم الأكثر شهرة له.
والآن أدعوك أيها القارئ إلى التفكير بشكل علمي: افتح كتاب “سير أعلام النبلاء” للذهبي، ستجد هناك إحصاء لأكثر من 300 اسم لصحابة وتابعين ممّن رووا عن أبي هريرة كما ورد في كتب الحديث والتراجم، وعددٌ كبير جدا منهم من الأعلام الثقات المشهورين، التقوا بأبي هريرة ورووا عنه الحديث، جميع هؤلاء لهم تراجم وبيانات هائلة في كتب التراجم والطبقات، جميعهم يعرفون الرجل ويزكّونه ويقرّون بعلمه وقدره ويأخذون عنه الحديث. فهل يُقال عن مثل هذا “مجهول” أو “غامض”؟! ومن الطريف أنهم يقولون “غامض” و”مجهول” ثم يقولون إنّ عمر بن الخطاب ولّاه على البحرين! وهل يولّي عمر إلا من يعرفه ويثق به؟! وهل يُولّى الغامض المجهول الذي لا يعرفه الناس؟!
كيف روى أبو هريرة 5374 حديثًا مع قصر مدّة ملازمته للرسول ومع أنّ الرسول لم يكن مُكثرا في الحديث؟
نقول أولا: السنوات الثلاث ليست مدّة قصيرة، بل هي كافية لهذا العدد وأكثر منه. ومع ذلك نقول إنّ هذا العدد غير دقيق، فهو في الواقع رقم تقديري لمرويات أبي هريرة في كتب السنة، ولكنه مع الأسف عدد تلك المرويات مع التكرار! يعني لو أنّ أبا هريرة جلس للتحديث ونقل 7 من الحاضرين حديثا واحدا له كلٌّ بروايته؛ فإنّ كل رواية ستنتقل في كتب الحديث عن أحد هؤلاء التابعين ستُعتبر “حديثًا” ضمن الـ 5374 حديثًا! فمثلا: لو حدّث (أ) عن (ب) عن (ج) عن أبي هريرة، وحدّث (ه)ـ عن (و) عن (ز) عن أبي هريرة بنفس الحديث؛ سيتم عدّ روايتين!
ولنقم الآن بعملية “تنخيل” لنصل إلى العدد التقريبي الصحيح لِما رواه أبو هريرة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم:
– بعد حذف المكرر من تلك الروايات سنصل إلى نحو 1500-1600 رواية فقط! هي عدد الأحاديث التي رواها أبو هريرة.
– لم ينته الأمر بعد، فهذه الروايات فيها الصحيح وفيها الضعيف، فعلينا أن نحذف الضعيف إذا أردنا إحصاء ما صحّ منها.
– لم ينته الأمر بعد، فبعض هذه المرويات موقوف على أبي هريرة، أي هو من كلامه وفقهه ولم ينسبه للرسول صلى الله عليه وسلم.
– لم ينته الأمر بعد، فعدد كبير من تلك الأحاديث رواه أبو هريرة بالواسطة، أي أنّه كان يرويه عن غيره من الصحابة، كأبي بكر وعمر وغيرهم رضي الله عنهم. ومن ثم فهذه المرويات لا ينبغي أن تكون بالضرورة خلال تلك السنوات الثلاث التي لازم فيها الرسول صلى الله عليه وسلم، وبعضها قد يكون من أخبار الرسول صلى الله عليه وسلم قبل إسلام أبي هريرة.
– ممّا ينبغي ملاحظته أيضا أنّ ما رواه أبو هريرة ليست فقط سنّة قولية، أي ليس فقط مما قاله النبي صلى الله عليه وسلم، بل يدخل ضمن الأحاديث: صفات الرسول، تقريراته (أي أقوال وأفعال شهدها الرسول وأقرّها)، أفعاله، فهذه كلها من السنن ولكنها ليست أقوالا.
– والآن إليكم هذه المفاجأة: هذا العدد الذي رواه أبو هريرة (نحو 1500) لم يتفرّد به، فالغالبية الساحقة منه أحاديث رواها غيره من الصحابة، وما تفرّد به هو نحو 110 أحاديث فقط!
يقول المتحدث في فيديو “أصوات مغربية” إنّ الإمام الذهبي قد ذكر في السير “أنّ أبا هريرة كان يدلّس ويلقي أحاديث غريبة بالمئات”. والصحيح أنّ ما ذكره الذهبي هو التالي: “قال يزيد بن هارون: سمعت شعبة يقول: كان أبو هريرة يدلّس”. ولم يذكر أنه كان يلقي أحاديث غريبة بالمئات! ولاحظ معي أيها القارئ أنه لا علاقة بين مصطلح “التدليس” وبين الأحاديث الغريبة، فصاحب هذه الشبهة يستغل جهل بعض المسلمين بمعنى مصطلح “التدليس”، ويعتمد على الظلال السلبية الحادّة للكلمة في عصرنا، بينما هي تعني في الحديث أن يحدّث عمّن سمع منه ما لم يسمعه منه.
فمثلا يمكنني أن أقول: “قال أبي كذا وكذا”، بينما أنا سمعت الكلام من أخي الذي سمعه عن أبي؛ فرويته عن أبي مباشرة ثقةً بأخي واختصارا للكلام. فمثلا: لو سمع أبو هريرة حديثا عن الرسول صلى الله عليه وسلّم من أبي بكر الصدّيق، فإنّه قد يحدّث في مجلس من المجالس قائلا: “قال رسول الله صلى الله عليه وسلم…”، وليس في هذا عيب، ولهذا علّق الذهبي مباشرة بعد نقله لقول شعبة (وهو ما لا يذكرونه!): “قلت: تدليس الصحابة كثير ولا عيب فيه؛ فإن تدليسهم عن صاحب أكبر منهم، والصحابة كلهم عدول”. والخلاصة أنّ وصف شعبة لأبي هريرة بأنه “كان يدلّس” ليس ذمّا بل هو توصيف علمي.
ما يردّده بعضهم في إطار هذا التساؤل أنّ بقية الصحابة الذين لازموا الرسول صلى الله عليه وسلم مدة أطول من أبي هريرة لم يرووا عن الرسول إلا بضع أحاديث، وهذا غير صحيح، وانظر أيها القارئ إلى هذه الإحصائية لبعض المكثرين من الرواة، وهي عن بحث الأخ محمد بن علي المطري المذكور: أنس بن مالك: 546. عبد الله بن عمر: 480. عبد الله بن عباس: 450. جابر بن عبد الله: 400. عائشة أم المؤمنين: 392. أبو سعيد الخدري: 312. عبد الله بن مسعود: 274. عبد الله بن عمرو: 245. أبو أمامة: 141. علي بن أبي طالب: 127. أبو موسى الأشعري: 123. أبو ذر الغفاري: 106. وغيرهم كثير. فكيف يُقال بضعة أحاديث؟!
وهناك أمر مهم يجب الانتباه إليه، أنّ صحابةً مثل عمر بن الخطاب وأبي بكر الصديق من الطبيعي جدا ألا يرووا العدد الذي رواه أبو هريرة. ولنقارن بين عمر بن الخطاب الذي صحب النبي أكثر من أبي هريرة وبين أبي هريرة، فقد ذُكر أنّ عمر قد روى نحو 83 حديثا (وهي ليست بضعة أحاديث أيضا!)، فماذا يعني ذلك؟ حتى تفهم السبب انظر إلى تاريخ وفاة عمر، فهو 23 هـ، بينما توفي أبو هريرة عام 59 هـ. هل تعلم ماذا يعني ذلك؟ يعني أنّ هناك 33 عامًا كاملة بعد وفاة عمر، دخل في الإسلام فيها الملايين، وولد مئات الآلاف ممن لم يرَوا الرسول صلى الله عليه وسلّم. عمر في المدينة، عاش بعد النبي فترة كان مشغولا فيها بشؤون الدولة، سواء كوزير لأبي بكر أو كحاكم فعلي لدولة كبيرة، ولم يتفرّغ للتحديث، وفضلا عن ذلك (وهو الأهم) أنّه وهو في المدينة لمن يحدّث؟ معظم المجتمع من الصحابة الذين سمعوا الرسول صلى الله عليه وسلم، والسنن في المدينة منتشرة في سلوك الناس وأحوالهم لا تغيب.
أما أبو هريرة، فبعد عشرات السنين من وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم، ونشأة أجيال من المتلهّفين لسماع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من غير الصحابة، خصوصا من الأمصار الأخرى؛ بعد ذلك كلّه من الطبيعي جدّا أن تكون هناك حاجة بأنْ يُخبر الصحابي المتأخر هؤلاء بأحاديث النبي وأحواله، فكيف إذا كان قد تخصص لذلك لنحو ثلاث سنوات، وتفرّغَ لسماع الحديث وتتبُّعِ أحوال الرسول صلى الله عليه وسلّم، ورزقَهُ الله حافظةً قويّة؟ هنا يزول أي عجب من كثرة أحاديث أبي هريرة بالمقارنة مع كبار الصحابة رضي الله عنهم أجمعين.والخلاصة أنّ الفترة التي عاشها أبو هريرة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلّم أطول بكثير من كبار الصحابة، مع الحاجة لسماع الحديث للأجيال الجديدة والداخلين الجدد في الإسلام ممن لم يلقوا النبي صلى الله عليه وسلّم، مع تفرّغ الرجل لحفظ الحديث وتوثيقه ثم التحديث به.
في سبيل الطعن بنزاهة أبي هريرة يقصّ هؤلاء قصصا جمعوا بعضها من كتب أشخاص متأخرين عن أبي هريرة بقرون، كابن أبي الحديد المتوفى سنة 656 هـ، وغيره. ومن هذه الروايات التي لا تصح ضرب عمر له بالدرّة، ورواية مضيرة معاوية، ورواية عائشة أنه شغله بطنه عن رسول الله، وغيرها. وهي قصص موضوعة أو واهية ضعيفة على الأكثر ولم يصحّ شيء منها، مما يعفينا من جهد مناقشتها.
والعجيب أنّ هؤلاء الذين يرفضون الحديث النبوي الصحيح المتفق عليه والمروي بالأسانيد الذهبية، يتمسّكون بروايات واهية محكية في كتب التراث ولا يثبت شيءٌ منها فقط لأنها تخدم أغراضهم!
رحم الله أبا هريرة ورضي عنه وجزاه خير الجزاء..
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website