عندما قدم محمد علي باشا إلى مصر وأصبح حاكمًا لها عام 1805، ضمّ السودان إلى أراضي مصر. استمر حكم الأسرة العلوية للسودان مستتبًا حتى عهد الخديوي إسماعيل، ولكن مع إرغامه على التخلي عن العرش وتسلم ابنه الخديوي توفيق الحكم عام 1879م بدأت الاضطرابات في الظهور ليس فقط في الأراضي المصرية، بل السودانية أيضًا، خاصة مع دخول قوات الاحتلال البريطانية إلى مصر.
كان السودان يعاني من وطأة الضرائب التي كانت تضعها الحكومة المصرية على السودانيين، وتمييزها بين الفقراء والأغنياء، والتي كانت تعفيهم عن الكثير من الضرائب، ليس ذلك وحسب، بل واجه الشعب السوداني الأمرّين بمواجهته لعنف وتشريد الحكومة لكل من يعترض وينكر على الحكومة أفعالها، وبهذا تهيّأت الأوضاع لاشتعال الثورة في السودان قبل اشتعالها في مصر، فقبل قيام الثورة العرابية عام 1882م سبقتها الثورة المهدية في السودان، والتي كُلّلت بالنجاح، وكُتب لها أن تحرر أراضيها ولو لحين.
ظهور المهدي وبدء الاقتتال في السودان
قبل ذكر مسببات قيام الثورة المهدية في السودان وأحداثها يحكي نعوم بك شقير في كتابه “تاريخ السودان” أن في تلك الفترة التي بدأت الاضطرابات فيها بالظهور في الداخل المصري والسودان مع اعتلاء الخديوي توفيق العرش، كان هناك أحد مشايخ الطرق الصوفية في السودان، في جزيرة أبا، حيث تتبعه جموعٌ غفيرة من المريدين، وهو ما أذاع صيته في أرجاء السودان، وجعل الكثير من الناس يتوافدون عليه رغبة في الالتحاق بطريقته، واسمه محمد أحمد.
ولما رأى هذا الشيخ أن الكثير من الناس كارهون للأوضاع السياسية ويودون التغيير، لكنهم ينتظرون ظهور المهدي، لينقذهم من الحال التي وصلوا إليها، تجرّأ محمد أحمد بأخذ تلك الدعوى على عاتقه، والادعاء بأنه المهدي المنتظر، خاصة أن الكثير من مريديه ظنوا فيه ذلك، وبذلك أصبح يلقِّب نفسه منذ ذلك الوقت بـ”محمد أحمد المهدي”، وذلك في مارس/آذار 1881م.
أعلن للناس أنَّه المهدي المنتظر، وبدأ يسعى لضم مشايخ الطرق والقبائل تحت لوائه، داعيًا الناس لمبايعته وللجهاد في سبيل الله معه. كما ادّعى أنَّه قابل النبي محمد وقد أخبره أنّه المهدي وقلده سيفًا يهزم به كل أعدائه، وكان المهدي وقتذاك على مشارف الأربعين عامًا.
ولما بلغ حكمدار السودان رؤوف باشا دعوى المهدي، أرسل إليه يدعوه للقدوم إلى الخرطوم، وذلك بعد إجماع العلماء الذين جمعهم الحكمدار على وجوب القبض على المهدي هذا، إلا أن المهدي رد على مبعوث الحكمدار أنه جاهز بمقاتلة الحكومة، وبدأ في استنفار طلابه ومريديه والقبائل المحيطة به بالنفير، وذلك في شهر أغسطس/آب من عام 1881.
انقضّ أتباع المهدي على الجنود مع وصولهم إلى أبا، مقر دعوة المهدي، وقتلوا كثيرًا من الجنود ولم يستطع الهرب إلا قليل، وبذلك نجح المهدي في معركة أبا، وهي أولى المعارك التي خاضها والتي انتشر خبرها في جميع أرجاء السودان، حتى اعتبر الكثير أنها من “كرامات المهدي”.
المهدي يتقدّم.. لوضع أساسات الدولة
ادّعى المهدي أنّ الرسول أمره بالهجرة إلى جبل قدير، فأخبر أتباعه وجهّزوا العتاد وأخذوا أسلحة الجنود المقتولين، وانتقلوا إلى الجبل، ولما بلغ راشد بك مدير تلك المنطقة التي يقع فيها الجبل، استأذن حكمدار السودان رؤوف باشا في الخروج لملاقاة المهدي، فلم يأذن له، فعزم راشد بك على الخروج دون علم رؤوف باشا، واتجه إلى المهدي سرًّا كي يباغته بقوة قوامها 1400 مقاتل.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
إلا أن امرأة رأت قوات راشد بك وأخبرت المهدي، كما يذكر نعوم بك في كتابه عن تاريخ السودان. وقد كان عدد أتباع المهدي في ذلك الوقت قد وصلوا إلى 8 آلاف، فاتجه بهم إلى الغابة.
كانت نتيجة المعركة قتل وأسر الكثير من جند راشد بك، كما قتل راشد بك نفسه، واستحوذ على كمٍّ كبير من الغنائم: مال وسلاح وذخائر، وهو ما زاد من قوّة المهدي وجيشه. ومع انتشار خبر انتصاره مرةً أخرى ذاع صيت المهدي وأخذ الكثير يتوافدون عليه، وادَّعوا أنه يحوِّل الرصاص إلى ماء فلا يتضرر أنصاره.
لما علم رؤوف باشا بأمر معركة المهدي مع راشد بك جهَّز قوة للتوجُّه إلى منطقة فاشودة، وبعث إلى الحكومة المصرية طالبًا المدد، إلا أن الحكومة المصرية كانت مشغولة بالقضاء على الثورة العرابية في ذلك الوقت، فلم يسعها إلا عزل رؤوف باشا، وأوكلت الحكم إلى عبد القادر باشا حلمي، وذلك في مايو/أيار 1882.
في ذلك الوقت تجهَّز جيش تحت قيادة يوسف باشا الشلالي وتوجَّه إلى المهدي، إلا أن المهدي وصلته أخبار قدوم الجيش ففاجأهم بهجومٍ مُباغت، حتّى قُتل الشلالي شخصيًّا، كما جمع جيش الثورة المهدية الكثير من الغنائم.
كانت هذه هي المعركة الثالثة التي تخسرها الحكومة أمام جيش الثورة المهدية، وكان هذا كفيلًا بفقد الحكومة السودانية هيبتها في البلاد. بينما زاد أنصار المهدي الذين زاد عددهم بعد هذه المعركة ليصل إلى حوالي 20 ألفًا، ما جعل المهدي يؤسّس جيشًا نظاميًّا، جعل على رأسه أربعة قادة تشبّهًا بالخلفاء الراشدين الأربعة، وأطلق عليهم لقب “خلفاء”. وكان أولهم عبد الله التعايشي، كما أسس جهازًا قضائيًّا للحكم في المسائل الشرعية المتعلّقة بالغنائم وبيت المال.
سقوط الخرطوم في يد المهدي
مع وصول المهدي إلى هذه المرحلة وانتصاراته المتتالية، اضطرت الحكومة المصرية إلى تغيير سياستها نحو السودان، فأرسلت غوردون باشا الإنجليزي حاكمًا ومفوَّضًا على السودان، والذي أعلن خفض الضرائب وإعفاء جميع الموظفين الأتراك والمصريين واستبدالهم بحكامٍ من أهل البلاد.
في 26 يناير عام 1885، وقبل طلوع الفجر بدأت قوات المهدي في الهجوم على الخرطوم واستطاعت النفاذ داخل المدينة عبر ثغرة، وتوجهوا مباشرة إلى سراي الخرطوم الذي يتواجد به غوردون باشا، ولما لم تستطع الحامية ردعهم، قُتلوهم عن بكرة أبيهم واقتيد غوردون إلى الخارج وقُطع رأسه وأرسلوه إلى المهدي، وبذلك سقطت الخرطوم في يد المهدي، كما روى نعوم بك في كتابه “تاريخ السودان”.
الثورة المهدية في السودان.. تنظيم شئون الدولة ووفاة المهدي
يبدو أنّ دخول المهدي إلى الخرطوم لم يكن نهاية أحلامه، فقد حلم بضمّ مصر والشام واسطنبول ومكة وإخضاع المناطق الإسلامية كلها، وبذلك أخذ يستعد لغزو مصر. بل وأرسل رسالة إلى الخديوي يحثه فيها على اتباعه، وراسل أهل مصر عامة وعلماءهم خاصة يعلمهم أنه يود فتح مصر ويحثهم على اتباعه كما أرسل رسله وقادته إلى أقطار وبلاد العالم الإسلامي.
وبدأ المهدي في تنظيم شؤون مملكته فسكّ العملة باسمه وبدأ في جمع الزكاة، وفي أثناء تنظيمه شؤون مملكته والتجهيز لحملته على مصر؛ أصابت المهدي حُمَّى تعرف في السودان بـ”باب الدم” وهي مرض الالتهاب السحائي الشوكي.
وفي يوم 22 يونيو/حزيران سنة 1885 توفّي المهدي، وتسلم عبد الله التعايشي الحكم وأُعلن خليفةً من بعد، والذي ظل في الحكم حتى عام 1899 إذ قُتل في معركة أم دبيكرات التي قاوم فيها الاحتلال البريطاني؛ وقد انتهى بمقتله وجود الدولة المهدية ودخول السودان في عهد الاحتلال البريطاني.
المصدر: عربي بوست (بتصرّف)