بضربات عسكرية قوية وسريعة ومتلاحقة وخطط ذكية ومحكمة، تمكن القائد قتيبة بن مسلم من دخول أرض الصين والتوغل فيها، حيث أسس قاعدة إسلامية في الشرق لم يصل أحد من المسلمين بعد ذلك إلى أبعد منها.
هو قائد عسكري فذ وشجاع، لفت أنظار قياداته منذ صغر سنه، وبقي يحارب على أسوار الصين 13 عاماً لم يضع فيها السلاح يوماً إلى أن مات مقتولاً في الأروقة السياسية وليس بميدان المعركة؛ لمعارضته الخليفة.
وُلد قتيبة بن مسلم عام 48 هجرية في مدينة البصرة لأسرة من قبيلة باهلة النجدية.
تعلم منذ الصغر القرآن والفقه، إلى جانب الفروسية وفنون الحرب والقتال، فنما بداخله المقاتل الفذ الذي كان يتدافع دفعاً للجهاد في حقبة من الدولة الإسلامية كانت ما تزال تشهد فتوحات.
ولاه الخليفة الأموي عبدالملك بن مروان والياً على منطقة الري، وهي مدينة تاريخية في الجنوب الشرقي لطهران حالياً، ثم ولاه خراسان التي كانت حينذاك تتبع للواء العراق بإمرة الحجاج.
عندما وصل قتيبة إلى خراسان سنة 86 هجرية، قرر أن يستمر بالفتوحات شرقاً ونشر الإسلام، فبقي في خراسان ما يقارب 13 عاماً.
فتح قتيبة المدائن وخوارزم وسجستان، وكذلك سمرقند التي حاصرها طويلاً إلى أن استسلم أهلها بعد قتال شرس في شومان.
سار بعد ذلك نحو بيكند وهي آخر مدن بخارى، حيث جند “عيوناً” أو جواسيس؛ لمساعدته على الاطلاع على بواطن الأمور.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
فتح مدناً على أطراف بلاد الصين وفرض عليها الجزية، إلى أن أذعنت له بلاد ما وراء النهر أو ما يسمى آسيا الوسطى مثل أوزبكستان وكازاخستان وقيرغستان وصولاً إلى أسوار الصين.
كان المهلب بن أبي صفرة والي خراسان قبل أن يصبح قتيبة ولياً عليها، وهو الذي اختاره الحجاج بضخ دماء جديدة على الجبهة الشرقية.
اعتمد قتيبة أسلوب المهلب نفسه بالضربات السريعة والمتلاحقة للعدو، والتي لا تترك له مجالاً لاستجماع قواه واستدراك ما يحدث والرد على جيش المسلمين.
إلا أنّه تميز عن المهلب بأنه كان يضع خطة ثابتة ذات هدف محدد، ثم يوجه هجومه بكل ما أوتي به من قوة.
خطط قتيبة بن مسلم
تم توسع قتيبة بناء على خطة محكمة ومراحل تكتيكية، ثبّت من خلالها أقدام الدولة الأموية.
في المرحلة الأولى، استعاد طخارستان (جزء من أفغانستان وباكستان).
وفي المرحلة الثانية فتح بخارى وما حولها، علماً أنها كانت أهم مدن بلاد ما وراء النهر.
وفي المرحلة الثالثة، التي استمرت نحو عامين، عزز وجوده في وادي نهر جيجون وفتح إقليم سجستان وخوارزم وصولاً إلى مدينة سمرقند.
وأخيراً، أكمل فتح حوض نهر سيجون وصولاً إلى مدينة كاشغر الصينية، وهي أبعد نقطة وصلت إليها الجيوش الإسلامية.
خلاف مع الحاكم الجديد يطيح برأسه
عندما مات الخليفة الوليد بن عبد الملك بعد عام من وفاة الحجاج، تولى الحكم أخوه سليمان بن عبدالملك، الذي لم يكن على وفاق مع الحجاج أو قتيبة.
خشي قتيبة من انتقام الحاكم الجديد، لأنه ساند الوليد بن عبدالملك، حين أراد أن يخلع أخاه سليمان من ولاية العهد ويعطيها لابنه.
عندها عزم قتيبة على مواجهة سليمان، فأرسل إليه 3 خطابات:
الأول كتاب تهنئة بالخلافة وتذكير بولائه وطاعته لعبدالملك والوليد، وأنه على مثل ذلك إن لم يعزله عن خراسان.
والثاني يعلمه فيه بفتوحاته وإنجازاته وقيمته الرفيعة لدى ملوك العجم وهيبته، وهاجم في الكتاب أهل المهلب، مستحلفاً بخلع سليمان لو أمر بولاية يزيد بن المهلب على خراسان.
أما الكتاب الثالث، ففيه قرار خلع سليمان نفسه.
أرسل قتيبة الكتب مع رجل يثق به، وطلب منه رفع الكتاب الأول إلى سليمان، فإن كان يزيد بن المهلب حاضراً فقرأ الخليفة وألقاه إلى يزيد فيدفع إليه الثاني، فإن قرأه وألقاه إليه فيدفع إليه الثالث، وإن قرأ الكتاب الأول ولم يدفعه إلى يزيد، طلب من رسوله أن يحبس الكتابين الآخرين.
ثم قدم رسول قتيبة على سليمان بن عبدالملك ودفع الكتاب إليه فقرأه وألقاه إلى يزيد، فدفع إليه الثاني فقرأه وألقاه إلى يزيد، فدفع إليه الثالث فلما قرأه تغير لونه وختمه وأمسكه بيده، فأمر سليمان أن يحضر رسول قتيبة ليلاً وأعطاه عهد قتيبة بخراسان.
لكن قتيبة تسرع في خلع سليمان، فجمع عدداً من الرجال وأهل بيته لكنه فشل في انقلابه، فانتهى به الأمر مقتولاً سنة (96 هـ أو 715م) بسهم طائش من عملاء سليمان بن عبدالملك، ثم قُطع رأسه وأُرسل إلى سليمان، وهو بعمر 48 عاماً فقط.
إرثه حتى هذه اللحظة
وبوفاة هذا القائد العسكري الفذ، انتهى المد الإسلامي شرقاً وبقيت خططه العسكرية الجريئة وشجاعته في الميدان إرثه الحقيقي والحد الأبعد لما وصل إليه الإسلام في أقصى المشرق.
لعب قتيبة دوراً محورياً في أحد أكثر الميادين الحربية شراسة، وبفضله، تدين العديد من الدول بالإسلام، والتي تحولت لجمهوريات إسلامية انشقت عن الاتحاد السوفييتي بعد قرون عدة.
على الرغم من أن قتيبة نفسه كان مهتماً في المقام الأول بالإدارة العسكرية للأراضي المكتسبة حديثاً، فإن خلفاءه حققوا في نهاية المطاف اعتناق الشعوب البوذية في تلك المناطق الإسلام، وأصبحت مدينتا سمرقند وبخارى مراكز رئيسية لنشر الثقافة الإسلامية والعلم في آسيا الوسطى.
دُفن قتيبة في وادي فرغانة شرق أوزبكستان بالقرب من مدينة أنديجان، وما زال ضريحه قائماً حتى اللحظة، ولعل من أجمل ما قيل في رثائه ما قاله ابن زيني دحلان في كتابه “الفتوحات الإسلامية”: “قتلتم قتيبة! والله لو كان منا فمات لجعلناه في تابوت فكنا نستسقي به ونستفتح به”.