ليس واضحًا لدينا أسبابُ وتأريخ الانقسام بين المذهبين الرئيسين في الإسلام؛ السُنّة والشيعة، بشأن إعلان هلال شهر رمضان وعيد الفطر، وسائر مفاصل التقويم الهجري، أو ما يُعرف بـ”الأهلة والمواقيت”. ففي أغلب الأحيان، ثمة فارق يوم واحد بين الهلالين؛ هلالُ الشيعة لا يظهر في اليوم نفسه الذي يظهر فيه هلال السُنّة، وهما لا يتطابقان. وفي العادة، يتأخر هلالُ الشيعة يومًا واحدًا عن هلال السُنّة، ومن ثم، يتأخر رمضانُ الشيعة وعيدهم وعاشوراؤهم يومًا واحدًا عن رمضان السُنّة وعيدهم وعاشورائهم.
ليس واضحًا لدينا هل يرجع هذا الانقسام إلى العصور الإسلامية المبكرة، أم أنه خاص بالعصر الحديث، لاسيما في العراق، حيث مركز المؤسسة الدينية الشيعية، وحيث الدولة (دولة ما قبل 2003) هي سُنّية المذهب، كان مَن يعلن رؤية الهلال فيها هو مفتي الديار العراقية والقاضي الشرعي الأول، وهما منصبان دينيان سُنّيان رسميان.
يبدو الأمرُ خارج المنطق والعقل، ولا يمكن فهمه بسهولة. فأنا لا أفهم كيف أن الهلال، الذي رآه الملايين، وربما عشرات الملايين، من المسلمين السُنّة، عبر عشرات، وربما مئات السنين، وفي رقعة جغرافية واسعة جدًا، لم يره أيُّ شيعي.
وإذا كان الأمر لا يصدر عن اختلافات في الفقه وأصوله، فإنه يصدر عن شيء أبعد.. السياسة، بكل تأكيد. وأضف إليها الحقد الشيعي الدفين الذي خرج إلى العلن في هذا الموضوع بحيث قال أحد علمائهم “خالف السنة ولو كانوا على حق”.
وفي العراق، احتكرت الدولة (السُنّية) رسمَ الفضاء الرمزي للدولة، ومنه الأهلة والمواقيت. ولذلك، كان اختلاف المؤسسة الدينية الشيعية في تثبيت الهلال جزءا من “التمييز الرمزي” للجماعة الشيعية. وبالأحرى، كان هذا تعبيرًا عن رفض الاندماج بالدولة، ليس انطلاقًا من فلسفة سياسية فوضوية يعتنقها الشيعة، بل لأن الصراع على الدولة انتهى لغير مصلحتهم.
وهكذا، وكما حرّم فقهاءُ الشيعة على أبناء الطائفة العملَ في الوظائف العامة، كان عليهم أن يعلنوا أن رمضان الشيعة وأعيادهم تختلف عن رمضان الدولة وأعيادها. الجماعةُ الشيعية ليست شريكة في السلطة، ولكن، لها وضعها الخاص؛ رموزها، وحدودها، ومنطقها الخاص.
كان هذا أمرًا مهمًّا لعلماء الشيعة. في التسعينيات، أفتى السيد محمد الصدر بوجوب تأدية زيارة 15 شعبان (ذكرى مولد الإمام المهدي في الرواية الشيعية التي يقيم الشيعةُ لها طقوسًا ضخمة في كربلاء)، وهي ليست واجبة. ثم عاد ليلغي هذا الإلزام قبل يومين من الزيارة. كان هذا مجالًا لاختبار (وبناء) أخلاق الطاعة لدى المجتمع الشيعي.
وبالتدريج، أصبح الاختلافُ في إعلان هلال رمضان والأعياد تقليدًا يميز المؤسسةَ الدينية الشيعية، لم ينته حتى بعد 2003، حين صعد الشيعة إلى الحكم، إذ أصبح الانقسام مكرسًا، بشكل رسمي.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
وفي العمق، كان الاختلاف في الأهلة والمواقيت الشرعية يذهب أبعدَ من كونه “تعبيرًا رمزيًّا”. إنه جزء من فشل عملية بناء الأمة، ومن سيرورة، كانت تعيد بناء تضامنات عابرة للحدود، تجمع شيعة العراق بشيعة العالم، وتفرقهم عن أبناء مواطنتهم، العراقيين المسلمين السُنّة.
في الخلاصة، الشيعة بحاجة إلى كثير من الأمور لتصحيح نهجهم، ولكن في هذا المجال هم بحاجة لقادة استثنائيين، يرون مصلحةَ المذهب وأبنائه في التعايش الآمن مع أبناء المذاهب الأخرى، لا بجعلهم جنودًا دائمين، على أهبة الاستعداد أبدًا، لمواجهة شريكهم في الأرض، والتأريخ، والمصير.