جرت عادة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان أن يصلِّي في جامع أيوب سلطان (مسجد أبو أيوب الأنصاري) في الأحداث الكبرى، أو بعد فوزه في الانتخابات. ولهذا المسجد رمزية خاصّة في التاريخ التركي، وحتّى لدى بعض الأتراك هذه الأيّام، وقد صلّى فيه أردوغان صلاة الجمعة قبل إعلان اكتشاف تركيا حقل غاز في البحر الأسود.
فمن هو أبو أيوب الأنصاري، وما قصّة وصوله إسطنبول، واعتباره في التاريخ رمزاً للحكم العثماني.
الغازي.. أبو أيوب الأنصاري
هو خالد بن زيد بن كليب أبو أيّوب الأنصاري، صحابي من بني النجار من الخزرج. وقد استضاف النبي محمد في بيته عندما قدم إلى يثرب (المدينة) مهاجراً، وأقام عنده حتى بنى المسجد النبوي، وآخى بينه وبين الصحابيّ مصعب بن عمير.
وعُرف عن أبي أيوب أنّه عاش حياته كلها غازياً، فهو لم يتخلّف عن غزوةٍ غزاها المسلمون في عهد النبي، وكذلك بعد وفاته، وبقي يقاتل حتى وهو طاعنٌ في السن، يزيد عن الثمانين، فقد كانت آخر غزواته حين جهّز معاوية بن أبي سفيان جيشاً لفتح القسطنطينية بقيادة ابنه يزيد، عام 668-670.
وعلى الرغم من سن أبي أيوب الأنصاري، إلا أنه أصرّ على المشاركة في هذه الغزوة التي سيتحمَّل فيها عناء القتال والسَّفر مسافاتٍ طويلة، كما أنه أراد أن يشهد “فتح القسطنطينية” التي ورد فيها خبر عن النبي: “لتفتحنّ القسطنطينية فلنعم الأمير أميرها ولنعم الجيش ذلك الجيش”.
لذلك طلب أبو أيوب المشاركة في جيش يزيد بن معاوية، وعندما اقترب جيش المسلمين من القسطنطينية، مرض أبو أيوب ولم يستطع مواصلة السير والقتال.
وبحسب كتاب “تاريخ الدولة الأموية” للمؤلفة إيناس البهيجي، فإن يزيد جاءه وسأله: ألكَ من حاجة يا أبا أيوب؟ فقال: إذا مت فاحمِلوني، فإذا صافقتم العدو فارموني تحت أقدامكم. أي أنه يريد أن يحمله الجنود إلى أبعد مدى يصلون إليه في غزوتهم تلك، ويدفنونه عند مكان القتال.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
ولم يُجمع المؤرخون على السنة التي توفِّي فيها أبو أيوب بالتحديد، فمنهم من قال إنه توفي عام 670، أثناء حصار القسطنطينية، ومنهم من قال إنه تُوفي عام 672، كما كان الاختلاف أيضاً على عمره حين توفي، وتقول الكثير من الروايات إنه توفي عن سنّ 97 عاماً، ولكن بغض النظر عن سنّه بالتحديد، فقد كان كبيراً في السن ودُفن بالقرب من أسوار القسطنطينية.
مسجد أبو أيوب الأنصاري رمز للحكم العثماني
لم يستطع المسلمون فتح القسطنطينية إلا بعد حوالي 785 عاماً من هذه الغزوة، على يد السلطان العثماني محمد الفاتح، يوم 29 مايو/أيار 1453، ومن هنا بدأت قصة أبي أيوب الأنصاري مع العثمانيين، الذي يحترمونه ويُرجع إليه بعضهم الفضل في إصرار أجدادهم العثمانيين على فتح إسطنبول. فهو الصحابي الوحيد الذي دفن أثناء قتاله على أسوار المدينة.
كان العثمانيون يعلمون قصّة مجيء أبي أيوب الغازي، ورغبته المُلحَّة في المشاركة بالغزو وفتح القسطنطينية رغم كبر سنه ومرضه، الأمر الذي بث فيهم روح الحماس والقتال، واتخذوه مثالاً.
وفي أثناء محاصرتهم للمدينة عام 1453 بقيادة محمد الفاتح، اكتشف الشيخ آق شمس الدين، مُعلِّم محمد الفاتح ومربِّيه الذي يعتبره الأتراك الفاتح المعنوي للقسطنطينية، القبر المفقود منذ قرون للصحابي الجليل أبي أيوب الأنصاري عند أسوار القسطنطينية قبل حصارها.
وبحسب بعض الروايات، فإنّ الشيخ آق شمس قد جمع الجيش العثماني قبل حصار المدينة، وأخبرهم بأن أبا أيوب جاءه في المنام، وأخبره عن مكان قبره عند أسوار المدينة.
ولذلك فإنّ أول عملٍ قام به السلطان العثماني محمد الفاتح هو تحديد موقع ضريح هذا الصحابيّ عندما فتح المدينة، وبالفعل وجد القبر، ومكتوبٌ بجانبه “قبر أبي أيوب الأنصاري”، ثم بنى له مسجد “أيوب سلطان”، وهو أول مسجد بُني في إسطنبول عام 1458، بعد خمس سنوات من فتح المدينة، بالقرب من قبر أبي أيوب، حيث مبناه مستقل تماماً عن مبنى المُصلَّى.
ومن هنا اكتسب أبو أيوب الأنصاري مكانةً عظيمة في الثقافة العثمانية، فقد درج السلاطين العثمانيون في يوم تربعهم على عرش السلطنة أن يقيموا حفلاً دينياً رئيسياً في مسجد أبي أيوب، حيث يتقلّد السلطان سيفاً يرمز إلى السلطة التي وُليت إليه.
ونذكر هنا ما يحدثنا عنه المؤرخ التركي مراد دومان في كتابه “ذكريات السلطان عبدالحميد الثاني”، في جزئية مراسم تقلده السيف عام 1876، حيث كانت مراسم مهيبة وضخمة جداً. فقد اصطف الناس بأعدادٍ غفيرة من منطقة “بشكتاش”، المطلة على ساحل البوسفور، إلى مسجد أيوب سلطان على القرن الذهبي المتفرِّع عن مضيق البسفور، ثم قام بزيارة ضريح الصحابي، وهناك تم تقليده سيف عمر بن الخطاب، أمام قبر أبي أيوب.
ويقول تاريخ هذا المسجد إنّه كان يضمّ كلية يأتيها الطلاب من أماكن بعيدة، وكانت الكلية توفِّر لهم المأكل والمسكن إلى جانب الدراسة بالطبع.
ويضم المسجد مطعماً للفقراء، وحماماً تركياً، وازدهر من حوله المعمار، ونشطت التجارة، وقد تعرَّض المسجد إلى الدمار بسبب زلزالٍ وقع في نهاية القرن الثامن عشر، وفي عام 1798 أمر السلطان سليم الثالث بهدم كل المباني عدا المئذنتين، وإعادة بنائها، وتم الانتهاء من العمل فيه عام 1800، ثم أعيد بناء المئذنة الشرقية على النمط الأصلي من قبل السلطان محمود الثاني في عام 1822.
مكانة أبي أيوب الأنصاري عند الأتراك اليوم
لأبي أيوب الأنصاري مكانة كبيرة عند الأتراك المسلمين اليوم، كونه كان مُضيف النبي محمد بعدما هاجر إلى المدينة، وكونه يمثل رمزاً للجهاد والغزو، وحاملاً للواء جيش النبي، كما يشكِّل وجود ضريحه في تركيا قيمةً وجدانيةً كبيرة لدى الأتراك؛ نظراً لقلة أعداد الصحابة الذين دفنوا في مدينة إسطنبول، خلافاً لأضرحة الصحابة المنتشرة في بلاد الحجاز والشام ومصر.
ويعتبر المسجد رابع الأماكن الإسلامية المقدسة لدى الأتراك، يأتي في مقامه بعد مكة المكرمة والمدينة المنورة والقدس الشريف. ويتدافع عدد كبير من المصلين إلى المسجد، خاصة أيام الجمعة، لأداء الصلاة، كما يتوافد إليه السياح المسلمون في كل عام، ليصطفوا ويشاهدوا ضريح أبي أيوب الأنصاري.
وتتوسَّط الفناء الداخلي وبشكلٍ يحاذي المبنى الذي يحتضن الضريح، ساحة مستطيلة الشكل، محاطة بسياجٍ حديديٍّ تمتدُّ داخل الساحة شجرة عملاقة عتيقة، يقال إنها موجودة منذ وفاة أبي أيوب الأنصاري، وعلى كل زاوية من السياج سبيل يشرب منه الزائرون، ويعتقدون أن هذه المياه مباركة، يقصدونها ليطلبوا من الله أن يحقق أمنياتهم.
وفي جوار المسجد تنتشر قبور بعض السلاطين وكبار رجال الدولة العثمانية ونسائهم الذين كانوا يوصون قبل مماتهم بدفنهم بجوار المقام، كما تنتشر أسماء الصالحين على شواهد قبورهم في المقابر القريبة من الجامع.
وخلال السنوات الأخيرة، اتخذ مرقد “أبي أيوب الأنصاري أهمية كبيرة على الصعيد الرسمي والشعبي، بعدما عملت الحكومة التركية على إعادة افتتاحه، في يونيو/ حزيران 2015، بعد الانتهاء من أعمال الترميم التي بدأت في أبريل/نيسان 2011.
وجرت العادة بأن يقوم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، بزيارة ضريح الصحابي الجليل، بعد كل انتخاباتٍ يشارك فيها، بمشاركة العديد من النخب السياسية الحاكمة، أو عند إعلانه خبراً كبيراً، أو عند حدوث مناسبة أو ذكرى كبيرة. وأشهر تلك الزيارات كانت بعد الليلة الأولى من المحاولة الانقلابية الفاشلة عام 2016.