إنه عنبسة بن سحيم الكلبي، أمير الأندلس، وأحد القادة الغزاة الاستشهاديين في فرنسا، والذي يشبهه بعض المؤرخين، بالقائد الخالد عقبة بن نافع، بطل فتح المغرب العربي الكبير. فماذا تعرفون عن هذا البطل وعن فتوحاته في فرنسا؟ وإلى أين وصل؟ وكيف كانت نهايته؟ حسن. إليكم حكايته باختصار.
تولي عنبسة، ولاية الأندلس، بعد استشهاد السمح بن مالك الخولاني، في معركة طولوشة (تولوز)، والتي وقعت في يوم عرفة 102هـ/10 يونيو721، بتعيين أبن عمه بشر بن صفوان الكلبي، أمير أفريقية (102-109هـ)، للخليفة يزيد بن عبد الملك (101-105هـ)، وكان هذا الخليفة، قد أعاد تبعية الأندلس لأفريقية، ولم يقر التعديل الذي أجراه سلفه الخليفة عمر بن عبد العزيز، بفصلها عنها، وجعلها ولاية مستقلة بذاتها. وكان وصول عنبسة، إلى مركز عمله في قرطبة، في صفر 103ه/ يوليو721، أي بعد حوالي ثلاثة أشهر فقط، من استشهاد الوالي السابق.
كان عنبسة، على غرار السمح، كفاءة، وقدرة، من الناحيتين العسكرية والإدارية، وورعا، وصلاحا، وأمانة على الدولة الإسلامية، وأهلها، وشغفا بالجهاد، وحرصا على مواصلة الفتوحات لنشر الإسلام، وتوسيع رقعته، وكان من الولاة الشجعان، والقادة البارزين، الذين عرفتهم الأندلس في عصر الولاة (95–138هـ)، وكانت ولايته عليها أربع سنوات ونصف، أنفق منها ما يقارب الثلاث سنوات، في إعادة الأمن إلى الأندلس، وتنظيم الإدارة، وإصلاح الجيش، وإعداد العدة للجهاد، وراء جبال البرت، فاستقام الحال في الأندلس، وضبط أمورها أتم ضبط. وفي أواخر سنة 105هـ/مطلع سنة 724م، تحرك عنبسة على رأس جمع كثير من مسلمي الأندلس، وكانوا “يومئذ خيار فضلاء، أهل نية في الجهاد، وحسبة في الثواب”، كما قال ابن عذاري، وعبر بهم عنبسة، جبال البرتات، من المعبر الشرقي، وهو نفس المعبر الذي سلكه السمح وجيشه، من قبله، وأفضى إلى مقاطعة سبتمانيا، في جنوب شرقي فرنسا، وبدأ نشاطه فيها، بتفقد أحوال المسلمين، في ثغر نربونة.
وبعد ذلك قصد عنبسة استعادة القواعد، التي خرجت عن طاعة المسلمين، بعد هزيمتهم في طولوشة، وتأديب العصاة الخارجين بها على سلطان المسلمين، وعلى رأسها مدينة قرقشونة، في الشمال الغربي من نربونة، ومدينة نيمة، في شمالها الشرقي. فبدأ جهده العسكري، بحصار قرقشونة، هذه الأخيرة التي قاومت الحصار، وكانت مدينة حصينة جدا، ولذلك تطلق عليها المصادر العربية اسم “قلعة قرقشونة”، ولكن عنبسة ألح في حصارها، وتضييق الخناق على من كان بها من مقاتلة القوط، حتى أجبرهم على الاستسلام، والقبول بشروط الصلح التي اشترطها عليهم، وهي:
1. إطلاق الأسرى المسلمين الذين احتجزوهم في قلعة المدينة، بعد هزيمة المسلمين في طولوشة.
2. النزول عن البلد، ودفع حاصل نصف الأراضي الزراعية المحيطة به للمسلمين.
3. أن يعطوا الجزية للمسلمين، مقابل حمايتهم، وتمتيعهم بحقوقهم، وعدم المساس بكنائسهم.
4. أن يلتزموا بمناصرة المسلمين، والوقوف معهم ضد العدو المشترك (الفرنجة).
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
وبعد ذلك، عمل عنبسة على فرض الأمن في هذه المدينة، ورتب أمر حاميتها، وجعلها قاعدة ثانية للمسلمين في فرنسا، وذلك للتصدي لأي هجوم قد يستهدف نربونة، من ناحية طولوشة، في الشمال الغربي. وبعد ذلك استأنف عنبسة التحرك، فأنعطف شرقا، على رأس كتائبه الخفيفة والسريعة الحركة، لإعادة افتتاح نيمة، فافتتحها، من دون مقاومة تذكر، لأن أهلها كانوا قد فهموا الدرس، وأخذ عنبسة عددا من أبناء زعمائها رهائن، وأرسلهم إلى برشلونة، في شمال شرقي الأندلس، والتي كان المسلمون قد اتخذوها حصنا، ومركزا للغزو، وراء جبال البرتات، وذلك لضمان طاعة أولئك الزعماء، وعدم تمردهم، على السيادة الإسلامية، مستقبلا.
ثم بعد ذلك تابع عنبسة زحفه شرقا، باتجاه نهر الرون، الذي أطلق عليه العرب “رودنة” أو ردانة، وهو (رودنو عند الأدريسي)، حتى بلغ مدينة آرل الواقعة عند مصب هذا النهر، وفتح مقاطعة بروفانس الواقعة في الزاوية الجنوبية الشرقية، من فرنسا، مما أتاح له حرية التحرك شمالا، وهو آمن، فصعد على طول مجرى نهر الرون، فافتتح أفينيون، واستمر في التقدم، حتى بلغ مدينة لوذون (ليون)، في النصف الشرقي من فرنسا، فافتتحها، بدون مقاومة تذكر، ثم انحرف باتجاه الغرب، وعبر نهر الساؤون، حتى أدرك مدينة أوتون، الواقعة في وسط فرنسا، وذلك في أغسطس 725م/ ربيع 107هـ. ومن أوتون، بث عنبسة السرايا في مختلف الاتجاهات، فتمكنت تلك السرايا، من الوصول إلى لوكسيل، وفيين، وماكون، وشالون، وبون، وديجون، وغيرها، من مدن وسط شرقي فرنسا.
يشير بعض المؤرخين إلى أن عنبسة، تغلغل شمالا حتى وصل إلى مدينة صانص، الواقعة على مسافة 30 ميلا، شرقي باريس، وهي أبعد مسافة، وصل إليها قائد مسلم في أوروبا. وبعد أن فرض عنبسة الجزية على هذه المدن، أنسحب راجعا إلى قواعد المسلمين في الجنوب، بعد أن داهمه فصل الشتاء. وبفضل هذه الانتصارات المذهلة، التي حققها عنسبة، والتي لم تستغرق سوى القليل من الوقت، بسط المسلمون سلطانهم على نهر الرون، وعلى جنوب شرقي فرنسا، حتى وسطها، وتخطوا نهر اللوار، وأصبحوا على مسافة قريبة من نهر السين. وقد أدت هذه الغزوة البعيدة المدى، والضربات المدوية، إلى بث الرعب الشامل، في مملكة الفرنجة، وفي الدوقيات الجنوبية والوسطى، من فرنسا.
بيد أن فتوحات عنبسة هذه، لم تكن فتوحات ثابتة، ومستدامة، لذلك لم تستمر طويلا، إذ سرعان ما خسر المسلمون كل تلك المدن التي افتتحها في شرقي فرنسا، وذلك نظرا لقلة العامل البشري لديهم، ونقص التعزيزات القادمة من الأندلس. ذلك أن عنبسة حين عودته المظفرة إلى الجنوب، مع حلول فصل الشتاء، ونزول المطر والثلوج، وبعد أن قطع تلك المسافة الطويلة، داهمته، قبل أن يجتمع إليه جيشه، جموع كبيرة من الفرنج، وقطعت عليه خط رجعته، وهو يعبر أحد الأنهار، فاشتبك معها بمن كان في رفقته من جنود، في معركة طاحنة، جرت في مكان غير معروف، وهناك رأي بأنها وقعت عند بلدة طرسكونة، الواقعة على نهر الرون بين مدينتي أفينيون وآرل، حيث دار القتال، في ظروف بيئية، وطبيعية، سيئة جدا، فالطقس المثلج، والجو المطير، والتربة الموحلة، أعاقت من حرية حركة المقاتلين المسلمين، وشلت قدرتهم على المناورة، فاستأصلتهم سيوف العصابات الفرنجية، وحرابها، وسهامها، وانتهت هذه المعركة، باستشهاد عنبسة، وكثير من أصحابه، وذلك في شعبان سنة 107هـ/ كانون أول 725م، فكانت نهايته، بالتالي، على غرار نهاية سلفه (السمح)، فأضعف قتله معنويات المسلمين، فأضطر باقي الجيش، للعودة، إلى قواعده في سبتمانيا، وبخاصة قاعدة نربونة الحصينة. ولم يخسر المسلمون شيئا من قواعد سبتمانيا، بعد استشهاد عنبسة. وكان الذي تولى قيادة الجيش في طريق العودة، هو عذرة بن عبد الله الفهري، الذي تطلق عليه الحوليات الكنسية، “حدرة” أو “حوديرة”، ويكون عذرة بذلك، قد قام بنفس الدور الذي قام به الغافقي، بعد هزيمة السمح، ومقتله في معركة طولوشة.
أما لماذا لم يتوجه عنبسة إلى طولوشة ويفتتحها، ويأخذ بثأر سلفة (السمح)، من الدوق أودو، ثم يواصل الفتوح في مقاطعة أقطانية، بعد أن أعاد افتتاح قرقشونة، القريبة من طولوشة، بدلا من أن ينعطف نحو الشرق، ويتجه نحو نيمة، ثم نهر الرون؟ فسبب ذلك غير معروف، لأن المصادر العربية والفرنجية سكتت عن ذلك، لكننا لا نعتقد أن ذلك كان خوفا من مواجهة غير مأمونة العواقب مع الدوق أودو، كما ذكر بعض المؤرخين المعاصرين، إنما لأن الدوق أودو، كان قد هادن المسلمين، خوفا من أن يهاجموه مرة أخرى، ونأى بنفسه عن الانغماس في حرب معهم، بعد أن جرّب قوتهم في معركة طولوشة، لاسيما وأنه كان يخشى -وهذا هو السبب الأهم- اجتياح خصمه القوي شارل، حاجب قصر مملكة الفرنجة، لدوقيته، والتي يسيل لعابه عليها، ولذلك، فقد سمح الدوق أدو للمسلمين، بحرية التحرك، في مقاطعات جنوب شرقي فرنسا، التي لا تخضع لسيادته.
وقد يكون هذا هو السبب الأكثر قبولا من الناحية المنطقية، ولولا ذلك، ما كان لعنبسة أن يترك هذا الدوق ينعم بالهدوء، وهو على أطراف بلاده، وينحرف باتجاه الشرق، بدلا من ذلك، لاسيما، وأن الدوق أودو هذا، لم يسر لمهاجمة المسلمين، عند توغلهم شمالا، في حوض نهر الرون، ولم تصدر منه أية حركة ضدهم، ولاسيما أيضا، أن بعض الحوليات الكنسية، التي كانت خاضعة لسلطان شارل، في الشمال، تنسب إلى الدوق أودو هذا القيام باستدعاء المسلمين لغزو بلاد الغال، والتعاون معهم ضد عدوه اللدود، شارل، رئيس بلاط الدولة الفرنجية.
المصدر: الجزيرة نت