عاشت الأمة في ظلال دولة الخلافة الراشدة تستمد سياساتها من النبع الصافي الكتاب والسنة وكانت الأمة تمارس حقها في اختيار خليفتها دون افتئات على هذا الحق من الخلفاء والزعماء وقد بين هذا الحق بوضوح الخليفة الراشد عمر بن الخطاب حين قال فمن بايع رجلا على غير مشورة من المسلمين فلا يتابع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا (صحيح البخارى- باب: رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت- 8/168- رقم: 6830).
لكن مع انتهاء عصر الخلافة الراشدة ومجيء فترة الملك العضوض تغير الأمر وأراد معاوية إجبار الناس على بيعة ابنه يزيد ووقف خطيبا في أهل المدينة قائلا: من كان يريد أن يتكلم في هذا الأمر فليطلع لنا قرنه، فلنحن أحق به منه ومن أبيه، قال حبيب بن مسلمة فقلت لعبد الله بن عمر: فهلا أجبته؟ قال عبد الله: فحللت حبوتي، وهممت أن أقول: أحق بهذا الأمر منك من قاتلك وأباك على الإسلام، فخشيت أن أقول كلمة تفرق بين الجمع، وتسفك الدم، ويحمل عني غير ذلك، فذكرت ما أعد الله في الجنان، قال حبيب: حفظت وعصمت (صحيح البخاري، باب غزوة الخندق وهي الأحزاب، 5/110، رقم: 4108). واعترض على هذه البيعة خمسة من كبار الصحابة وهم: الحسين بن علي، وعبد الرحمن بن أبي بكر، وعبد الله بن العباس، وعبد الله بن عمر، وعبد الله بن الزبير جميعا. وحاول معاوية أن يقنعهم ببيعة يزيد فأبوا أن يبايعوا ورأوا أن هذا مخالف لمنهج الرسول صلى الله عليه وسلم في الحكم.
وكان من أشدهم موقفا في هذه المعارضة عبد الرحمن بن أبي بكر فحين طلب مروان بن الحكم البيعة من أهل المدينة قبل مجيء معاوية إليها قام فيهم خطيبا وكان أمير المدينة وقتها فحض الناس على الطاعة وحذرهم الفتنة ودعاهم إلى بيعة يزيد، وقال مروان سنة أبي بكر الراشدة المهدية واستدل على ذلك بولاية العهد من أبي بكر لعمر، فرد عليه عبد الرحمن بن أبي بكر ونفى أن تكون هناك مشابهة بين هذه البيعة وبيعة أبي بكر وقال قد ترك أبو بكر الأهل والعشيرة وعمد إلى رجل من بني عدي بن كعب إذ رأى أنه لذلك أهل فبايعه ثم قال هذه البيعة شبيهة ببيعة هرقل وكسرى ثم حدث بينه وبين مروان نزاع وجاء في رواية أن عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق قال يا معشر بني أمية اختاروا منها بين ثلاثة بين سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم أو سنة أبي بكر أو سنة عمر ألا وإنما أردتم أن تجعلوها قيصرية كلما مات قيصر كان قيصر، فقال مروان: خذوه، فدخل بيت عائشة، فلم يقدروا عليه، فقال مروان: إن هذا الذي أنزل الله فيه: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي (الاحقاف: 17)، فقالت عائشة رضى الله عنه من وراء الحجاب: ما أنزل الله فينا من القرآن إلا أن الله أنزل عذري (صحيح البخاري، كتاب: تفسير القرآن، باب: وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ، 6/133، رقم: 4827).
ثم مات عبد الرحمن قبل معاوية ولم يشهد الأحداث بعد ذلك، وبايع ابن عمر وابن عباس يزيد بالخلافة حين بايعه الناس، وبقى معارضا الحسين بن على وعبد الله بن الزبير ومن على رأيهم. والحقيقة لولا موقف الحسين ومن معه من فريق المعارضة، لأصبح الجور والظلم له مرجعية شرعية باتفاق الأمة على بيعة يزيد قهرا. فخروج الحسين إلى الكوفة هو خطأ من الناحية التكتيكية ولم يكن خطأ شرعيا كما وصفه بذلك بعض فقهاء مرحلة الملك العضوض فحين هم الحسين بالخروج لم ينهه كبار الصحابة في وقته عن فكرة الخروج كما يشاع وإنما نهوه فقط عن الخروج للكوفة وها هي بعض الوصايا التي نصحه بها كبار الصحابة والتابعين.
فلقد قال له أخوه محمد بن الحنفية تَنَحّ ببيعتك عن يزيد بن معاوية وعن الأمصار ما استطعت، ثم أبعث رسُلَك إلى الناس فادعهم إلى نفسك، فإن بايعوا لك حمدنا الله على ذلك، وإن أجمع الناس على غيرك لم ينقص الله بذلك دينك ولا عقلك، ويذهب به مروءتك ولا فضلك أني أخاف أن تدخل مصراً من هذه الأمصار وتأتي جماعة من الناس فيختلفون بينهم، فمنهم طائفة معك، وأخرى عليك فيقتلون فتكون لأول الأسنة (انظر انساب الاشراف للبلاذرى 4/15-16). وقال له عبد الله بن العباس شيخ آل هاشم في وقته “أخبرني إن كان دعوك بعد ما قتلوا أميرهم، ونفوا عدوّهم، وضبطوا بلادهم، فسر إليهم، وإن كان أميرهم حيّا، وهو مقيم عليهم، قاهر لهم، وعماله تجبي بلادهم، فإنّهم إنما دعوك للفتنة والقتال، ولا آمن عليك أن يستفزّوا عليك النّاس، ويقلبوا قلوبهم عليك، فيكون الذي دعوك أشد النّاس عليك.
وزاد فقال له من الغد: يا ابن عمّ، إنّي أتصبّر ولا أصبر، وإنّي أتخوّف عليك في هذا الوجه الهلاك، إنّ أهل العراق قوم غدر! فلا تغترنّ بهم، أقم في هذا البلد حتى ينفي أهل العراق عدوّهم ثمّ أقدم عليهم، وإلاّ فسر إلى اليمن فإنّ به حصوناً وشعاباً، ولأبيك به شيعة، وكن عن الناس بمعزل، واكتب إليهم وبث دعاتك فيهم، فإني أرجو إذا فعلت ذلك أن يكون ما تحب.. فإن كنت ولا بدّ سائراً، فلا تَسِر بأولادك ونسائك، فوالله إنّي لخائف أن تقتل كما قتل عثمان ونساؤه وولده ينظرون إليه. (الكامل في التّاريخ 2/ 546). ومن هنا نرى أنهم لم يحذروه من مخالفة شرعية وإنما بينوا له غدر شيعية أهل العراق وأنهم يتخوفون عليه من القتل والغدر ولو كان هناك فهما مجمعا عليه وواضحا بين الصحابة لردوه إلى كتاب الله وسنة نبية وكان الأجدر بسيد شباب أهل الجنة أن يلتزم بكتاب الله وسنة نبيه.
لقد كانت لثورة الحسين أثرها الكبير في نفوس الأمة، وللأسف الشديد الارتباط الذي صاحب هذه الذكرى باحتفال الشيعة بذكرى استشهاد الحسين وهم من ضمن قتلته حين غدروا به وجعلوا سيوفهم عليه بعد أن بايعوه، هذا الموقف جعل أهل السنة يبعدون أنفسهم عن الاحتفال والفخر بحفيد رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي خرج للاصلاح في أمة جده، والأجدر في هذا أن نقول (نحن أحق بالحسين منهم) فجهاد الحسين ومن معه من آل بيت النبي صلى الله عليه وسلم ثم بعد ذلك ثورة ابن الزبير رضى الله عنهما أظهرت أن الأمة لم تمت كما يحاول البعض أن يصورها، بل قاومت الملك العضوض بكل ما استطاعت من قوة ولكن كانت أقدار الله نافذة ولا راد لقضائه. فرضي الله عن سيد شباب أهل الجنة أول ثائر بحق فى الإسلام وجمعنا به في ظل عرش الرحمن.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website