إن للفاروق عمر بن الخطَّاب، مكانة عظيمة في الإسلام، فهو الخليفة الثَّاني، وأفضل الصحابة الكرام بعد أبي بكرٍ الصِّدِّيق ـ رضي الله عنهم ـ جميعاً، وقد حثَّنا رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، وأمرنا باتِّباع سنَّتهم، والاهتداء بهديهم، قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «عليكم بسنَّتي وسنَّة الخلفاء الرَّاشدين المهديِّين من بعدي» فعمر ـ رضي الله عنه ـ خير الصَّالحين بعد الأنبياء، والمرسلين، وأبي بكرٍ الصِّدِّيق ـ رضي الله عنه ـ وقد قال فيهما رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «اقتدوا باللَّذَيْن من بعدي؛ أبي بكر وعمر». فهو أفضلُ النَّاس على الإِطلاق بعد الأنبياء، والمرسلين، وأبي بكرٍ، وهذا ما يلزم المسلم اعتقاده في أفضليته ـ رضي الله عنه ـ وهو معتقد الفرقة النَّاجية أهل السُّنَّة، والجماعة، وقد وردت الأحاديث الكثيرة والأخبار الشَّهيرة بفضائل الفاروق ـ رضي الله عنه ـ ومنها:
فقد جاء في منزلة إِيمانه ـ رضي الله عنه ـ ما رواه عبد الله بن هشام: أنَّه قال: كنَّا مع النَّبيِّ (صلى الله عليه وسلم) وهو آخذ بيد عمر بن الخطاب، فقال له عمر: يا رسول الله! لأنت أحبُّ إِليَّ من كل شيءٍ إِلا من نفسي، فقال النَّبيُّ (صلى الله عليه وسلم): «لا والذي نفسي بيده! حتَّى أكون أحبَّ إِليك من نفسك» فقال له عمر: فإِنَّه الآن والله لأنت أحب إِلي من نفسي! فقال النَّبيُّ (صلى الله عليه وسلم): «الآن يا عمر». وأمَّا علمه، فقد قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «بينما أنا نائمٌ شربت ـ يعني: اللَّبن ـ حتَّى أنظر إِلى الرِّيِّ يجري في ظفري، أو في أظفاري، ثمَّ ناولت عمر» فقالوا: فما أوَّلته؟ قال: «العلم». وجه التَّعبير بذلك من جهة اشتراك اللَّبن، والعلم في كثرة النَّفع، وكونهما سبباً للصَّلاح، فاللَّبن للغذاء البدنيِّ، والعلم للغذاء المعنوي. وفي الحديث فضيلةٌ، ومنقبةٌ لعمر ـ رضي الله عنه ـ وإِنَّ الرُّؤيا من شأنها ألا تحمل على ظاهرها، وإِن كانت رؤيا الأنبياء من الوحي، لكن منها ما يحتاج إِلى تعبير، ومنها ما يحمل على ظاهره.
والمراد بالعلم ـ في الحديث ـ: سياسة النَّاس بكتاب الله، وسنَّة رسول الله (صلى الله عليه وسلم). واختصَّ عمر بذلك لطول مدَّته بالنِّسبة إِلى أبي بكرٍ، وباتِّفاق النَّاس على طاعته بالنِّسبة إِلى عثمان، فإِنَّ مدَّة أبي بكرٍ كانت قصيرةً، فلم تكثر فيها الفتوح؛ الَّتي هي أعظم الأسباب في الاختلاف، ومع ذلك فساس عمر فيها مع طول مدَّته النَّاس بحيث لم يخالفه أحدٌ، ثمَّ ازدادت اتِّساعاً في خلافة عثمان، فانتشرت الأقوال، واختلفت الآراء، ولم يتَّفق له ما اتَّفق لعمر في طواعية الخلق له، فنشأت مِنْ ثمَّ الفتن إِلى أن أفضى الأمر إِلى قتله، واستخلف عليٌّ فما ازداد الأمر إِلا اختلافًا، والفتن إِلا انتشاراً. وأمَّا دينه، فقد قال رسول الله: «بينما أنا نائمٌ، رأيت النَّاس يعرضون، وعليهم قُمُصٌ منها ما يبلغ الثُّدِيَّ، ومنها ما يبلغ دون ذلك، ومرَّ عمر بن الخطَّاب، وعليه قميص يجرُّه» قالوا: ماذا أوَّلت ذلك يا رسول الله ؟! قال: «الدِّين».
عن سعد بن أبي وقاص ـ رضي الله عنه ـ قال: استأذن عمر بن الخطَّاب على رسول الله (صلى الله عليه وسلم) وعنده نسوةٌ من قريشٍ يُكَلِّمنه، ويستكثرنه، عاليةٌ أصواتهنَّ على صوته، فلمَّا استأذن عمر بن الخطاب؛ قمن، فبادرن الحجاب، فأذن له رسول الله (صلى الله عليه وسلم)، فدخل عمر ورسول الله (صلى الله عليه وسلم) يضحك، فقال عمر: أضحك الله سِنَّك يا رسول الله! فقال النَّبيُّ (صلى الله عليه وسلم): «عجبت من هؤلاء اللاَّتي كنَّ عندي، فلمَّا سمعن صوتك ابتدرن الحجاب» قال عمر: فأنت أحقُّ أن يهبن يا رسول الله! ثمَّ قال عمر: يا عدوَّات أنفسهنَّ! أتهبنني، ولا تهبن رسول الله (صلى الله عليه وسلم)؟! فقلن: نعم أنت أفظُّ، وأغلظ من رسول الله (صلى الله عليه وسلم). فقال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «إِيهاً يا بن الخطَّاب! والَّذي نفسي بيده! ما لقيك الشَّيطان سالكاً فجّاًقطُّ إِلا سلك فجّاً غير فجِّك». هذا الحديث فيه فضل عمر ـ رضي الله عنه ـ وأنَّه من كثرة التزامه الصَّواب لم يجد الشيطان عليه مدخلاً ينفذ إِليه.
قال ابن حجر: فيه فضيلةٌ لعمر، تقتضي: أَنَّ الشَّيطان لا سبيل له عليه، لا أنَّ ذلك يقتضي وجود العصمة؛ إِذ ليس فيه إِلا فرار الشَّيطان منه أن يشاركه في طريق يسلكها، ولا يمنع ذلك من وسوسته له، بحسب ما تصل إِليه قدرته. فإِن قيل: عدم تسليطه عليه بالوسوسة يؤخذ بطريق مفهوم الموافقة؛ لأنَّه إِذا منع من السُّلوك في طريق؛ فأولى ألا يلابسه بحيث يتمكَّن من وسوسته له، فيمكن أن يكون حُفظ من الشَّيطان، ولا يلتزم من ذلك ثبوت العصمة له؛ لأنَّها في حقِّ النبي واجبةٌ، وفي حقِّ غيره ممكنةٌ. ووقع حديث حفصة عند الطَّبراني في الأوسط بلفظ: «إِنَّ الشيطان لا يلقى عمر منذ أسلم إِلا فرَّ لوجهه». هذا دالٌّ على صلابته في الدِّين، واستمرار حاله على الجدِّ الصرف، والحقِّ المحض، وقال النَّوويُّ: هذا الحديث محمولٌ على ظاهره، وأنَّ الشيطان يهرب إِذا راه؛ وقال عياضٌ: يحتمل أن يكون ذلك على سبيل ضرب المثل، وأنَّ عمر فارق سبيل الشيطان، وسلك طريق السَّداد، فخالف كلَّ ما يحبُّه الشَّيطان. قال ابن حجر: والأوَّل أولى.
قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «لقد كان فيما قبلكم من الأمم مُحدَّثُون، فإِن يك في أمَّتي أحدٌ؛ فإِنَّه عمر». هذا الحديث تضمَّن منقبةً عظيمةً للفاروق ـ رضي الله عنه ـ وقد اختلف العلماء في المراد بالمحدث، فقيل: المراد بالمحدث: المُلهم. وقيل: مَنْ يجري الصَّواب على لسانه من غير قصدٍ، وقيل: مُكلَّم؛ أي: تكلِّمه الملائكة بغير نبوَّةٍ، بمعنى أنَّها تكلِّمه في نفسه، وإِن لم ير مُكلَّماً في الحقيقة، فيرجع إِلى الإِلهام. وفسَّره بعضهم بالتَّفرُّس.
قال ابن حجر: والسَّبب في تخصيص عمر بالذِّكر، لكثرة ما وقع له في زمن النَّبيِّ (صلى الله عليه وسلم) من الموافقات الَّتي نزل القران مطابقاً لها، ووقع له بعد النَّبيِّ (صلى الله عليه وسلم) عدَّة إِصابات. وكون عمر ـ رضي الله عنه ـ اختص بهذه المكرمة العظيمة، وانفرد بها دون مَنْ سواه من الصَّحابة لا تدلُّ على أنَّه أفضل من الصِّدِّيق ـ رضي الله عنهـ قال ابن القيِّم: ولا تظنَّ أنَّ تخصيص عمر ـ رضي الله عنه ـ بهذا تفضيلٌ له على أبي بكرٍ الصِّدِّيق، بل هذا من أقوى مناقب الصِّدِّيق، فإِنَّه لكمال مشربه من حوض النُّبوَّة، وتمام رضاعه من ثدي الرِّسالة، استغنى بذلك عمَّا تلقَّاه من تحديثٍ، أو غيره، فالَّذي يتلقَّاه من مشكاة النُّبوَّة أتمُّ من الَّذي يتلقَّاه عمر من التَّحديث، فتأمَّل هذا الموضع وأعطه حقَّه من المعرفة، وتأمَّل ما فيه من الحكمة البالغة الشَّاهدة لله بأنَّه الحكيم الخبير.
قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «رأيت في المنام أنِّي أنزع بِدَلْوِ بَكْرَة على قَليبٍ، فجاء أبو بكر فنزع ذنوباً، أو ذنوبين نزعاً ضعيفاً، والله يغفرُ له، ثمَّ جاء عمر بن الخطَّاب، فاستحالت غَرْباً، فلم أر عبقريّاً يَفْري فَرْيَهُ، حتَّى روي النَّاس، وضربوا بِعَطَنٍ»وهذا الحديث فيه فضيلةٌ ظاهرةٌ لعمر ـ رضي الله عنه ـ تضمَّنها قوله (صلى الله عليه وسلم): «فجاء عمر بن الخطاب، فاستحالت غرباً… الحديث» ومعنى «استحالت»: صارت، وتحوَّلت من الصِّغر إِلى الكبر. وأمَّا «العبقريُّ» فهو السَّيِّد، وقيل: الَّذي ليس فوقه شيءٌ، ومعنى «ضرب النَّاسُ بِعَطَنٍ» أي: أرووا إِبلهم، ثمَّ اووها إِلى عطنها، وهو الموضع الَّذي تُساق إِليه بعد السَّقي؛ لتستريح. وهذا المنام الذي راه النَّبيُّ (صلى الله عليه وسلم) مثالٌ واضحٌ لما جرى للصِّدِّيق، وعمر ـ رضي الله عنهما ـ في خلافتهما، وحسن سيرتهما، وتطور اثارهما، وانتفاع النَّاس بهما، فقد حصل في خلافة الصِّدِّيق قتالُ أهل الردَّة، وقطع دابرهم، واتِّساع الإِسلام رغم قصر مدَّة خلافته، فقد كانت سنتين، وأشهراً، فوضع الله فيها البركة، وحصل فيها من النَّفع الكثير، ولمَّا توفِّي الصِّدِّيق خلفه الفاروق، فاتَّسعت رقعة الإِسلام في زمنه وتقرَّر للنَّاس من أحكامه ما لم يقع مثله، فكثر انتفاع النَّاس في خلافة عمر لطولها، فقد مصَّر الأمصار، ودوَّن الدَّواوين، وكثرت الفتوحات، والغنائم.
ومعنى قوله (صلى الله عليه وسلم): «فلم أر عبقريّاً من الناس يفري فريه»: أي لم أر سيِّداً يعمل عمله، ويقطع قطعه. ومعنى قوله (صلى الله عليه وسلم): «حتى ضرب الناس بعطن»، قال القاضي عياض: ظاهره أنَّه عائد إِلى خلافة عمر خاصَّةً، وقيل: يعود إِلى خلافة أبي بكر، وعمر جميعاً؛ لأنَّ بنظرهما، وتدبيرهما، وقيامهما بمصالح المسلمين تمَّ هذا الأمر، «وضرب النَّاس بعطنٍ»، لأنَّ أبا بكرٍ قمع أهل الردَّة، وجمع شمل المسلمين، وألَّفهم، وابتدأ الفتوح، ومهَّد الأمور، وتمَّت ثمرات ذلك، وتكاملت في زمن عمر بن الخطَّاب رضي الله عنهما.
قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «رأيتني دخلت الجنَّة، فإِذا أنا بالرُّميصاء امرأة أبي طلحة، وسمعت خَشَفةً، فقلت: مَنْ هذا؟ فقال: هذا بلالٌ، ورأيت قصراً بفنائه جاريةٌ، فقلت: لمن هذا؟ فقال: لعمرَ، فأردت أن أدخله، فأنظر إِليه، فذكرت غيرتك». فقال عمر: بأبي، وأمِّي يا رسول الله! أعليك أغار؟. وفي رواية قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم): «بينا أنا نائم رأيتني في الجنة، فإِذا امرأة تتوضأ إِلى جانب قصر فقلت: لمن هذا القصر؟ قالوا: لعمر، فذكرت غيرته فولَّيت مدبراً» فبكى عمر، وقال: أعليك أغار يا رسول الله؟! هذان الحديثان اشتملا على فضيلةٍ ظاهرةٍ لأمير المؤمنين عمر بن الخطَّاب ـ رضي الله عنه ـ حيث أخبر النَّبيُّ (صلى الله عليه وسلم) برؤيته قصراً في الجنَّة للفاروق، وهذا يدلُّ على منزلته عند الله تعالى.
قال عمرو بن العاص ـ رضي الله عنه ـ: قلت: يا رسول الله! أيُّ النَّاس أحبُّ إِليك؟ قال: «عائشة» قلت: يا رسول الله! من الرِّجال؟ قال: «أبوها» قلت: ثمَّ من؟ قال: «عمر بن الخطاب» ثمَّ عدَّ رجالاً.
عن أبي موسى الأشعريِّ قال: كنت مع النَّبيِّ (صلى الله عليه وسلم) في حائطٍ من حيطان المدينة، فجاء رجلٌ فاستفتح، فقال النَّبيُّ (صلى الله عليه وسلم): «افتح له، وبشره بالجنة» ففتحت له، فإذا أبو بكر فبشّرته بما قال النبيُّ (صلى الله عليه وسلم)، فحمد الله، ثمَّ جاء رجلٌ فاستفتح، فقال النَّبيُّ (صلى الله عليه وسلم): «افتح له وبشره بالجنة» ففتحت له، فإذا هو عمر، فأخبرته بما قال النَّبيُّ (صلى الله عليه وسلم)، فحمد الله، ثمَّ استفتح رجلٌ، فقال لي: «افتح له، وبشِّره بالجنَّة على بلوى تصيبه» فإذا عثمان، فأخبرته بما قال رسول الله (صلى الله عليه وسلم) فحمد الله، ثمَّ قال: الله المستعان.
كانت حياة الفاروق عمر بن الخطاب مليئة بالمناقب والفضائل التي شهد له بها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد شكلت حياته صفحةٌ مشرقةٌ من التَّاريخ الإِسلاميِّ الَّذي بهر كلَّ تاريخٍ وفاقه، والَّذي لم تحوِ تواريخ الأمم مجتمعةً بعض ما حوى من الشَّرف، والمجد، والإِخلاص، والجهاد، والدَّعوة في سبيل الله.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website