لمْ تكُن مساجد إسطنبول في عهد الدولة العثمانيّة مجرد دور عبادة وحسب، بل كانت مراكز للتفاعل الاجتماعي انجذب إليها الباحثون والطلاب والتجار ورجال السياسة.
فعندما فتح السلطان محمد الثاني الملقب بـ”محمد الفاتح”، مدينة القسطنطينية عام 1453، بدأ رحلة طموحه في جعلها مركزاً رئيسياً للدولة العثمانية، وبدأ في بناء أماكن العبادة المزخرفة وجعل هذا النمط وسيلة السلاطين المتعاقبين لترسيخ الإرث الإسلامي العثماني على معالم المدينة.
وحين حلول عهد السلطان عبد الحميد الثاني في الفترة ( 1876 إلى 1909)، لم تكن إسطنبول مجرد مدينة إسلامية، بل كانت قلب العالم الإسلامي ومركز الخلافة العثمانية على مدار أكثر من 400 عام، وكانت المساجد، مثل آيا صوفيا والسلطان أحمد والفاتح والسليمانية، أكثر بكثير من مجرد أماكن للعبادة والتجمّع، بل كانت رموزاً للحكم والسيطرة العثمانية.أما في الوقت الحالي، الذي باتت فيه كثير من مساجد إسطنبول وجهة سياحية مُنتظمة للسياح والسكان المحليين، فإن هناك مسجداً سلطانياً بات غائباً عن أذهان كثيرين، وهو مسجد يلدز الحميدية الذي بناه السلطان عبد الحميد الثاني وأراد من خلاله أن يُبشّر ببزوغ فجر جديد للعثمانيين، فما قصة هذا المسجد؟مسجد يلدز الحميدية في إسطنبول.. رمزٌ لمخيلة جديدة
سعت السلطات العثمانية في القرن الـ19 إلى إنعاش الإمبراطورية من خلال أيديولوجية موحدة جديدة متجذرة في الإسلام تقبل الحداثة وتنوع الإمبراطورية، لكنها في الوقت نفسه توطد السلطة العثمانية المطلقة.
وصل هذا الجهد إلى ذروته خلال الفترة الحميدية -التي سمّيت نسبةً إلى السلطان عبد الحميد الثاني- حيث اصطفت أفكار الحداثة إلى جانب التقاليد الإسلامية العثمانية، وتغلغلت هذه الأفكار في نسيج إسطنبول العثمانية ولا شيء يُمثّل فترة ذروتها أكثر من مسجد يلدز.
كان هذا المسجد امتداداً للمحاولات العثمانية لتأسيس أسلوب معماري أصيل يُعرف باسم “أصول العمارة العثمانية” بدءاً من عام 1873وكان هذا النمط المعماري مستمداً ظاهرياً من التقاليد العثمانية والإسلامية الكلاسيكية، لكنه تأثر بالقدر نفسه بالأساليب الفنية الاستشراقية الشعبية من أوروبا الغربية.
وقد شُيّدت مجموعة من المباني والمساجد في جميع أنحاء المدينة، من بينها المسجد المجيدي ومسجد تشويقية، لتخليد هذا التحول الجديد تحت إشراف عائلة باليان الأرمينية العثمانية، ومع ذلك، يمكن القول إنَّ مسجد يلدز يُمثّل ذروة هذا الاتجاه.
تصميم يعتمد على إظهار الفخامة والهيبة على الطِّرازين القوطي والمغاربي
استمر بناء مسجد يلدز -المعروف رسمياً باسم مسجد الحميدية- في منطقة بشكتاش، على مدار عامين، إذ بدأ في العام 1884 واكتمل عام 1886.
إن مسجد يلدز الحميدية مختلف تماماً في الديكور عن العديد من المساجد الأخرى في المنطقة، ويتميز بالتفاصيل الصغيرة في المسجد، لاسيما أن السلطان عبد الحميد الثاني صمم المسجد بنفسه بالتعاون مع المهندس المعماري الكبير مهندس الدولة آنذاك، سركيس باليان، وأراد مئذنة واحدة فقط، على أن يكون المجمع مستطيل الشكل، وبه قبة واحدة كبيرة ونصف قبة أخرى مع 16 نافذة مزينة بشكل جميل.
إضافة إلى ذلك يحتوي المسجد على سلالم يمين ويسار، سلالم اليمين تصل إلى الغرف المخصصة للسفراء، وهي مزينة بالذهب عيار 18، وسلالم اليسار تؤدي إلى ملتقى السلطان، حيث يؤدي السلطان صَلاته.
لا يتسم المسجد بطابع معماري واحد محدد، لكن يمكننا ملاحظة أنَّ التصميم الخارجي تضمن واجهة مبينة على طراز العمارة القوطية الجديدة، واستخدم التصميم الداخلي أنماط العمارة المغاربية المتأثرة بالطراز الأندلسي، والتي أصبحت شائعة لدى النخب العثمانية المسلمة في ذلك الوقت وشوهدت في العديد من التصميمات الداخلية الأخرى خلال تلك الفترة.
تُوّج ديكوره الداخلي بثريّا كبيرة أرسلها هديةً القيصر الألماني فيلهلم الثاني، كما زُيّن المسجد بمجموعة من أنماط الخطوط، حيث كُتبت على طول جداره العلوي آيات من سورة الملك بالخط الكوفي، الذي نشأ في العراق على يد الخطاط الشهير عبد اللطيف أفندي.
يتمتع المسجد بميزة أخرى فريدة، وهي المشربية الخشبية المصنوعة من خشب الأرز والتي صنعها السلطان عبد الحميد بنفسه، إضافة إلى المنبر الذي صنعه أيضاً الحاكم العثماني.يمكن اعتبار هذا المسجد، من نواحٍ عديدة، مرآة ثاقبة تعكس الطريقة التي صوّرت بها الدولة الحميدية نفسها على نطاق عالمي: دولة ممتدة عبر ثلاث قارات -أوروبا وآسيا وإفريقيا- ترى نفسها دولة حديثة تُغيّر التقاليد؛ ولكن الأهم من ذلك أنَّها قوة عالمية.
كان مسجد يلدز رمزاً لرؤية السلطان عبد الحميد للدولة العثمانية باعتبارها الخلافة الإمبراطورية الحديثة المهيبة، فيما أقيم نصب تذكاري للمسجد الشهير في ساحة المرجة بدمشق، حيث حاولت الدولة الحميدية تعزيز فكرة الوحدة بين رعاياها العرب والمركز الإمبراطوري.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
لذا، كان الغرض من مسجد يلدز، بمقتضى تأثيراته الفنية والمعمارية المتنوعة، بلورة المبدأ الإسلامي الذي يدعو إلى الإخاء بين الشعوب المختلفة.
السلطان كان يؤدي صلاة الجمعة فيه بشكل دائم
اضطلع المسجد بدوره باعتباره مسجداً سلطانياً منذ لحظة افتتاحه، وهو ما جعل فخامته تتماشى مع أهميته الإمبراطورية.
نادراً ما كانت الجماهير ترى السلطان خلال زياراته الأسبوعية لمسجد يلدز من أجل أداء صلاة الجمعة.
بينما كان السلاطين العثمانيون في الماضي يؤدون صلاة الجمعة في جامع آيا صوفيا أو السليمانية أو السلطان أحمد، اقتصر تأديتها خلال الفترة الحميدية على مسجد يلدز.
محاولة اغتيال أرمينية فاشلة
في حين شهد المبنى واحداً من أكثر الأحداث المأساوية في عهد السلطان عبد الحميد الثاني، وهي محاولة اغتيال السلطان في 21 يوليو/تموز 1905، بمتفجرات وضعها عدد من الأرمن المنتمين إلى منظمة “الطاشناق”، أسفل المركبة التي كان يستخدمها السلطان للوصول إلى المسجد.كان كل شيء يسير وفقاً لخطة المتآمرين إلى أن اختار السلطان قضاء بعض الوقت بعد الصلاة في التحدث إلى فقيه الدولة العثمانية.
تسببت المحادثة في تأخير خروج السلطان من المسجد، وهو ما أدَّى في نهاية المطاف إلى إنقاذ حياته.
لكن ثمة نحو 26 شخصاً لقوا مصرعهم جراء الانفجار وأصيب العشرات بجروح، فضلاً عن أضرار جسيمة لحقت بالواجهة الخارجية للمسجد.