مثّلت تلك المعركة أبعد حدود تصل إليها الدولة العثمانية يوماً، وفي الوقت نفسه أصبحت هذه المعركة مثالاً تفتخر به النمسا عبر الأجيال، فهي المدينة التي لم تستطع المدافع العثمانية أن تدكّها كما دكّت العشرات مثلها، خصوصاً أنّ نفس المدينة قد صدّت في تاريخها هجومين عثمانيين كبيرين وليس واحداً، كان الأوّل في عهد سليمان القانوني عام 1529، وهو موضوع هذا التقرير.
وكان الثاني بعده بقرنٍ ونصف القرن، عام 1683، وهذا الحصار الثاني الذي لم يستطع أن يهزم المدينة، اعتبر بداية النهاية للتوسُّع العثماني في أوروبا، بل بداية انحساره أيضاً.
العلاقات الدولية في تلك الفترة
بالإضافة إلى ضمّ أغلب الأراضي الإسلامية في حوض البحر المتوسّط، كانت الدولة العثمانية أيضاً تضمّ دولاً من وسط أوروبا، إضافةً إلى أغلب دول البلقان (شرق أوروبا). وهكذا دخلت الدولة العثمانية في صراعٍ دائم مع الدول الأوروبية المنافسة.
كانت أبرز الدول المنافسة للدولة العثمانية تتمثّل في ثلاث كتل. فأولاً هناك البابا بثقله الديني والمعنوي، وثانياً هناك ملك فرنسا فرانسوا الأوّل، وهناك شارل الخامس (شارلكان) ملك الإمبراطورية الرومانية المقدسة. وهكذا بدأت الدولة العثمانية تتعامل مع هذه الكتل الثلاث واحدةً تلو الأخرى.
في البداية كان شارلكان وهو إمبراطورٌ قوي ضمّت إمبراطوريته إسبانيا وصقلية ونابولي والنمسا وألمانيا وجزءاً كبيراً من إيطاليا، في تحالفٍ هشٍّ مع بابا روما، وبابا روما يخشى من سيطرة وتوغُّل شارلكان.
ولأنّ شارلكان كان الأقرب إلى الدولة العثمانية فقد كانت دولته على خطّ المواجهة الرئيسية في شرق ووسط أوروبا.
أمّا فرنسوا الأول، ملك فرنسا، فقد كان ينافس شارلكان على السيادة في أوروبا، وبعدما هزمه شارلكان في إحدى المعارك الكبرى قرَّر إرسال وفد إلى السلطان الشاب سليمان القانوني ليؤسس معه حِلفاً، وهكذا أصبحت فرنسا والدولة العثمانية حليفتين.
سليمان القانوني يغزو المجر ويهدد الإمبراطورية الرومانية
بدأ شارلكان سياسته تجاه الدولة العثمانية بخطوة استراتيجية كبيرة، فقد زوّج لويس الثاني ملك المجر من أخته، كما زوّج أخاه فرديناند من أخت لويس. كان لويس الثاني بلا وريث، وهكذا كان شارلكان يخطط أن ينصِّب أخاه ملكاً على بلاد المجر وما حولها، لكنّ سياسة لويس السيئة لم تمهله لذلك.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
عندما نُصِّب سليمان القانوني سلطاناً عام 1520، أرسل رسولاً يعلم لويس بارتقاء سليمان العرش، وأيضاً ليأخذ الجزية من ملك المجر، فقتله ملك المجر، وهنا قرّر سليمان القانوني غزو المجر وتلقين لويس الثاني درساً لا ينساه، وهذا ما حدث بالفعل.
فقد قاد سليمان جيشه حتّى فتح بلغراد، وبهذه المعركة اقترب العثمانيون أكثر من عاصمة المجر بودابست.
لم يصبر لويس ملك المجر على هذه الهزيمة، فقد ذهب يجمع الحلفاء والجيوش ليواجه سليمان القانوني وجيوشه الجرَّارة ومدافعه الأقوى في أوروبا في تلك الفترة. وهكذا ظلّ الصراع المكتوم بين العثمانيين والمجر، ومن خلف المجر الإمبراطورية الرومانية المقدسة، حتّى عام 1526 عندما وقعت معركة موهاكس الفاصلة في تاريخ المجر.
في ساعةٍ ونصف الساعة أفنى الجيش العثماني الجيشَ المجري وحلفاءه الأوروبيين. قُتل في تلك المعركة لويس الثاني، ملك المجر، وبعضٌ من قادته الكبار والأساقفة، وهكذا دخل السلطان سليمان القانوني العاصمة المجرية بودابست، وأصبحت بلاد المجر مقسّمة، ومنطقة نفوذ عثمانية-نمساوية طيلة أربعة قرون لاحقة.
لكن ما علاقة هذا بالإمبراطورية النمساوية وحصار فيينا؟
إذا نظرنا إلى الخريطة لوجدنا أنّ بلاد المجر هي منطقة الصدام الأولى بين العثمانيين والنمسا، فإذا حاز العثمانيون المجر لم يتبقّ لهم الكثير للوصول إلى النمسا وعاصمتها فيينا. كان فرديناند، أخو الإمبراطور شارلكان، هو أرشيدوق النمسا. وإذا ركزنا أكثر في الخريطة فسنجد أنّ السيطرة على النمسا تعني تهديد ألمانيا مباشرةً، حيث مقرّ الإمبراطورية الرومانية المقدسة التي يحكمها شارلكان.
وهكذا كانت المعركة على المجر معركة مصيرية، وعندما هزم العثمانيون لويس الثاني، ملك المجر، هاجت أشواق فرديناند وأخيه شارلكان للسيطرة على المجر. لكنّ سليمان القانوني كانت لديه خطط أخرى للمجر، فقد عيّن جان زابولي أمير ترانسلفانيا ملكاً على المجر، وهو بالطبع موالٍ للعثمانيين.
كانت المعارك بين العثمانيين والنمسا تدور كالتالي: كلما عاد العثمانيون من المجر إلى عاصمتهم إسطنبول هاجم فرديناند زابولي، فيعود زابولي إلى العثمانيين يطالبهم بالحماية، فيحميه العثمانيون بإرسال جيش. استمرّ الوضع هكذا حتّى قرّر السلطان سليمان القانوني وضع حد لهذا “الصداع” المسمّى فرديناند وعاصمته فيينا.
حصار فيينا.. نصرٌ لم يكتمل
هزم فرديناند زابولي ملك المجر الموالي للسلطان سليمان القانوني، هرب زابولي إلى إسطنبول عام 1528 طالباً الحماية من السلطان، وهكذا أصدر السلطان أمره بتجهيز الجيوش العثمانية من جميع الجهات، وسار على رأس جيشٍ قوامه ربع مليون جندي وحوالي 300 مدفع، وفقاً لما ذكره محمد فريد باشا في كتابه “تاريخ الدولة العلية”.
وصل السلطان العاصمة بودابست وضرب عليها الحصار، لكنّ فرديناند فرّ من المدينة إلى عاصمته فيينا، مخلّفاً وراءه حاميةً نمساويّة، وما لبثت هذه الحامية أن استسلمت للسلطان العثماني، وهكذا أعاد سليمان القانوني الأمير زابولي إلى عرش المجر، وقرّر حينها محاصرة عاصمة النمسا، فيينا نفسها.
بدأ الحصار في 29 سبتمبر/أيلول من عام 1529، واستمرّ حتّى 13 أكتوبر/تشرين الأول، كانت فرنسا بقيادة فرانسوا الأول على علاقة طيبة بالعثمانيين كما ذكرنا، فصمَتَت عن الحصار، لكنّ ألمانيا وعلى رأسها أخوه شارلكان لم يكن مسروراً بالطبع بهذا الحصار، فجهّز جيوشه لنجدة فيينا، فما يُدريه لو سقطت فيينا على من سيكون الحصار القادم.
استطاع الجيش العثماني بمدفعيته الثقيلة إحداث ثغرة في أسوار فيينا، وهجم المشاة من خلال الثغرة لعدّة أيام لكنّهم لم يستطيعوا النفاذ داخل المدينة. كانت ذخيرة المدافع العثمانية قد قاربت على النفاد، وسيصعب حالياً إمداد الجيش بمؤونته بسبب قرب الشتاء، وإضافةً إلى أنّ سقوط فيينا في يد العثمانيين كان كفيلاً بإثارة المشاعر الدينية في أوروبا كلها، وهكذا عاد السلطان سليمان إلى عاصمته إسطنبول.
فهل كان حصار فيينا محاولة منه لردع فرديناند عن التفكير في غزو المجر مرّة أخرى؟
يخبرنا الدكتور أحمد فؤاد متولي في كتابه عن الدولة العثمانية، أنّ “سليمان القانوني ومساعديه فهموا بفطرتهم أنّ المشكلة تكمن في إيجاد القوة البشرية التي تدير البلاد التي فتحت حديثاً، فهي هائلة جداً دون الخوض في أواسط أوروبا”.
أي أنّ السلطان أدرك أنّه لا يستطيع فتح فيينا لأنّه لا يمتلك الموارد البشرية الكافية لإدارة هذه الدولة مترامية الأطراف، والحقيقة أنّ وصول القانوني حتّى فيينا كان أكبر توسُّع لهذه للدولة العثمانية في تاريخها.
لكنّ فرديناند لم يرتدع، وعاد بعد سنتين لمهاجمة بودابست، عاصمة المجرّ، لكنّ الحامية العسكرية العثمانية التي بقيت فيها حمتها من السقوط.
وهكذا عاد السلطان سليمان القانوني عام 1531 مرة أخرى إلى محاصرة فيينا، فسار إلى بودابست عاصمة المجر، وهناك وجد سفراء فرديناند يعرضون عليه الصلح، فعاملهم بسوءٍ وصرفهم. وتحوّل إلى الشمال الغربي حيث فيينا، وأعلم الإمبراطور شارلكان نفسه بالحرب، لكنّ شارلكان قرّر اللعب بالسياسة عن اللعب بالجيش والعسكر، ورغم أنّ القانوني قد سيطر في طريقه على بعض القلاع فإنّ شارلكان لم يحرك ساكناً، وركّز قواته في الدفاع عن فيينا إن حاصرها القانوني.
وهكذا عاد السلطان سليمان مرةً أخرى إلى إسطنبول، بعدما أثبت هذه المرّة قدرته على التغوُّل داخل بلاد شارلكان وأخيه فرديناند، ويبدو أنّ حصاره فيينا كان تمهيداً لفتحها مرةً أخرى، أو إرغاماً لفرديناند على اللجوء للتفاوض والصلح، وهذا ما حدث.
قبِل القانوني الصلح مع فرديناند، ووقعت معاهدة بين العثمانيين وفيينا تنص على عدم اعتداء فرديناند على أيِّ من مناطق المجر التي تقع تحت حكم زابولي والدولة العثمانية، على أن يدفع فرديناند الجزية عن الأراضي التي يسيطر عليها في المجر للدولة العثمانية، كما أنّ على فرديناند ألا يساعد أخاه شارلكان في أيّ حربٍ قادمة بينه وبين الدولة العثمانية.
وهكذا انتهى حصار فيينا، الذي مثّل أقصى اتساع للدولة العثمانية في تاريخها.