قد يتساءل البعض لماذا تستميت ألمانيا وإنجلترا وأمريكا في دعم إسرائيل؟ وقد تتعدد الإجابات؛ إذ يذهب البعض للبعد الوظيفي لدولة إسرائيل كحامية للمصالح الأمريكية والغربية، وبعضها يركز على طبيعتها الاستعمارية ووظيفتها في نزع ثروات الشرق الأوسط، وقد يتغافل عن البعد العقدي وتاريخ دعم البروتستانتية لليهود.
إذ لهذا الدعم بُعد عقدي إلى جوار الوظيفي والاقتصادي، وهو ما يعرف بالصهيونية المسيحية أو غير اليهودية، والتي كان رائدها هو مارتن لوثر في القرن السادس عشر الميلادي، وهي مسيرة طويلة من ترسيخ مفاهيم دعم اليهود وتحفيزهم على العودة إلى فلسطين.
البداية من ألمانيا: مارتن لوثر
في عام 1483م وُلد مارتن هانز لوثر في مدينة أيسليبن، وكان أبوه رجلاً صارماً فظاً، ومناهضاً لرجال الدين، وعمل بالفلاحة والتعدين، وأمه متواضعة خجولة كثيرة الصلاة، وكانا يؤمنان بكثير من الخرافات الدينية، التي تأثر بها مارتن حتى نهاية حياته، وقد عانى في نشأته من طفولة قاسية، حتى قال إن ذلك كان سبباً لالتحاقه بالدير وأن يصير راهباً.
ومبكراً في المدرسة اللاتينية، تلقى الكثير من الضرب بالعصي مع الكثير من الوعظ، وفي الثالثة عشرة انتقل إلى مدرسة ثانوية تديرها جمعية دينية، ثم في عام 1501م أرسله والده إلى الجامعة في إرفورت، حيث درس اللاهوت والفلسفة، تأثر ببعض آراء علماء الإنسانيات، إلى أن حصل على درجة الماجستير في الآداب عام 1505م، ولكنه بعد شهرين فقط قرر أن يكون راهباً، فالتحق بأحد أديرة إرفورت.
وخلال حياته الكهنوتية اطلع على آثام الكنيسة والبابوات وخطاياهم، حتى إنه لما ذهب إلى روما سجد عند مشاهدتها، ولكنه بعد ذلك قال في وصفها إنها مدينة تدعو للمقت والكره، علق ويل ديورانت على موقفه من البابوات بأنه من المحتمل أن يكون بسبب عدم تيسر دخوله في أوساط رجال الكهنوت الكبار.
وقد ساورته الكثير من الشكوك العقائدية، واطلع على ما يسمونه بـالكتاب المقدس باللاتينية، وأخذ شيئاً فشيئاً في صياغة الأفكار التي سوف ترسم له الطريق فيما بعد، وتحديداً فكرة الخلاص عن طريق الإيمان وليس بالأعمال، خاصة بعد أن ترقى لدرجة دكتور في اللاهوت عام 1512م في جامعة فيتنبرج، وكان له كرسي تعليم ما يسمونه بـالكتاب المقدس وتفسيره. وظل في هذه الجامعة يعبر فيها عن آرائه ومعتقداته بشكل واضح وصريح، ويعيش في الدير المجاور لها، حتى وفاته 1546م.
صعود البروتستانت: الصراع مع الكنيسة
في عام 1517م ألف لوثر منشوراً عنوانه “بحث في بيان قوة صكوك الغفران”، وعلقه على باب الكنيسة، وكان هذا بمثابة بدء إعلان حرب على الكنيسة الكاثوليكية، وكأن الآلاف من المسيحيين كانوا ينتظرون هذه الحرب على الكنيسة.
انطلقت الحركة المضادة للكنيسة من عقالها، وانصرف الناس عن صكوك الغفران، وباءت جميع محاولات الكنيسة لاحتواء لوثر بالفشل، لاسيما من الأمراء والحكام الذين ساندوه، طامعين في الاستيلاء على ممتلكات الكنيسة.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
وفي عام 1520م أصدر البابا قرار الحرمان في حق لوثر وأتباعه، ولكن لوثر جمع الناس وحرق قرار البابا أمام أعينهم. وانقسم الناس إلى فريقين، فقد وافق المجلس النيابي “الدايت” على منشور الحرمان، ولكن حاكم سكسونيا قام بحماية لوثر، وأصبح أتباع لوثر يسمون بالمحتجين (the protestants).
هذه الثورة على الكنيسة التي قادها لوثر، وجاءت بفهم جديد للمسيحية أفرز ما عرف بالكنيسة البروتستانتية، من أهم مخرجاتها، أو من أهم المستفيدين منها كانوا هم اليهود.
كيف ساعد لوثر على تغيير وضع اليهود في أوروبا؟
أوضاع اليهود قبل لوثر كان تاريخ لاضطهاد طويل بسبب نظرة الكنيسة الكاثوليكية لليهود باعتبارهم قتلة المسيح، بالإضافة للوضع الاقتصادي لليهود وعملهم في الربا وبالتالي أصبحت عندهم ثروات طائلة، وبالتالي نظر إليهم على أنهم يتحكمون اقتصادياً في المجتمعات الأوروبية.
في كتابه الذي أصدره في عام 1523م “المسيح ولد يهودياً”، كان فيه من النصح للمسيحية بتحسين علاقاتهم وتعاملهم مع اليهود والتعاطف معهم. وتبريره في ذلك أن المسيح نفسه ولد يهودياً. وكان لهذا الاتجاه من لوثر تفسيراته، منها أن الهدف هو تحويل اليهود إلى المسيحية، ليعتنقوا العقيدة المسيحية ويتحولوا إلى مسيحيين مخلصين.
ينما يذهب آخرون إلى أن سبب التعاطف من لوثر تجاه اليهود هو استمالتهم في صفه لما لهم من نفوذ مالي وقدرات اقتصادية، وكان هذا دأب الكثير من رجالات السلطة والكنيسة حتى يومنا هذا. وقد استخدم مارتن قدراته الخطابية وتأثيره الطاغي على الجمهور خاصة الألماني، في تحقيق انتشار واسع لآرائه الجديدة هذه على المجتمع المسيحي تجاه اليهود.
وقد حذا حذوه حملة لواء الدعوة البروتستانتية في ربوع أوروبا، مثل زوينجلي في سويسرا، وكالفن في فرنسا، وكان لذلك أثره في تبني بعض السياسيين ذلك التوجه في تحقيق الحرية الدينية تجاه اليهود، كما في حالة كرومويل في انجلترا.
دعم البروتستانتية لليهود
دعم البروتستانتية لليهود جاء من خلال مؤسسها مارتن لوثر، إذ تضمن كتابه بعض النقاط التي ساهمت في إعادة موضعتهم في أوروبا، وساهمت في صعود اليهود، وكانت أهم تلك النقاط التي استفاد منها اليهود، أنه برَّأهم من دم المسيح، ولو بطريقة غير مباشرة، فاليهود يصلون بالمسيح بنسب مباشر، أما النصارى فهم الغرباء والأباعد إذ ينتمون إلى روما والجرمان والإغريق.
كما رفع قدرهم فوق النصارى، حيث اعتبر المسيحيين كالكلاب، لا مكان لهم إلا تحت مائدة اليهود يلتقطون منهم الفتات المتساقط. إذ يبدو أن اليهود هم السادة والنصارى العبيد، وفهم الناس بذلك أن اليهود هم شعب الله المختار لهذه السيادة، فهم إخوة الرب وأبناء الرب.
وهكذا أسهم لوثر في تهيئة المجتمعات الأوروبية للقبول بعقائد جديدة، تخالف العقائد الكنسية الكاثوليكية المستقرة بزعامة الكنيسة الأم في روما. ومن هذه العقائد اليهود شعب الله المختار، وأرض الميعاد، ومعركة آخر الزمان (هرمجدون)، والحكم الألفي السعيد للسيد المسيح وهو أن يحكم المسيح ألف عام في آخر الزمان، وهذا لا يكون إلا بعد عودة اليهود إلى الأرض المقدسة حسب قولهم.
لماذا ترسخت أفكار البروتستانتية حول اليهود؟
ساعد لوثر في فرض آرائه وانتشارها وخصوصاً تلك التي تتعلق بدعم البروتستانتية لليهود، وفي وقوفه أمام سلطة الكنيسة في روما عدة أمور، أهمها ظهور الطباعة، وقد أحسن استخدامها في نشر آرائه وأفكاره، وكانت كتبه وأوراقه الأكثر رواجاً بصورة لا تصدق، وكان تقريباً أربعة أخماس ما يطبع مؤيداً للإصلاح الديني.
ثانياً احتدام الصراع السياسي بين الكنيسة وكثير من الحكام والملوك، ما جعل بعض الأمراء ينضمون إلى جناح لوثر في معاداة الكنيسة. ثالثاً نهوض الفكر العلماني ومضادته للكنيسة واصطدامه معها، خاصة مع ظهور حركة الإنسانيين ثم حركة لوثر، والدعوة إلى التفسير الحرفي لنصوص ما يسمونه بـالكتاب المقدس، ونزع سلطة الكنيسة على الأفراد فيما يتعلق بفهم ما يسمونه بـالكتاب المقدس.
رابعاً المكان الذي انطلق لوثر في دعوته كان جامعة فيتنبرج التي كان لها مكانة علمية كبرى، وصارت المهد الأساسي للتعاليم اللوثرية، وكانت منافساً قوياً للتعليم التقليدي في السوربون، وتعتبر التعاليم التي قامت عليها هذه الجامعة هي التي ساعدت على تحول إنجلترا إلى المذهب البروتستانتي.
خامساً أدى ما عرف بالتوافق الانتقائي بين أخلاق البروتستانتية التي تحفز على العمل وعدم قبول الوضع القائم كالفقر، وتقدس مراكمة الثروة، التي توافقت مع روح الرأسمالية كما سماها ماكس فيبر، إذ انتشرت البروتستانتية في ألمانيا وإنجلترا وأمريكا، وهي الدول الرائدة للرأسمالية، وبالتالي صار دعم اليهود جزءاً من ثقافة الرأسمالية. بل يصبح دعم الولايات المتحدة لإسرائيل ذا بعد خلاصي توراتي، منبعه دعم البروتستانتية لليهود.
كيف دعمت البروتستانتية الكالفينية اليهود؟
تشظت الكنيسة الموحدة في أوروبا، وتعددت الكنائس في عموم أوروبا بصورة عدائية تنذر بعواقب خطيرة، وقد ظهرت حركات إصلاحية أيضاً داخل الكنيسة الأرثوذوكسية البيزنطية حركة “البوجوميل”، وصعود الدولة العثمانية ودخل الإسلام أوروبا من شرقها، مما أدى إلى اشتعال الصراع في القارة الأوروبية حتى الحرب العالمية الثانية.
استفاد اليهود من أفكار كالفن الداعية إلى وجوب العودة إلى ما يسمونه بـالكتاب المقدس، والتمسك بتفسير نصوصه حرفياً، وكان ذلك الباب الذي ولج منه اليهود إلى الكالفينية، وهو في ذلك مثل أستاذه لوثر.
وقد زاد من أتباعه وداعميه من يهود أوروبا عامة وإنجلترا خاصة إقراره بمشروعية الربا، وقد كان لهذه الدعوة أعظم الوقع في نفوس اليهود في ربوع الأرض كافة بل وغير اليهود، لاسيما وأوروبا مقبلة على عصر التجارة العالمية والرأسمالية، فيما سمّاه ماكس فيبر التوافق بين أخلاق البروتسانت وروح الرأسمالية، وربما هنا بدأت تنشأ الفكرة الصهيونية غير اليهودية.
وقد ذكر ويل ديورانت في قصة الحضارة وقوع كالفن تحت التأثير اليهودي، بل أكثر من ذلك فقد زعم ليونارد يونج أن كالفن أصوله يهودية، وتحول اسمه من كوهين إلى كالفن، ثم انتقل من فرنسا إلى سويسرا، وفرق عدداً كبيراً من رجاله لبذر بذور الثورة تحت ستار الدين، وهو تفسير بسيط لسبب تطوير عقيدة دعم البروتستانتية لليهود التي بلورها كالفن.
وبالفعل شاعت الثورات في عموم أوروبا وبدأت مرحلة الصدام والحروب في الفترات اللاحقة، وأشار إلى أن ظاهر الحركة دينية، وباطنها تعتمد على الشريعة الموسوية ونظام السبت وقواعد التوراة عندهم، ونشأ بعد هذا بزمن فرق البروتستانتية بالعشرات، وكان منها من كان نصيراً للصهيونية، واليهودية العالمية.
هكذا فتحت البروتستانتية الباب على مصراعيه للمسيحيين للإقبال على ما يسمونه بـالكتاب المقدس ودراسته، خاصة العهد القديم أو التوراة، فتعرفوا على تاريخ وقصص وأنبياء اليهود في فلسطين، حتى صار التاريخ الوحيد لدراسة تاريخ اليهود والشرق الأوسط في أوروبا، بما احتوى من أساطير ونبوءات وتقاليد وقوانين العبرانيين، وتم قبول جميع ذلك من قبل الإصلاح الديني، ولم يتم إخضاعه للتساؤل والنقد.
البعد الخلاصي عند المسيحية الصهيونية
كان دعم البروتستانتية لليهود اعتقاداً منهم بالدور الذي سيقومون به بعد عودتهم إلى فلسطين، بالتمهيد لنزول المسيح الثاني حسب قولهم، وإن اختلفوا في كيفية حصول ذلك اختلافاً كبيراً، فمنهم من كان يرى شرط دخولهم المسيحية أولاً ومنهم من لم يشترط، وذلك كله وفقاً لاختلافهم الكبير في تفسير قضية الملك الألفي السعيد، ولكن على كل حال فإن عودتهم إلى فلسطين مرتبطة بالنزول الثاني للمسيح.
وكل ذلك لم يكن له وجود في الإيمان الكاثوليكي الذين يعتقدون أن اليهود كأمة قد انتهى شأنها بعد طردهم من فلسطين على أيدي البابليين، وأن قضية عودتهم إلى فلسطين هي التي حدثت على يد الملك قورش الفارسي، وأما القدس فهي عاصمة العهد الجديد
ويعتقد الكاثوليك أن اليهود قد عوقبوا بالشتات بعد طردهم على يد تيتوس الروماني 81م، وذلك للأبد وليس لهم مكان في العالم، لا عودة لهم إلى فلسطين عقوبة على إنكارهم المسيح وعدم الإيمان به.
لذلك كان هذا الصراع الدموي بين الكنيسة الكاثوليكية والبروتستانت، الذين جاءوا يهدمون هذا الصرح الإيماني الضارب في التاريخ، وأعادوا وضع اليهود كأمة من جديد على خارطة العالم، بعد أن كانوا منسيين لفترات تاريخية طويلة تزيد على 1500 عام.
عزز ذلك هيمنة الرأسمالية وصعودها عبر التجارة ثم الصناعة، ولذلك نجد أن عقيدة دعم اليهود وعودتهم بأي ثمن إلى فلسطين هي عقيدة بروتستانتية عند الساسة الأمريكيين، بعيداً عن شق المصالح والدور الوظيفي، له بُعد عقدي، حتى ربما أن الرئيس الأمريكي جو بايدن الكاثوليكي متأثر بهذا الاعتقاد البروتستانتي لأنه أصبح عرفاً عقدياً في العقائد الرأسمالية المهيمنة.