نورٌ تَنَقَّلَ في الأَكوانِ ساطِعُهُ *** تَنَقُّلَ البَدرِ مِن صُلبٍ إِلى رَحِمِ
حَتّى اسْتَقَرَّ بِعَبدِ اللهِ فَانْبَلَجَت *** أَنوارُ غُرَّتِهِ كَالبَدرِ في البُهمِ
كانت شخصية النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وما تزال، من أبرز الشخصيات تأثيرا في عصرها وفي كل العصور التالية، وقد تجلى أثر شخصيته واضحا في الأدب العربي، حتى لقد صُنِّفت المجلدات في المدائح النبوية، وأُفْرِدَت القصائد والدواوين، منذ عصور النبوة وحتى يوم الناس هذا. وعلى كثرة شعر المديح النبوي، سأقتصر في هذا المقال على رصد ما نظمه بعض الشعراء المحدثين في ذكرى مولد النبي صلى الله عليه وسلم. وبيان كيف أن جل من كتبوا في ذكرى المولد النبوي، في القديم وفي الحديث، في المشرق وفي المغرب، إنما راحوا يعبرون مبتهجين عن محبتهم للنبي، ويذكرون بشريات ميلاده، ويعددون خصاله ومناقبه وجميل فعاله، وأثره العظيم في حياة البشرية. وقد أقبلَ الشعراء على النظم في المولد النبوي إقبالا عظيما حتى نشأ فن جديد تفرّع من المدائح النبوية، أطلق عليه «المَوْلِدِيَّات» أي القصائد التي كانت تنظم خصيصا لتنشد في احتفالات المولد النبوي
بردة البوصيري ومعارضَاتها
وإذا كانت بردة البوصيري الشهيرة علامة باذخة بين قصائد المديح النبوي كلها، فقد دأب الشعراء على معارضتها في كل العصور بقصائد مطولة، منها قصيدة البارودي التي سماها «كشف الغمة في مدح سيد الأمة»، ومطلعها:
يتتبع فيها البارودي قصة حياة النبي صلى الله عليه وسلم كما وردت في كتب السيرة بكل تفاصيلها، ويروي في جانب منها قصة مولده الشريف، يقول:
وقد عارض أمير الشعراء أحمد شوقي بردة البوصيري كذلك بقصيدة شهيرة سُميت «نهج البردة»، ذكر فيها بشائر مولده الشريف، وعبر عن أثره العظيم وإنارته ربوع الدنيا في الشرق والغرب:
فرائد القصائد
وعلى الرغم من ورود ذكر المولد النبوي خلال قصائد المديح الكبرى، التي اشتملت على كثير من المواقف والأحداث، فإن من الشعراء من أفرد هذه الذكرى بقصائد خالدة منها «الهمزية النبوية» لشوقي أيضا، يقول في مستهلها:
ومن فرائد القصائد كذلك رائعة شوقي في ذكرى المولد النبوي، وهي قصيدة راقصة مطربة في معناها ومبناها وموسيقاها، مطلعها:
تجلى مولد الهادي وعمت … بشائره البوادي والقصابا
وأسْدَتْ للبريَّة بنتُ وَهْبٍ … يدًا بيضاء طوَّقت الرِّقابا
لقد وضعته وهَّاجا منيرا … كما تلد السماوات الشِّهابا
فقام على سماء البيت نورًا … يضيء جبالَ مكة والنقابا
وضاعت يثربُ الفيحاء مِسْكا … وفاح القاع أرجاء وطابا
أبا الزهراء قد جاوزتُ قدري … بمدحك بيد أن لي انتسابا
المولد النبوي والأمة المأزومة
وبينما نجد كثيرا من قصائد المولد النبوي تمتلئ بالمديح الخالص، وتذكر بشائر الميلاد، ومناقب النبوة؛ فإننا نلحظ عددا من الشعراء لم يسيروا على هذا النهج المألوف في بناء القصائد، وإنما راحوا يستغلون الذكرى الشريفة، وما تبعثه في النفس من أمجاد الماضي التليد، للتنديد بواقع الأمة العربية المهين اليوم. فلا يذكرون النبي إلا ليطلبوا نجدته مما نزل بنا، ويستنهضون بذكره الهمم السافلة في هذا الزمن الصعب. والحق أن هذا النمط من القصائد بدأ في حقبة مبكرة من القرن العشرين مع تردي الأحوال السياسة والاجتماعية، فنرى الشاعر أحمد محرم (1877 – 1945) يستهل قصيدته «من وحي المولد النبوي الشريف» بنعي حال الأمة وما آلت إليه في هذا العصر من ضعف وظلام، وظلم وضلال، وعبادة للأصنام، يقول:
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
لا اليومُ يومَك إذْ وُلِدْتَ ولا الغدُ … يا ليتَ أنك كلَّ يوم تولَدُ
عاد الظلام كما عَهِدْتَ، وهذه … دنيا الجهالة والأذى تَتَجَدَّد
ما ذاق مَهْلِكَهُ (أبو جهل) ولا … أوْدَى (أبو لهب) وربُّكَ يَشْهَدُ
في كل أرض منهما مُتَجَبِّرٌ … يأبى الرَّشادَ، وظالمٌ يَتَمَرَّدُ
وعبادةُ الأصنامِ قام دُعاتها … مِلْءَ الممالِكِ، ما على يدهم يدُ
فلكل قومٍ من سفاهَةِ رأيهم … ربٌّ يُعَظَّمُ، أو إلهٌ يُعْبَدُ
وبينما نجد هذا النعي العام لحال الأمة في قصيدة أحمد محرم، فإننا نلحظ أن بعض الشعراء الآخرين قد جنحوا إلى توظيف ذكرى المولد النبي الشريف بدلالاته العظيمة، لنعي الواقع العربي المأزوم في مناسبات خاصة مثل نكسة 1967، ومن ذلك قصيدة الشاعر أحمد مخيمر (1914- 1978)، وعنوانها «عيد المولد النبوي»، وهو عنوان مراوغ، فبينما يذكر لفظ العيد في العنوان؛ مما يشي بدعوته إلى الاحتفال به، نرى القصيدة تأتي بعكس هذا، وتنهى عن الاحتفال بعيد المولد النبوي في ظل الأزمة، فلا عيد قبل الثأر من الأعداء