بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا رسول الله…
علم السلوك (التصوف) بمنظور معاصر
إن السلوكَ رحلةٌ خالصةٌ إلى اللهِ عزّ وجلّ، رحلةٌ منتهاها الجنّةُ، رحلةٌ قوانينُها لا تتغيّرُ ولا تتبدّلُ، تمامًا كالذهبِ الخالصِ، إن دخلَهُ معدِنٌ غيرُهُ أنقصَ مِن قدرِهِ، فترى في كلِّ زمنٍ طبقاتٍ مِن الناسِ على اختلافِ أقدارِها تكونُ هِمَّتُها، فتكونُ رحلَتُها ونتيجتُها، وعلى قدر الهمّةِ في العنايةِ بالزرعِ يكونُ الحصادُ ويطيبُ الجنَى.
هذا السلوكُ لَم يتغيّرْ، ولكنْ تغيّرَتِ الهِمَمُ، والناسُ تغيّرُوا، سواءٌ اختيارًا أم اضطِرارًا، ولا شكّ أنّ الخلافةَ الإسلاميّةَ مختومةً بجلالةِ السلطانِ عبدِ الحميدِ الثاني رضيَ اللهُ عنهُ كانت حِصنًا منيعًا مِن حصونِ الإسلامِ عمومًا والتصوُّفِ خصوصًا، لأنّها كانتْ تدرأُ عن الإسلامِ دخيلَ الغَربِ والغرباءِ.
ونتيجةُ هذا كانَ استحسانُ أمورٍ أو جعلُها مألوفةً للمسلمِ بحكمِ كثرةِ الشيوعِ، وبئسَ الشيوعُ ما يشغلُ المؤمنَ عن لقاءِ ربّهِ، فلا نرى مَن يختلي في الجبلِ أو مكانٍ تطهيرًا لنفسِهِ وانشغالًا بالحبيبِ جلّ جلالُهُ عن سواهُ، إلّا نُدرةً تشبهُ العدمَ، واللهُ المستعانُ.
وأينَ المرشدُ الكاملُ، بل أينَ مَن يصلُحُ للإرشادِ بمعنى التفرُّغِ للعنايةِ بهذا الـمُريدِ المريض؟
كيفَ كانَ الحالُ في عصرِ عزِّ الإسلامِ، والسيّدُ أحمدُ الرفاعيُّ قدّسَ اللهُ سرّهُ العظيمُ لهُ مِائةٌ وثمانونَ ألفَ خليفةٍ في حياتِهِ، وكيفَ الحالُ الآنَ، حتى كلمةُ الخليفةِ قلّتْ خصائصُها مقارنةً بالزمنِ المتقدِّمِ.
ما زلتُ أذكرُ أوّلَ مرةٍ رأيتُ فيها كرامةً، أخذني بكاءٌ شديدٌ جامعٌ لأنواعٍ مِن البكاءِ، بكاءُ الدهشةِ، وبكاءُ كرمِ اللهِ عليّ أنْ يسّرَ لي أن أرى ما يجري على أيدي أحبابِهِ الربّانِيّينَ، وبكاءُ هيبةِ الحضورِ، فأنا أجلسُ على ركبتيّ أمامَ إنسانٍ مثلي شكلًا، لكنْ خصَّهُ اللهُ بمحبّتِهِ وجعلني أرى علاماتِ هذه المحبّةِ، وبكاءُ وصلٍ معَ رسولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم، فأنا في حضرةِ مَن صدقَ في اتباعِ أثرِهِ، في حضرةِ وريثِهِ صلى الله عليه وسلم.
كرامةٌ قلبَت كياني وبدّلَتهُ إلى أحسنَ مِن ذي قبلٍ، لكنْ توالَتِ الكراماتُ وأنا أطوفُ على الأولياءِ، حتى استقرَّ قلبي فصرتُ أرى الكرامةَ وأرى قدرةَ الخالقِ فيها، فانقلبَ البكاءُ إلى إجلالٍ وزيادةِ يقينٍ.
Sunna Files Free Newsletter - اشترك في جريدتنا المجانية
Stay updated with our latest reports, news, designs, and more by subscribing to our newsletter! Delivered straight to your inbox twice a month, our newsletter keeps you in the loop with the most important updates from our website
حسرةً، حتى الأولياءُ بدأ حصادُهُم، والظاهرونَ منهم قِلّةٌ، فكيفَ يصلُ المريدُ إلى خفيٍّ بلا همّةٍ؟ ورحمَ اللهُ مَن قالَ:
تمنّيتُ أنْ أُمسِي فقيهًا مُناظِرًا … بغيرِ عَنَاءٍ، والجنونُ فنونُ
هذا، وهناكَ عواملُ عدّةٌ جعلَتْ أثرَ التصوُّفِ أخفَى ممّا كانَ عليهِ، منها:
-نجاحُ أعداءِ الإسلامِ بدسِّ مشايخَ مِن جلدتِنا ويتكلمونَ بألسنتِنا بالتزيِّي بزِيّنا لخدشِ هذه الصورةِ الطاهرةِ الأنقَى خدشًا مدروسًا بعنايةٍ بالغةٍ.
-ومنها انحرافُ الكثيرينَ من مُدّعِي المشيخةِ، وساعدَهم كثرةُ المالِ والأتباعِ على جهلٍ عمًى بدعوَى التسليمِ التامِّ، ممّا جعلَ الكثيرينَ مِمّن هم خارجَ الدائرةِ إلى الابتعادِ عنها، بل وذمِّ التصوُّفِ وإلصاقِ الخرافاتِ بهِ.
والخلاصةُ هي في كونِ السلوكِ هوَ السلوكُ، كأصلِ الإيمانِ، لا يزيدُ ولا ينقصُ، لكنْ تغيّرَ الناسُ جميعًا، ممّا دفعَ بجماعةِ المشايخِ المباركةِ إلى قبولِ المريضِ على مرضِهِ ومعالجَتِهِ بجرعاتٍ أقلَّ، لمشقّةِ استعدادِ المريدِ إلى التجرُّدِ الكلّيِّ والانقطاعِ إلى اللهِ، حتى قالَ أحدُ الأولياءِ الأكابرِ: (نحنُ لا يأتينا إلّا مَن بصقَهُ البحرُ)، بمعنَى هؤلاءِ الذينَ لا يُطيقُهُم البحرُ ولا يستطيعُ على سَعَتِهِ ابتلاعَهم فيقذفُ بهم إلى خارجِهِ، هؤلاءِ حظُّنا وعلينا علاجُهُم، وقدرُ المعاناةِ أتركُهُ لصاحبِ الفطنةِ.
لكنْ لم يزلِ الصوفيُّ متميِّزًا عن غيرِهِ بنورَينِ، نورِ الاهتداءِ ونورِ الاقتداءِ، وأعني الصادقَ طاهرَ الباطنِ، لا صوفيَّ الظاهرِ بكُبرِ العِمامةٍ وجمالِ المظهرِ، فإنّ عمدةَ الصوفيِّ حديثُ: (إنَّ اللهَ لا ينظُرُ إلى صُوَرِكُم وأموالِكم، ولكنْ ينظرُ إلى قلوبِكُم وأعمالِكُم)، رواهُ ابنُ حِبّانَ وغيرُهُ، نسألُ اللهَ تعالى زيادةً وصحوةً وصدقًا.
سبحانَ ربِّكَ ربِّ العزّةِ عمّا يصِفُونَ وسلامٌ على المرسَلِينَ والحمدُ للهِ ربِّ العالمينَ.